خضر عواد الخزاعي : الاستخدمات المبكرة لتقانة السرد/ الخطاب- الإزاحة- التورية. (الجزء الثاني) قصة “أمنية قرد” في مجموعة المملكة السوداء

khudr awad 3بوقت مبكر وبوعي متقدم، يتعامل القاص الشاب محمد خضير في منتصف الستينيات، من القرن المنصرم، مع ال “Tabu” ، تابواهات فراديس الكتابة الثلاث، الدين – المرأة – السياسة، وما تحمله كل واحدة من هذه التفاحات الآدَميّة، من حمولات خطيرة على مستويات/الوعي- الشخصية- المصير/.ليس في قانون السلطة فقط، بل وفي ما اتفق عليه من أعراف مجتمعية.الدين/المقدس. المرأة /المدنس. السياسة /المحرم والمميت.
ففي بوتقة هذه المحاذير الثلاث، تشكلت أولى براعم الثقافة الشرقية الروحية. على ضفاف نهري دجلة والفرات، ونهر النيل، ونهر الغانج، ونهر اليانغستي. والتي وجدت نفسها وبعد الاف السنين، تستقر والى الابد في أتون } بيت السلطة{ ممثِلاً}لأبوّة الدولة{،المفرطة في ساديّتها، حامية لها، مُشرعنة لقوانينها/الدساتير. ولتفادي الانزلاق في متهات المهاد المرصودة بعيون السلطة/مقص الرقيب+ تقريره السري/والذي يقود في الغالب، إلى زنزانة ضيقة أو انفرادية، أو مصير مجهول،يعمد القاص محمد خضير الى استخدام اسلوب “الإزاحة” تارة، و”التورية” تارة أخرى، مع اعتماد خطاب سردي بلاغي، محايث لثيمات Motif النص.الاضطراب النفسي” “Neurastheniaالنوراستينيا، الذي كانت تعاني منه الفتاتان، في مماحكة هذه المحرمات الثلاث، في قصته الثانية”أمنية قرد”،في مجموعة”المملكة السوداء”. كتقانة مُستحدثة بالنسبة الى جيله، أو مايسميه رولان بارت “تقانة فن تنويع المبتذل” للتعبير عن الممنوع بلغة المباح،واستخدام الإزاحة لإسقاط المحرم في جنس المرأة/المُدَنس.على بهيمية القرد/المنجس،كما في”وتأملت الفتاة عينيّ القرد الصغيرتين وهما تلتمعان بنظرة حيوانية ثابتة، تُوهم، على هذا البعد، بالانخذال والرعب، غير أنها نظرة مسيطرة، فامتزجا معاً”. في هذا النص أيضاً، يكون لب اشتغال القاص محمد خضير، ونستعير هنا مفردة “الاشتغال” كمصطلح إجرائي، يعرفه الناقد المغربي محمد عزالدين التازي “الوعي بكتابة نص بالغ التركيب” .حيث يقوم بتحويل الكامن من اللاشعور الى مرئي، من خلال خلق مستويات شعورية، داخلية وخارجية، يتم فيها استدراج ما يختلج في روح الفتاتان بطريقة متعاكسة، من الداخل الى الخارج، وأقرب مثال الى ذلك، هو ذلك الوصف الدقيق الذي خصّ به القاص محمد خضير، السلم المُثَـلم باتجاهه النازل من الأعلى للأسفل، لينتهي حيث الظلمة/العدم، وهي إشارة آيروتيكية سيميائية، استخدمها الكاتب للدلالة على الحيز الذي يتخذه العضو الذكوري كرمز جنسي phallus مقارب لما يمثله الشكل الهندسي للسلم،”حيث تتسلسل في الهبوط الحواف الثلمة لدرجات السلم الحجرية وتغيب في القعر المعتم في الأسفل”. ليفسح المجال للإنزياح النفسي، الذي كان يهَوّم في وجدان الفتاتان،وإن كان في “فتاة النافذة” يبدو أكثر وضوحاً، لأنها أولاً:أعطت الايحاء، بحاجتها الماسة الى لحظة اندهاش، تقتلعها من وهدة اللامبالاة التي تغلف حواسها، وثانياً: باندماجها الكلي من خلال ما اتخذته من وضع جنيني في جلوسها عند رأس السلم”جلست الفتاة الملتفعة بالغطاء على الدرجة العليا من السلم،وزادت في تغطية جسدها ويديها وكوّرت اطراف الغطاء في حجرها، وأطبقت قدميها في نعليها.كان شعرها غير مرتب”. فالأفعال/ زادت:تفيد الزيادة والاضافة والتضاعف.وكوّرت:تفيد اللف والإدخال والتكوير.وأطبقت:تفيد الاجتماع والانقضاض والهجوم .وكل هذه الأفعال ترجمت، لحظات حسيّة نوراستينيّا. موغلة في تقصّيها للأبعاد النفسية، التي كانت عليها فتاة النافذة، وقت جلوسها على رأس السلم ومراقبتها لانحدارالسلم الشاقولي نحو الاسفل.mohamad khdier 8
وكون حواف درجات السلم مثلمة، فذلك للدلالة على التشوش الذهني، الذي كانت تعاني منه الفتاة، في تصورها للشكل المغاير، الذي يجب أن يكون عليه الرمز الذكوري، وهي في حالة من الإنكسار، لما كانت تمر به من هيمنة ما يسميه فرويد في علم النفس “libido” الليبيدو، أي محاولتها انتزاع ثيمة، ولو مؤقته لانتشاء غرائزها الجنسية الحبيسة، في سن هي أحوج ماتكون فيه، الى إشباع تلك الحاجات الضرورية وتنميتها.
وفي سرد شكلاني لطريقة وقوف الفتاتين على رأس السلم، في بداية الصباح. تأخذ فيه”الآيروتيكية”منحى محايث للشكل الهندسي للسلم،في انحداره العميق”توقفت الفتاتان،العاملتان في أحد معامل الخياطة، عند رأس السلم”. يحاول القاص في هذا المقطع، انتزاع الصورة من كنهتها المادية، كرمز معماري. الى مستوى متقدم من الإنزياح المعرفي، يعمل على خلخلة نُظم الصورة، من حالة شاخصة للسلم كبناء هندسي، وظيفته المعمارية، واصلة للربط بين مستويين متتاليين،إلى حالة مُتَخَيّلة، صورة العضو الذكوري، كعضو بايلوجي، يكون وضع الفتاتان فيه وهما تقفان في أعلاه وليس في أسفله، انعكاس تنشازي للحرمان الذي تعاني منه الفتاتين.
يأخذ الحوار بين الفتاتان، وبين فتاة النافذة والغجري، حيزاً كبيراً من مساحة النص، وفي كِلا المستويين من الحوار، عمد القاص إلى صياغة الخطاب بطريقة غير مباشرة، أي عن بعد، وعدم الإشارة الى خاصية الاداء الصوتي، كدال لساني يحفظ الخطاب من الانزلاق نحو جادة التأويل، التي يمكن للقاريء أو الناقد أن يُحمّلها للفظة المنطوقة، وهو في هذا المجال لا يعمد الى الحد من عناصر الاتصال المهيمنة،التي تظهر أكثر وضوحاً في الكلام المحكي، كما يصفها جاكوبسن، بل يترك للخطاب المكتوب، إمكانية خلق مرجعيات تناسب اللحظة التي يتم فيها التخاطب.
ففي الحالة الأولى تكون الفتاة الأولى في الحمام، وهيّ تغتسل، وتكون في حالة انتشاء، تغلفها بالرغبة للخروج الى السوق، بينما فتاة النافذة تجلس على رأس السلم، في حالة أسوء ماتكون عليه من السأم، ويكون الصوت بينهما متباعدا. وغير مسموع، في بعض مراحل الحوار، وفي المحاورة الثانية يكون الحوار عبر النافذة، بين فتاة النافذة والغجري، وفي هذه التقانة السردية، ومع وجود صوت السارد العليم، بضمير الغائب، مراقباً ومستدركاً لحيثيات المحاورة، يحاول الكاتب صياغة نوع من الإيهام عبر خطاب سردي، يستجلي ما تستشعر به الفتاتان، من هواجس، هيّ خليط بين النفسي والغرائزي، حين تسأل الفتاة الأولى فتاة النافذة “مابك؟إرفعي صوتك!؟” فتجيبها فتاة النافذة، الأكثر اضطراباً وغموضاً ” إني أحس بآلام” مع كل إحساسها بالعزلة والضيق، وعدم رغبتها في انتزاع نفسها مما هي عليه ومغادرة البيت، ولمنح الفتاة اليائسة الشعور بالتضامن تستدرك الفتاة الأولى “مرمر!كفي عن الشكوى..جسدي أنا أيضاً، ماذا تظنين؟” kh mohamad khdier 3لينتقل الحوار بينهما بعد ذلك، الى مستوى متدرج من الحميمية، بعد أن تجاوزتا الفاصلة النفسية، التي كانت تقف بينهما،حيث تبادر فتاة النافذة بسؤال رفيقتها”أنتِ ترتعشين.هل الحمام بارد؟”فتجيبها رفيقتها بأريحية واضحة”كلا.كلا.إني ساخنة.والماء ساخن”فتلتزم فتاة النافذة الصمت، دون تعليق من السارد العليم. الذي كان يدير المحادثة بمهنية المُدرك للخفايا، التي كانت تبطنها الفتاتان، ولا تُصرّحان بها إلا من خلال مفردات وجُمل مشفرة،تجيدان صياغتها والالتفاف عليها،حين تسأل الفتاة الأولى:”هل بدأتِ تموتين؟”