إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.
المقالة :
الإحساس بأن ّ العالم ملوث , وبأن الخراب يعم كل ّشيء , وبأننا عاجزون على أن نفعل شيئا ً جميلا ًوسط هذا الخراب الشامل أحساس ليس بالجديد لدى الأدباء في العالم أجمع , وقديم قدم الحضارة , فقد أحس الشعراء منذ فجر الحضارة بمثل هذا لإحساس , ورأوا في عصرهم الزمان المعادي للإنسان , وأن عصر الإنسان الذهبي قد مضى ولن يعود .
ولكن ما هو الجديد إذن … ؟ .
الجديد أن يتطابق الإحساس هذا مع وضع الإنسان الجديد أولا ً, أي أن يكون الإحساس هذا صادرا ًعن وضع الإنسان ضمن الظروف المحيطة به وهذا ما يعبر عنه بصدق التجربة .
وأن يؤمن الإنسان هذا بأنه قادر على الانتصار على هذا الوعي , أو الإحساس بالعالم رغم تراكم الظلمة , وتزايد القوى المعادية الإنسان , وهو ما يشف عنه وعي الإنسان , وتزايد قدراته في الانتصار, وإدراك منطق التاريخ الجدلي .
وفي مجموعة عيسى حسن الياسري ” فصول من رحلة طائر الجنوب ” نجد هذا الإحساس بخراب العالم , وفساد الزمن , وموت البراءة , وعزلة الإنسان :
” هذا زمان العشيق المؤقت ِ ..والموت في غرفة موحشة ْ ….. ”
وقد عجز الإنسان أيضا ًعن أن يفعل شيئا ً , كان يحب مثلا ً :
” في هذا الليل الموحش .. كيف أحبك ِ …. ؟ ”
ففي هذا الوحل الذي يملأ العالم , والذي يرتفع حتى ” يصير خليجا ً , وملاجئ للموتى والجرحى والمأسورين , وضحايا أمراض العصر , في هذا الوحل كيف يمكن رؤية الأشياء بوضوح ؟ وممن نأمل الخلاص … ؟ .
ولكن ورغم هذا الطوفان من الوحل , والظلمات الشاملة , يظل هناك أمل , وقدرة على إبصار ما وراء ذلك , :
” فلما حلّ اليوم السابع ..فتحت ُكوة فسقط النور على وجهي ….. ” – أتونا بشتم ”
ورغم ما قد يشاغلنا تظل الأشياء التي أحببنا قريبة منا , وما كنا نرفضه ألفناه , فالمدينة التي كانت كابوسا ًفي ديوانه الأول ” العبور إلى مدن الفرح ” تصير هنا صديقة , والمرأة التي تزاحمها نساء أخريات تصير ضريحا ًللبهجة , فكأن إيغالنا في البعد جعلنا أقرب , وإمعاننا بالهجر صيره وصلا ً , والقطارات السريعة أبطأت .
إن ّالمتغيرات في الحياة في نظر –الياسري – تأتي أليفة أو عجيبة , فالحزن يأتي كشيء مألوف مع الحب , ولكن العطب في الذاكرة , يحدث كما يحدث الزلزال , وهكذا الانتقال من خلف حدود المدن الكبرى إلى داخلها , فالجنس يثقب الرأس , والزمن قاس وأحمق أو لئيم :
” يعطيني سنبلة ً ..وذراعا ًمقطوعا ً ..ثم يربت ُفوق جراحي ….. ” .
ولكن , ومع ذلك , فثمة إدراك لهذه الحقيقة الصادقة , يمثلها الانتقال من حدود البراءة إلى مدن التلوث , ومن المرأة الواثقة بنفسها وحبيبها :
” تنام التي أيقظتني .. لأحرس بستانها .. وما ذقت أثماره العسلية َ ….. ”
إلى المرأة التي تعابث السيد البرجوازي لتستولي على ما في محفظته , التحول هذا لا يتم بدون أن يحدث دمارا ً, لأن الحواجز بين عالم القروي وعالم السيد البرجوازي حواجز عالية , وليس من السهولة القفز من فوقها دون احتمال أن تندق عنقك .
إن ّ – الياسري – يتأرجح بين الريف والمدينة , أو أن ّكل ّذكرياته في القرية تغدو لهاثا ًفي المدينة , فالمرأة التي أحب هناك –عند المياه الدفيئة والنبع – , استفاق عليها في المدينة ,فإذا ثمة أسوار تفصل ما بينهما , وأن ّثمة انقطاعا ًبين ما كان وما هو كائن الآن , يحز كالنصل في القلب , فيظل وحده المسافر , ووحده اللاهث , لا يعرف حياته الجديدة كيف هي …؟ أو كيف يتصرف بها …. ؟ :
” وألهث ُ.. كيف يكون عناق الجميلات ِ …. ”
خاصة وأنه ما يزال يحمل ذلك الإرث من التذكارات , وقد لا يريد جادا ًأن يتخلص منه , لذا فهو يضغط عليه , لأن هذا الإحساس في تقديري أحساس صادق , لأنه لا يصدر عن مؤثرات ثقافية بحتة , بل عن مؤشرات واقعية تغور في الوجدان وتتلبس بالشعور , فتطفو تلقائيا ًفي كل تجربة – مدينيه – , مماثلة , أي أن ّ- الياسري – يحمل القرية إلى المدينة – في أعماقه – ولا يريد التخلي عنها , أو أنه لا يستطيع ذلك , فالقرية ذاتها ما تزال جنينا ً, أو حلما ًهي الأخرى , ترتاد به المجاهيل , قد يكون وطنا ً , حبيبة ً, فكرة ً , أو – متكأ ًللهموم – ونسير به منتشين , ولكنه رغم كل ما نعاني من المشاق والأحزان يظل في الأخير مجرد حلم , ذلك أن الذي يحول بيننا وبين أن يكون الحلم حقيقة دهور من الظلمات , وحدود كثيفة من الحزن , تجعل الحب غريبا ًوالحبيبين يمشيان معا ً, ولكن كغريبين يحاذر أحدهما الآخر :
” وفي آخر الليل .. نمشي غريبين ِ ..بين المحطات والخوف والأرصفة ….. ” .
إن ّقصائد مثل ” أسميك ِحلما ًوأصحو .. خبز القرى .. مكان سري للموت .. قد يحدث شيء ما .. لائحة الأسماء المستبدلة .. امرأة أخرى .. وقصيدة النهر ” هذه القصائد تشكل مؤشرات متقدمة على ديوانه الأول , سواء في نضج المضمون والتعمق فيه , أو في تشكيل الصورة والاهتمام باختيار اللفظة , وتوخي الإيقاعات المتناغمة في جرس موسيقي عذب .
ولا بد أن أشير إلى ضرورة الانتهاء من هذا التعبير الستيني , الذي يجعل من الجسد محورا ً للعالم والإنسان مثل .. قرى تتناثر في جسدي , جسدي هذا الواقف , الطيور التي غادرت جسدي الخ .
أما القصائد التي جاءت في آخر الديوان خاصة .. الطقوس , الرغبة , وتمر جميلا ًإلى البحر , الصوت , الطائر الأبيض , فهي تتماثل في صورها ولغتها وتوجهها إلى المرأة , الحبيبة , أو السيدة التي تهاجر في أول مركبة ,مما يدفع بالشاعر أو العاشق إلى النسيان أو الاحتراق من أجل بعث جديد للجسد أو الحب .
……………………………………
” المقالة منشورة في كتاب الناقد طراد الكبيسي – الغابة والفصول – وفي أحد أعداد مجلة الأقلام “