فيصل عبدالحسن : الثورة والشعر جديد علي القاسمي (2-2)

FAISAL ABDO ALHASSAN.JPG (1) (1)ويقول القاسمي عن صديقه شوشة:

” ومثل جميع الشعراء الرومانسيين، فإن فاروق شوشة وحيد كحبة رمل صادية، ظمآن دائم البحث عن نبع الحب الصافي، يحلم بعالم أخضر نديّ، يظلّه الغمام، ويسقيه الغيث، ويحلق فيه اليمام، فيغرّد للحب، الحب بمعناه الوجودي الواسع الذي يهب للحياة مذاقاً ومعنى وغاية، ويتجلى هذا الحب في صورتين في شعره: حب المرأة وحب الوطن.”

قيثارة العراق عاتكة وهبي الخزرجي

لعل أروع فصول الكتاب وجدانية، دراسة المؤلّف عن أستاذته الراحلة الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي، وهي دراسة تتناول حياة الشاعرة: طفولتها، ودراستها في دار المعلمين العالية ببغداد، والتحاقها بجامعة السوربون في فرنسا، وحصولها على الدكتوراه، وعودتها أستاذة في دار المعلمين العالية حيث كان المؤلّف يدرس، وهو فتى، فيقع في حب أستاذته النادرة الحسن، حباً وجدانياً عفيفاً، وعشقاً طاهراً لأخلاقها وقيمها وطيبتها ووطنيتها وشعرها وحسن معاملتها لطلابها. يقول القاسمي:

” كانت الدكتورة عاتكة الخزرجي تجمع في شخصيتها الجميلة بين غنج الفتاة البغدادية المترفة، والأناقة الباريسية الجذّابة، والخُلق الإسلامي المحافظ. كانت في ذروة شبابها لم تتعدَ السنة الحادية والثلاثين من عمرها المبارك، تصفِّف شعرها الفاحم السواد على شكل زهرتي دالية تحتضنان وجهها الصبوح ذا الملامح المليحة المتناسقة الساحرة، الذي تشرق فيه ابتسامتُها الصغيرة الحيَّية المرسومة بعنايةٍ على شفتيْها الحمراويْن المكتنزتيْن. وعندما تكبر ابتسامتها، تكشف عن أسنانٍ لؤلؤيةٍ ناصعة البياض، وتبدو غمّازتان أخّاذتان على الخدَّين الأسيليْن. قوامها لدن رشيق لا يشتكي منه طولٌ ولا قصر، مع بروزٍ ملحوظ في ali alkasimikh ali alkasemi 4صدرها الناهد. تمشي بخطواتٍ رشيقةٍ خفيفةٍ مموسقة كما لو كانت تؤدِّي رقصة الفرح على ألحان شِعرها المنغَّم، ويفوح خلفها عطرُها الباريسي النادر الفريد. في تلك الأيام كان يكفيني أن أقترب من غرفة أساتذة اللغة العربية في بناية دار المعلمين العالية، لأعرف ما إذا كانت الدكتورة عاتكة قد وصلت أم لا ( وفي هذه اللحظات التي أكتب خلالها هذا المقال بالحاسوب في المقهى الشتوية في شارع محمد السادس في مدينة مراكش الرائعة، تناهي إليَّ، على بُعد المسافة، أريجُ عطرك الفوّاح، يا عاتكة، بعد أكثر من خمسين سنة من الفراق).”

أما الدكتورة عاتكة فقد كانت عاشقة للشاعر العباسي، العباس بن الأحنف (103ـــــ192 ه/ 760 ـــ 809م) شاعر هارون الرشيد الذي كان هو الآخر ” من الظرفاء، ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلاً ولم يكن فاسقاً، كان ظاهر النعمة، ملوكي المذهب، شديد الترف” ، كما وصفه المبرد. وقد خصت عاتكة شاعرها المفضل بأطروحتها للدكتوراه بإشراف المستشرق ريجي بلاشير، مترجم معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية، كما حققت ديوانه وكشفت عن سرٍّ لم يُعرف من قبل وهو أن (فوز) التي كان يتغزل بها كثيراً في شعره، اسمٌ مستعار للأميرة العباسية علية بنت المهدي، أخت الخليفة هارون الرشيد، ولم يصرّح باسمها لئلا يسيء إلى سمعتها وما عُرفت به من تديّن وعفة.