وكأن هذا الاستدراك الذي جاء في غير وقته، حيث فتاة النافذة مُستغرقة في تَخيّل رفيقتها الساخنة وسط ظلمة الحمام، قد أصاب فتاة النافذة في صميم نشوتها،”إني أسمعك لاتصرخي” مع عدم وجود أي إشارة لصراخ الفتاة الأولى، غير حديثها اليومي المستهلك عن معاناتها اليومية، في عملها، وحاجتها الى الراحة، ومع تعمد القاص على صياغة حديثها التالي بطريقة “منولوجية”،”هل يظهر كل شيء حولي حقيقياً؟إني أتسائل ماذا سيحدث لي بالضبط …” ويستمر هذا الحوار بهذه الكيفية التي كانت تقودها في الغالب الفتاة الأولى، كونها كانت الأكثر تمتعاً بروح المبادرة والسيطرة، من خلال صراخها المتكرر في المحادثة، حتى يتوج بالمشهد الختامي، الذي تستسلم به فتاة النافذة تماما، وهي منسحقة بالرغبة الكامنة في أعماقها، والتي عبّرت عنها، في حواريتها مع رفيقتها”أنتِ قاسية في كلامك معي كالعادة”. وبعد ذلك يتم الانتقال الى مستوى آخر من الخطاب، بين فتاة النافذة والغجري،أقرب مايكون الى العرض المسرحي، الذي يقوم به القرد، تتشاطره الصورة والحوار، ولن يكون فيه عنصر التخاطب، إلا مفردات رمزية، مُغرقة في الحسية، }إنه بائس الان – هل هو مريض؟ – له رغبات وأمنيات تضايق أكثر النفوس رقةً وسخاء – أمنيات سخيفة لاتطاق – أمنيات طريفة{.وهيّ مقاربات لشحنات Telepathy تنبعث من عَينيّ كائن متوحد/القرد. قرأت بعمق، قلق وفداحة الرغبة الجامحة، في عَينيّ الطرف المقابل/فتاة النافذة.والذي حفز في نفسها كل الرغبات الكامنة، لتستلم لسريرها المشوش”فاستلقت عليه بانتظار هجوم الخيول، التي تقبل من الحائط، مسرعةً نحوها”.وكانت القصدية من ابعاد الحوار عن المباشرة وتجريد الخطاب السردي من كل مقومات المخاطبة الحوارية/أصوات – ملفوظات – مخارج الحروف/ هو منحها هذه الإفاضة من فعل الإنزياح، أو ما يسميه تزفيتيان تودوروف التحفيزMotivationأو التحفيز الفني، الذي يؤدي الى نزع الألفة ويُسوّغ متطلبات البنية الفنية .القائمة على خلق معنى، موازي لحالة المُخاطب وليس الخطاب نفسه، وهذا يدخل ضمن تعددية القراءة، التي يمنحها النص السردي للقاريء والناقد، الذي لاينشد المتعة من تناول النص، بقدر اهتمامه ببلوغ اكتشافات مضافة في بنية النص، تحقق الذائقة الجمالية، والمعرفة في نفس الوقت، وهذا لا يتأتى إلا الى القلة القليلة من الكتاب، على شاكلة القاص محمد خضير.
هوامش :

(1) رولان بارت – النقد البنيوي للحكاية – ص17.
(2) د.محمد عزالدين التازي – التجريب الروائي وتشكيل خطاب روائي عربي جديد – ص3.
(3) رمز للقضيب في الحضارات القديمة المصرية واليونانية حيث كانت تقام له الاحتفالات في معابد باخوس.
(4) معجم المعاني الجامع والمعجم الوسيط.
(5) سيغموند فرويد – الحياة الجنسية – ص153.
(6) تزفيتان تودوروف – القصة الرواية المؤلف – ص80.

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *