صدر في بغداد كتاب جديد للكاتب و القاص سعد محمد رحيم بعنوان (روافد التنوير و النهضة). و هو مثل غيره يشير لدور الصف الأول من الرواد و بالأخص الأفغاني و محمد عبده و يضيف إليهما علي الوردي. الامتداد الموضوعي لابن خلدون. و يهتم بالجانب الأدبي أكثر من الاجتماعي لذلك استهل كتابه بدور الشعر في العراق بتجديد العاطفة العربية و ليس العقل ذاته.
لذلك كان الكتاب تأريخيا بالأساس، وإن ناقش هذا التاريخ وحاوره، واقترح أحيانا بعض الحلول لتجاوز أزمة النهضة ومعضلة التنوير.
مع التأكيد أنه يهتم بالخصوص بتاريخ النهضة في العراق، دون إهمال التأثيرات المصرية و دور العقاد و طه حسين فيها.
ولكن مشكلة النهضة تهم أي مواطن ومثقف عربي لذلك أسمح لنفسي بتقديم هذي الملاحظات:
1- يبقى السؤال المحير الذي يعبر كامل الكتاب، بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة: لماذا إستطاع الغرب أن يفيق من سبات عميق، في حين لم يستطيع العرب ذلك رغم أنه يتكئ على تاريخ وحضارة قدمت للغرب والشرق ما قدمت في فترة ليست بالبعيدة.
ربما لأن الحماس والحنين طغيا عوض الرؤية العقلانية كما يقول سعد رحيم (ص. 47).
ولكن ماذا ننتظر من النهضة وماهي أهدافها. ربما ما ننتظره هو أن تنتج ثقافة تؤثر في الثقافات الأخرى، وهنا نقارن طبعاً بما وصل إليه الغرب من تأثير في التاريخ في القرون الأخيرة. غير اننا عندما نقارن بين الشرق والغرب فكأنما نقارن بين مولود جديد مفعم بالحياة، محكوم عليه بأن يتطور وينمو، و بين جسد ميت (بمفهوم إبن خلدون) لا يمكن أن تبعث فيه الحياة من جديد، ولا يمكن أن تكون طموحاته نفس طموحات الجسد الحي. ربما كانت انتظاراتنا من النهضة مجرد أوهام، ولربما يجب علينا أن نراجع هذه الانتظارات بحسب قدراتنا.
إنه لوهم أن نظن اننا قادرون بما نملكه من ثروات أن نحقق النهضة.
فنحن مجرد جسد ميت، إكتشف أن جثته ذهبية، لكنه ينام على ركام من التناحرات الإجتماعية، والفقر المدقع، والتخلف التعليمي والثقافي والخرافي. ولا نزال نذبح من يرفضون تقديم الأضاحي. لذلك لن تنفعه الثروات مهما تراكمت. وفي المقابل هنالك جسدٌ مفعم بالحياة، له إستراتيجية واطماع ليظل حياً وقوياً.
في اعتقادي أنه لا يمكن أن نقيّم ما ننتظره من النهضة، ولا يمكن أن نحاسب السياسيين والمثقفين على مدى نجاح مشروع النهضة، إلا بمؤشرات علمية جافة، بعيدة عن العواطف، مثل أمل الحياة عند الولادة، ونسبة التعلم، وكمية البحوث المنشورة، وترتيب جامعاتنا. أما موقع نهضتنا بين الشعوب فلا يمكن أن يقيّم إلا لاحقاً، ولربما بعد قرون. وكل طموحات أخرى هي أكبر منا ولم تتوفر الشروط بعد لتحقيقها.
2- ركز الكتاب على الظواهر الكبرى في التنوير و لا سيما مشروعات الإصلاح الهجينة التي تضع الدين بجانب السياسة، والواقع بجانب الأسطورة (ص71)، ولكنه لم يتعرض للصراع العربي الإسرائيلي ومدى تأثيره في كبح أو انزياح فكر النهضة. فنحن لا يمكننا الحديث عن الحرية في مجتمع مشلول ، يواجه تحديات جماعية وقومية ” على الأفراد أن يذوبوا فيها” كما تعلل البعض. ولا شك أن ذلك قد أثر أيضاً في صعود الفكر الراديكالي الديني، كما أثر في وعي المواطن العربي ومختلف الايديولوجيات التي ذكرها.
3- و لكن في فصل الايديولوجيات القومية و في معرض كلامه عن عفلق و الحصري(ص71) قدم المؤلف تحليلاً شافياً لأسباب فشل هذه الايديولوجيات وبلور في خاتمة الفصل بعض الحلول للخروج من هذا الفشل. غير أنه لم يذكر أن عديدا من الايديولوجيات في العالم فشلت أيضاً. وكان لابد من الإشارة إلى “نهاية تاريخ ” هذه الايديولوجيات وإلى كتاب نهاية التاريخ لفوكوياما. فموت النظريات الشيوعية ودفن حلف وارسو جزء من احتضار الفكر القومي بشعاراته الجوفاء و غير القابلة للتطبيق.
4- كذلك لم يتعرض الكاتب إلى تاريخ و إنجازات الحركة النسائية في الوطن العربي ومدى تأثيرها في تقوية مناعة بعض المجتمعات العربية ضد الفكر الظلامي. والكل يعرف أن سقوط حزب النهضة في تونس كانت سببه النساء. فنساء تونس صرن نساء ونصف (كما قال الشاعر الصغير أولاد أحمد) ، و قد لعب كتاب الطاهر الحداد “امرأتنا في الشريعة والمجتع” الذي اعتمده بورقيبة في اصلاحاته دورا هاما في نهضة تونس. و كان للمرأة دور تنويري لا يمكن إنكاره منذ القرن التاسع عشر في كتابات أحمد إبن أبي ضياف.
كان بمقدور الكاتب توسيع أطروحته و لم شمل المشروع الواحد بإلقاء مزيد من الإضاءة على دور شمال إفريقيا في التنوير المبكر و على أسبقيتها بالتواصل مع الحضارة الغربية، فهي التي فجرت رغبتنا في الإصلاح و ساعدت عليها.
و مع ذلك مثل هذه الفراغات لا تلغي أهمية الكتاب في سرد مخاضنا الشاق مع النهضة.
محمد نجيب بوجناح/ تونس