وكانت عاتكة ثورية في شعرها خاصة تلك القصائد التي تفضح فيها فساد الحكومات العربية القائمة آنذاك، ما أدى إلى النكبة الفلسطينية. تقول في قصيدة عنوانها ” فلسطين، هيا ثورة عربية”:

إليك عن الشكوى فلسطين إنَّنا نفوسٌ ستحيا أو تكون حطاما…

لقد جمعتنا يا فلسطينُ نكبةٌ كما تجمعُ الأحزانُ شملَ يتامى فلسطين هيــــــا ثورة عربية تصيِّرُ أبـــراج الطــغاة ركاما…atika alkhazraji

الثورة الدلالية في الشعر:

يتطرق المؤلّف في هذا الفصل إلى الثورة التي أحدثها التصوّف في الشعر. فالخطاب الصوفي أغنى اللغة العربية بإكثاره من الإشارة والرمز والتلميح والشطح، ولم تعد اللغة مقتصرة على الكلام والقول. فإذا نظرنا فى بيتي القطب الصوفي أبو بكر الشبلي 247ــــ 334ه/ 861ـــــ 946م): باح مـــجنونُ عامــرٍ بهــــواهُ / وكتمــتُ الهوى فمــتُّ بوجـــدي فإذا كانَ في القيامةِ نودي/ مَن قتيلُ الهوى؟ تقدّمتُ وحدي.

نجد أن الكلمات الاعتيادية (الهوى) و ( الكتمان) و ( الوجد)، مثلاً، لم تُستعمل في دلالاتها المعروفة، وإنما أصبحت هنا مصطلحات صوفية ذات مفاهيم مختلفة. ويبيّن المؤلّف أن الخطاب الصوفي يشوبه الغموض والالتباس والغرابة لسببين:

الأول، عدم وجود علاقة مستقرة بين المصطلح الصوفي ومفهومه، لتعدد المدارس الصوفية. والثاني، لجوء المتصوفة إلى الغموض والتلميح وتجنّب التصريح لسبب من الأسباب، لأن التصوف أمر باطني لا يمكن الوقوف عليه.

ويناقش المؤلّف بعض الأدباء والباحثين الذين يتوسعون في مفهوم التصوف، مثل الدكاترة زكي مبارك، الذي كان يعدّ كلَّ شعر ذا نزعة وجدانية، وكلّ شعر ذا عاطفة صادقة، وكلَّ ممارسة شعرية تنزع إلى المطلق، شعراً صوفياً، وهكذا خلط بين الشعر الصوفي والشعر العذري من جهة، وبين الشعر الصوفي والشعر الرومانسي من جهة أخرى. أما القاسمي فيضع خصائص محددة ينبغي توافرها في القصيدة كيما تنتمي للشعر الصوفي، وأهم هذه الخصائص:

أولاً، قدسيّة المحبوب:

يساعدنا هذا المعيار على التفريق بين الشعر العذريّ والشعر الصوفيّ، فإذا كان الشعر العذريُّ يتَّفق مع الشعر الصوفي في صدق العاطفة اتجاه المحبوب، والإخلاص له وحده، والاستعداد للتضحية بالنفس من أجله، والفناء فيه، فإنّهما يختلفان في نوع هذا المحبوب. فالشعر العذري يتعلَّق بكائن بشريٍّ فانٍ، امرأة كان أو رجلاً. أمّا الشعر الصوفي فيتعلَّق بذاتٍ مقدَّسة وبالتحديد الذات الإلهية أو الرسول محمد صلى الله عليه وآله واصحابه وسلم.

ثانياً، قصديّة القصيدة:

تتّسم القصيدة الصوفيّة بقصدٍ محدَّد هو تمجيد الذات الإلهيّة أو مدح الرسول صلى الله عليه وآله واصحابه وسلم، وإظهار حبّ الشاعر وإخلاصه وتفانيه في حبّهما. أمّا إذا كان الغرض من القصيدة تمجيد المكان أو الزمان أو التأمل في الوجود الإنسانيّ أو جمال الطبيعة، فهي لا تُعدّ من الشعر الصوفي، بل من الشعر الرومانسي أو غير ذلك، ولكنّها ليست من الشعر الصوفي بالتأكيد لاختلاف القصد.

ثالثاً، اللغة الإشارية:

تُعرَّف اللغة، عادةً، بأنها “أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم”. بَيد أنّ الصوفيّ يستخدم اللغة للتعبير عن حالاته المختلفة، وهي حالات ليست من الأغراض التي تعارف عليها القوم ولا تنتمي إلى واقعهم. فالصوفيّ بين حضورٍ وغياب، بين اتِّصالٍ وانفصال، بين صحوٍ وسكر، فهو دائم التنقُّل بين عالم الشهادة وعالم الغيب. فإذا انفصل عن العالم الواقعيّ الذي نعرفه وخرج عن نفسه، وارتقى في مدارج الصعود، ودخل عالم الحقيقة المطلقة، فإنّه لا يستطيع أن يصف تجربته تلك بلغتنا الاعتياديّة الصالحة لعالمنا الواقعي التي تحكمها قواعد المنطق، وقواعد النظم والبلاغة، وقواعد علم الدلالة. وإذا اضطر الصوفيّ إلى استخدام هذه اللغة فإنّه مضطرٌ إلى تجاوز تلك القواعد وتحطيم العلاقة القائمة بين الألفاظ ومعانيها المعتادة وجعلِ تلك الألفاظ تشير إلى مدلولاتٍ جديدة. فكما تنفصل روحُه عن جسده، فإنّ لفظه ينفصل عن معناه المتعارف عليه لتحلَّ فيه إشاراتٌ ودلالاتٌ لم نألفْها من قبل.”

سميح القاسم شاعر الثورة والمقاومة الفلسطينية:

أن النكبة الفلسطينية أثــَّرت في نفوس الشعراء الشباب أينما كانوا في الوطن العربي، فأصبحت عقولهم تتأجج رفضاً للأنظمة البالية، وغدا وجدانهم يتطاير تمرداً وثورة، وهم يستمعون إلى الإعلام العربي الرسمي الزاخر بألفاظ رنانة محنّطة في قوالب البلاغة القديمة، فانبروا يبحثون عن قوالب شعرية جديدة وأساليب حديثة تتسع لأفكارهم الثورية وتحل محل الأوزان الخليلية التي أمست مستهلكة، ولم تعد مؤثرة فاعلة في وعي المتلقي ووجدانه. ومن هنا ظهرت حركة الشعر الحر أو شعر التفعيلة في أواخر الأربعينيات على يد ثلاثة من طلاب دار المعلمين العالية في بغداد: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. وسرعان ما تلقفها وطوّرها نزار قباني في سوريا وصلاح عبد الصبور في مصر، وشعراء المقاومة في فلسطين، ومليكة العاصمي في المغرب وغيرهم كثير.samih alkasem 1

فحركة الشعر الحر لم تكن مصادفة زمانية، بل تفاعل عاطفي عميق مع نكبة فلسطين التي فجّرت إرادة الفعل الثوري في وجدان الشعراء الشباب، وهكذا نزل الشعر العربي من عليائه وعزلته، وتنسكه وتصوفه، ليختلط بالجماهير العريضة التي أصابها الضيم، فيعبّر عن وجدانها وضميرها وينشد معها أحزانها ومرثيات شهدائها، ويحوّل الكلمة إلى رصاصة مارقة، والعبارة إلى مشعل متأجج. الشعراء مُخْلِصُون لحبيباتهم الخائنات دائماً، إذا افترضنا أن كل ثورة هي حبيبة تسمح باعتلائها من قبل مجموعة من الأنتهازيين بعد أنتصارها، ليجنوا فوائدها، وينالوا المناصب الرفيعة والثروات والشهرة الواسعة، ولا يبقى لشعرائها غير شعرهم الذي قيل فيها.

يقول سميح القاسم:

“أنا قبل قرونْ/ ما كنتُ سوى شاعرْ/ في حلقات الصوفيينْ/ لكني بركان ثائرْ/ في القرن العشرينْ/…” كتب القاسمي هذه الدراسة بمناسبة رحيل الشاعر سميح القاسم في آب سنة 2014 ليُرفع نعشه على أكتاف فتيان قرية الرامة الفلسطينية ( أراضي (1948 وشيوخها ومعهم أولاده الأربعة: وطن ووضاح وعمر وياسر، وتسير خلف نعشه، صبايا البلدة ونساؤها وهن يزغردن وينشدن قصيدته التي لحَّنها وغنّاها الفنّان اللبناني المتميِّز، مارسيل خليفة:

“مُنتصبَ القامة.. أمشي / مرفوعَ الهامةِ .. أمشي/ في كفي .. قفصةُ زيتونٍ وحمامه/ وعلى كتفي.. نعشي/ وأنا أمشي./ قلبي قمرٌ أحمر ../ قلبي بُستان ../ فيه العوسج، فيه الريحان/ شفتاي .. سماءٌ تمطر/ ناراً حيناً، حُباً أحيان…”

وبيّن القاسمي في دراسته أن لأسرة الشاعر تاريخ عريق في النضال والثقافة معاً. فجده الأعلى خير محمد الحسين كان قد قِدم من شبه جزيرة العرب في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي إلى فلسطين لمحاربة الصليبيين، واستقرَّ على سفح جبل حيدر، وما زال المكان الذي نزل فيه يسمى بتلة خير. يقول سميح القاسم:

“جعلتْني ابنها من قرون/ أرضعتني البقاء/ دفَّقت في عروقي الدماء/ وهي شاءت فكنتُ/ كما آمنتْ أن أكون/ وهي شاءت، فكان الكتاب/ نعمةً في يديَّ…/” وقد ورث الشاعر سميح القاسم شجاعة آبائه ونضالهم وتعلقهم بالثقافة والمعرفة. فمنذ شبابه، عُرِف بكونه أحد أعلام شعر الثورة والمقاومة الثلاثة الذين بزغوا في الستينيات داخل فلسطين المحتلة (أراضي 1948): توفيق زياد ( 1929 ـــ 1994) ومحمود درويش ( 1941ـــ 2008) وسميح. يُضاف إليهم كاتب صحفي هو أميل حبيبي (1921 ـــ 1996) صاحب رواية ” المتشائل” الذي أوصى أن يُكتب على قبره ” باقٍ في حيفا”.

عُرِف الشعراء الفلسطينيون الثلاثة، زياد ودرويش والقاسم، باسم شعراء الثورة والمقاومة، خاصة بعد انطلاق حركة الفدائيين أوائل سنة 1965 وبعد هزيمة العرب عام 1967 فبعثت أشعارهم بصيصَ أملٍ في النفوس الكسيرة، وأعادت بعض الكبرياء والنخوة إلى وجدان الصقر العربي الجريح، وألهمت فدائيين كثيرين، وأشعلت الحماس في نفوس العديد من الشبان الفلسطينيين والعرب للانخراط في حركة المقاومة وصفوف الفدائيين . تعرَّض سميح القاسم لحقد السلطات الإسرائيلية وقسوتها بسبب نشاطه الأدبي والسياسي الفلسطيني العربي، واعتُقل أكثر من مرة، ووضع رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنزلي، وواجه تهديدات بالاغتيال في الوطن وخارجه. ومن داخل المعتقل كان يبعث برسائله الشعرية إلى الأصدقاء:

“ليس لديَّ ورقٌ، ولا قلم/ لكنني، من شدّةِ الحرِّ، ومن مرارة الألم/ يا أصدقائي .. لم أنَم.” لسميح القاسم أكثر من 50 كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة. وتُرجِم كثير من أعماله الشعرية إلى أزيد من عشرين لغة عالمية.

زهرة الزيراوي مبدعة استثنائية

يكرّس القاسمي الفصل الأخير من كتابه للمبدعة المغربية الرائدة زهرة الزيراوي، صاحبة صالون أدبي معروف في الدار البيضاء، فيقول عنها أنها إنسانة استثنائية ورثت الفضيلة والكرم والصدق والتواضع وحبَّ الوطن من آبائها الأماجد؛ وحملت عصاها وحيدة، في رحلة البحث عن جوهر الإنسان وأسرار تعلُّقه بالحقِّ والخير والجمال، وسافرت في أقانيم الفكر القصية تاريخاً وفلسفة وعلماً، وتجوّلت في تخوم الإبداع الدنية شعراً وقصة ورواية وتشكيلاً. فرشاتها امتدادٌ لذراعها، وقلمها يتجذّر في فكرها، وحروفها تجري في عروقها وملامسها. زهرة الزيراوي مسكونةٌ بمحبّة الإنسان، وعشق الأفكار، ما جعلها تجيد التواصل مع الآخر، وتمتهن التعليم، وتتقن لغة الحوار. وفي بحثها الدائب عن المعرفة، شغفت في ارتياد جميع مظانها: المدرسة، المكتبة، النادي، المنزل. فجعلت من دارها ملتقىً لعشاق الكلمة، وشبكت يديها بأيدي محبِّي الفنون من أصدقائها، وأنشأت جمعية ( ملتقى الفنّ)، ولأنَّ زهرة الزيراوي مناضلةٌ لا تلين لها قناة، ولا يتسرَّب اليأس والخذلان إلى نفـــــــــسها، وتؤمن بأن ليل الانكسارات والأحزان والأشجان لا بدَّ أن ينجلي، وأنها ستنشر آمالها وتطلعاتها على وجنة الصبح، فقد أبدعت روايتها ” الفردوس البعيد”.zahra alzairawi

وتناول القاسمي بالتحليل ديوانها الأخير وعنوانه ” ولأني…” فيقول أوَّل ما يصدم نظرنا ويأسر انتباهنا في هذا الديوان، عتبته الأولى وأعني بها العنوان. “

ولأني…”. فالقارئ يتساءل: ” ماذا قبل واو العطف؟ وماذا بعد ياء المتكلمة؟”. فالمعنى لا يتحقّق بهذا العنوان الذي لا يشكِّل جملةً مفيدة ولا اسماً يدل على مسمى. إنه مجرَّد أداة لا يتمُّ معناها إلا بغيرها، فهي أداة تعليل تربط المسبب بالسبب. ويبقى القارئ يتساءل: ماذا حدث لها ولماذا؟ ولا بدَّ أنَّ هذا العمل الفنّيَّ سيفصح لنا عن الحالة التي حصلت للشاعرة، والأسباب التي أدَّت إليها. ويلاحظ المؤلّف أن الشاعر لا يبلغ لحظةَ التوهُّج وبزوغ القصيدة إلا عندما تتراكم في حنايا الروح موجاتٌ نفسيةٌ من القلق والتوتُّر والانفعال، تؤدّي الى حالة الاشتعال. ومصدر هذه الموجات النفسية إما الهمُّ الذاتي أو الهمُّ الجماعي. وديوان ” ولأني ..” يجمع بين الهمَّين: الشخصي والوطني. وشعر زهرة الزيراوي ساحةٌ لاشتباكٍ حميمٍ بين الشخصي والسياسي، بين البوح المتكتِّم والمواقف الفكرية المعلنة.

فزهرة الزيراوي، في هذا الديوان، هي شهرزاد التي تعيش على البوح وتحيا به، هي شاعرة أتعب قلبها السفر، وعذَّبه الحبُّ، وأحرقته الذكريات. يحاول أن يغسل الماضي بخمر النسيان، فتسهِّده الرؤى، وتعصف به أسئلة الريح:

” “تتداعى الجدران التي أمامه/ تتداعى الشجرة التي في خياله/ يرى سبابته إذ ترسم قلبيْن/ وغاباتٍ من الورد،/ يراها إذ تمدُّ ذراعيْها نحوه/ هامسة ً تسأله/ أما تزالُ ترغبُ أن تحيا؟؟/”

وزهرة الزيراوي، في هذا الديوان كذلك، هي زرقاء اليمامة التي تنظر بعيداً لترى مستقبل أُمّتها في ضوء ماضيها ونيران حاضرها؛ هي شاعرة ورثت روحاً نضالية، لا تستسلم لليل الدامس الظلمة الذي يخيم على الأرض، بل ترنو دوماً إلى مشرق الصبح المنير. فتكتب قصائدها لتقارع الظلام كي يزهر الصباح. تكتب تميمةً ضد الحزن هنا، وتصوغ حجاباً ضد الفقر هناك، وتصنع تعويذة ضد الجهل في كلِّ مكان. ترى أُمّتها يشيخ قلبها، وتيبس أطرافها، فتمدّ يد المواساة لها، تمسح القلب المنهك، وتنفخ فيه شيئاً من نفَسها المتوهِّج، لعلَّها تدفئ الوديان الباردة، فتفيض بالماء والحياة، ويلتهب الصقيع:

“”أنا الأندلسي/ أدخل بحار التاريخ/ أقف على عكّاز الليلِ شاهراً ندوبي/ أرى ما تناثر من دمِ الفؤاد/ وفرشاتي التي اكتهلت/ تصوغ ضرباتها ظلمة المساء/ وتمنح الهواء لونه القرمزي/ دعيني قرطبة/ أنقر قلبك العاتب وأغشاه/ دعيني أُلبِس وريدك لوعة الشوق/ عساني أغسل القلب/ وأنفخ فيه روح عاشق كي تدفأ أوصالك./”ولغة هذا الديوان لغةٌ بسيطة تتَّسم بالوضوح على مستوى التراكيب والمفردات، ولكنها موغلة في التعقيد على مستوى المعاني والدلالات:

“أيتها الأرض/ يا روضة الريح والريحان/ والرجال والنبوءات والأساطير/ قولي للتاريخ الممعن في قسوته:/ أجبني أيها التاريخ/ ماذا أنتَ فاعلٌ بالقتلة؟؟/”

كاتب عراقي يقيم في المغرب

faisal53hasan@yahoo.com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زكي الجابر : تقديم لكتاب: التصوير والخطاب البصري “تمهيد أولي في البنية والقراءة” * لمحمد الهجابي.

كان ذلك الصباح مشرقاً سعيداً حين جلس محمد الهجابي على مقربة مني.. ودار ثمة حديث …

| الحسين بوخرطة : أدب العلامة وأضواء الأمل  قراءة في كتاب د. طلال الطاهر قطبي بشير تحت عنوان “دراسات في أدب الدكتور علي القاسمي”.

هذا الكتاب الشيق صدر بطبعته الأولى سنة 2022 عن دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع بالخرطوم …

4 تعليقات

  1. كمال لعناني

    مبارك لأستاذنا العالم الجليل الدكتور علي القاسمي، بمناسبة صدور كتابه المميّز “الشعر والثورة””، كما أشكره على بحثه الدائم والمتواصل، ليتألق في كل مجالات العلم (ترجمة/كتابة الرواية/القصة/ علم المصطلح والمعجميّة/التنمية البشرية/الشعر/النقد/قضايا السياسة وكل المجالات الأخرى…) وبتالي يستحق وسام الباحث العربي المتميز على علمه الغزير وموهبته الفائقة/فشكرا لكم أستاذي الدكتور علي القاسمي على جهودكم وما أحوج الأمة العربيّة لأمثالكم. كما أشكر الأستاذ الدكتور فيصل عبد الحسن على دراسته القيّمة للكتاب وتحليله الرصين.

  2. فيصل عبدالحسن

    الأخ الأستاذ كمال لعناني شكرا لك كلماتك الطيبة بحق العلامة د. علي القاسمي، الذي أنار دروب المعرفة وأضاف الكثير من إبداعه المتميز للمكتبة العربية … وشكرا لك عن ما تفضلت به من تعليق حول جهودي المتواضعة، فلم أكن سوى قطعة مرايا متشظية عكست بعض ضياء ما جاء في كتاب الشعر والثورة للقاسمي …

  3. زهرة زيراوي

    لست أدري كيف أصوغ شكري و امتناني للأديب الدكتور السيد علي القاسمي ، لقد وهب نفسه لعوالم البحث الدأوب و الكتابة
    و شكرا للأديب المراوح بين النص الإبداعي و الإعلام
    شكرا لأبناء بيت الحكمة لقد أخلصوا لتاريخ حضارتهم التاريخ العظيم

  4. فيصل عبدالحسن

    شكرا لك عزيزتي الأديبة الكبيرة زهرة زيراوي وهذا بعض من ادبك وخلقك الرائع أشكرك نيابة عن نفسي وعن العلامة الدكتور علي القاسمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *