إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تعدّ هذا الملف للاحتفاء بمبدع عراقي كبير هو موسوعة العراق الحديثة بحق، قافلة من المبدعين التمت في شخص واحد، صاحب أعظم خدمة قدمها مثقف لثقافة وطنه في الخمسين عاماً الأخيرة .. الأستاذ حميد المطبعي.. هذا الرمز الثقافي والنهر الفذ المعطاء صرعه الشلل الذي لا يرحم وأبعده عن ساحة إبداعه ..
تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتّاب والقرّاء إلى إغناء الملف بالدراسات والمقالات والوثائق والصور.
المقالة :
من أصعب الحالات التي يمكن ان نمر بها ، هو ان يكون علينا ان نتحدث عن شخص نعرفه جيدا ورافقنا مسيرته سنوات طوال ودخلنا معه في عوالم متشعبة تعطي مدياتها عبر افاق مفتوحة المسارات قابلة للاحالات متشعبة الرؤى ممتدة الى اللامحدود من الزمان والمكان ،هذا ما اراه وانا احاول ان امسك اطراف الحديث عن شخصية بحجم ” حميد المطبعي” فمن اين ابدا ومن اية زاوية وعن اي منعطف نفتح البوابة ، والجهات الاربع تفتح ذراعيها بلا اية تقاطعات..
الأنسان لدى المطبعي
رغم قوة حجته لدى اي حوار صعب يدخل فيه، ورغم قسوته حين يصف البعض ممن يدعون الثقافة بانه ” أمي خطير” ورغم تجنب البعض من محاججته لعلمهم بانه سيتغلب عليهم بسهولة تقترب من السخرية اللاذعة، الا أنه يتمتع بشفافية انسانية عجيبة.. لا يكاد يتحمل سماع اية كوارث او مصاعب او الآم تمر على غيره.. لا يحتمل الا ان يراهم بابهى حالة واحسن واقع.. لا تهرب دمعته من عينيه اذا ما وجد نفسه مجبرا على سماع ما اصاب غيره من واقع صعب.. ورغم واقعه المادي المحدود تجده يمد يديه ويخرج ما في جيبه ويدسه بخجل في يد من يحتاج الى مساعدة وينفلت هاربا من امامه وكأنه احرج المقابل أو تسبب له بألم!!.
ويبدأ في تغيير الحديث الى زاوية اخرى حتى يتخلص من نزف مشاعره التي ادميت بفعل ما شعر به، ولا يتساءل عن السبب الذي يجعل المرء محتاجا ولا يلقي اللوم على احد ولا يغضب بلا سبب فهو العارف ان لكل بداية طريق عثرات وما علينا الا محاولة ثني الصعب عن ان يتمكن منا.
الكتاب
يحترم الكتاب لا بل يقدسه يعرف كيف يهدهده ، يحتضنه، يرعاه، يلصق اجزاءه ان تمزقت، يغلف واجهته ان اهترأت ، يداوي حروفه ان تلاشت، يحمله كأب يرعى صغيرا ويرصفه في رفوف بدأت تنحني وتتلوى وهي تنوء بما يفترشها، له مقدرة فرز الاسماء والعناوين ودور النشر والمحتوى بدقائق ، يفتح الكتاب ويقف ليقرأ وكأن هناك من افشى له سر قوة الكتاب في صفحة معينة.. ويعطي قراره فورا بعد سطور قليلة ليحكم على اهمية الوقت الذي سيسفح او سيمتلأ معرفة فيما لو خصص وقتا له.. يرسل قبلاته ذات الصوت الطويل ان اهديت له كتبا أو كتابا كان يبحث عنه وكأنه أمسك كنزا لا يعوض.. تمتلأ بالسرور وانت ترقبه فرحا يحمل كنزه معه ويركض الى صومعته ليبدأ الغوص في بحث عن اللؤلؤ الذي يشعر بانه امتلكه الان. وان طلبت منه كتابا فعليك ان تسجل طلبك في ورقتين وتوقع عليها واحدة عندك واخرى تبقى لديه حتى يستعيد كتابه مهما صغر او كبر ثمنه فالكتاب لديه كنز لا علاقة له بالمال بل بمكانه الاثير في رف يبقى فارغا بانتظار استعادة كتابه.
الرحلات
لا يكل ولا يمل ولا يتعب ولا يشعر بالارهاق ، مستعد ان يدور بكل ارجاء بغداد من الصباح حتى المساء متبعا جدولا يضعه بقصاصه يشطب على فقراتها بعد ان ينهي ما نفذ منها.. وطوال الساعات لا تخفت حماسته ولا قدرته على الحديث ولا رغبته في الوصول الى مبتغاه الذي يصل اليه حتى وان طال الحوار لساعات.. يعشق الامكنة والشوارع والزهر والشجر والمرئيات وحركة الناس والصحراء والغبار والازقة.. يعيد تشكيل الأمكنة بخيال كبير ويعيد رسم خارطة المكان كما كانت في اول مرة يعطيها مساحاتها الخضراء التي كانت عليها قبل ان تخنقها الابنية ويشم هواء تأريخها فيسمح للزمن بالمرور الى الوراء واعادة هيكلة الحياة كما كانت لحظة الولادة الاولى.. هنا كان يقف اول مؤسس لهذه المدرسة الفقهية.. هكذا يقول وهو يشير الى ساحة دائرية صماء فيما هو يصغي لصوت الفقيه وهو يتحدث الى طلاب لا نراهم نحن فيما هو يعرف اسمائهم وسلالتهم واجدادهم واقرابائهم وعشائرهم.. يصف الشجر وكأنه يعيد توجيه الطبيعة لتعترف بسر عذريتها التي اغتصبت منها يوم تم استبدالها بكونكريت اخرس أصم يتربع على بقايا جذور لا زال المطبعي يعرف جيدا اين امتدت وفي اية طبقة تركت لتموت الان بلا رحمة.
يمسح وجه الهواء وهو يستنشقه برئة اتعبها الدخان الرخيص الذي لا يقوى على استبداله باغلى منه فهو لا يتجاوز على حصة من بمسؤوليته حتى وان دخن جذوع الاشجار بديلا.. يعب الهواء البغدادي مستذكرا هواء الصومال وارتيريا وصحراء النجف وقرى الكرد واهل السهل والوادي واهوار الجنوب وشط العرب والجزيرة والموصل والبعاج و و و كل بقعة من ارض هذا العراق وبلدان اخرى زارها.. يقارن الهواء الذي يداعب استمرار حياته ولا يسأل متى ! فالموعد لديه مقدس وهو لا يسأله أن تأخر أو تقدم !!
الزمان
له قدسية رهيبة.. كل شيء محسوب بدقة متناهية وكأنه وزير في حكومة حكيمة لا وقت لديها للاسترخاء والاهمال والتغاضي.. لا وقت نضيعه فالزمن لا يرحم وسيجتازنا بهدوء وصخب مثلما يشاء وما على المطبعي الا ان يوقفه ليقول له كلمته ولا يمضي بعدها فهو يعرف كيف تمكن من ايقاف زمن لا يتوقف بسهولة لمن يشاء بل لمن يستحق ببراعة مثلما يفعل ” الحميد” الذي تفرد باشياء لا تتوافر لغيره ابدا.. هذيان الوقت يبدأ معه حين يختلي بنفسه فيبدأ بحوار صاخب ثائر مع صوت تسجيل يعيد اكتشاف الاشياء ببراعة الخلوة الضاجة وكثيرا ما اعاد الاستماع لنفسه ليكتشف فيها منعطفات اخرى كانت غائبة عنه.
اخر اصدار
اخر ما اصدر المطبعي كتاب عن المفكر الكردي كمال مظهر برعاية منظمة كتاب بلا حدود وكتبت على ظهر الكتاب السطور التالية :
“حميد المطبعي”
الكبير في كل شيء
عالية طالب
أكثر من ثلاثة عقود مرت وأنا أحمل صداقة فريدة من نوعها تربطني بالمفكر الكبير ” حميد المطبعي” صداقة تشبه الانتماء والتجذر والتوحد والألفة العجيبة، في بدايات تعرفي به بعد عودتي من سنوات غربة في بيروت كان صديقا ودودا ثم أصبحنا مع الايام ثنائيا مترابطا ثم بات عاكسا لذاكرتي باوقات واشخاص وأمكنة وأحداث وحوارات لا تنفك عن ملازمتي اينما أكون، وبعدها أصبح هاجسا من قلق أخشى عليه من ويلات زمن بدأ يصدأ في اغلب زواياه، ولاحقا أصبح أبنا اتفقده وانا اشعر بأنني أما تغدق حنانها على كائن من مزايا لا يحمل توصيفات الزمان والمكان بل يتعداها الى مديات أعرف حجم تكويناتها جيدا في نفسي ، يحمل الوداعة والضحكة المجلجلة والمعرفة والفكر والذاكرة النشطة والرؤيا الاستبصارية والتحليل الواعي والفهم المتجدد والمقدرة على انتزاع ما نتوقف عن البوح به لانفسنا لكننا معه نصغي لذواتنا التي تريد ان تقول كل شيء دون تردد.
أنه صديقي الأثير وأخي الكبير وأبني الغالي وروعة تفقدي لذاكرتنا المشتركة التي تختلف ولا تفترق عن نقطة هائلة تحمل أسم محبة العراق ، دمت كما أنت وكما يبحث عنك الأخر فيجدك في كل المرافىء الأمنة التي نحط فيها في زمن الوصول لنردم صدأ الزمن المنكفىء بجمال ودعة وتألق.
اليوم
حميد المطبعي هذا الكائن المتفرد بالمعرفة والتحليل والاستكشاف والتجديد والبراعة واللغة المطواعة والخيال المبدع.. يعيش وحيدا، مريضا، لا يغادر منزله، ينتظر صوت الاصدقاء عبر الهاتف وزيارتهم عندما تسنح الفرص، يعاني توفير ثمن الدواء وزيارة الطبيب والرعاية الصحية الحقيقية ، لا يسأل عنه الكثيرون فالكل في سباق مع البحث عما يؤمن العيش، لا تتفقده وزارة ثقافة ولا نقابة ولا اتحاد ادباء الا بما تسمح لها ميزانياتها المتباينة بين واحدة واخرى بالامكانيات التي لن نتحدث عنها ، لا يعتب على احد فتلك ليست طريقته بل يجد الاعذار لمن ينشغل عنه ، صومعته في اعلى بيته بلا تبريد وتدفئة والهواء من شبابيكه المفتوحة يعيد له رائحة البراري التي يشتاق لجولاته فيها.
انه ” حميد المطبعي” الذي تناسته المؤسسة الرسمية وترسخ في بصمة المشهد الثقافي والفكري والاعلامي العراقي بكل ثبات وصلابة. تحية لك ايها المتميز بالكثير.