مثلما غدا تحرير الوعي النقدي من الانفلاتات المزاجية والسقطات الانطباعية امرا لازما لا حياد عنه في الخطاب النقدي العربي المعاصر كذلك صار الخطاب الثقافي بعامة بحاجة هو الاخر الى اهمية الحياد عن السياسة بكل تعريفاتها ومدلولاتها السلبية والايجابية معا.
وعلينا ان نتصور ان تحرير الوعي الثقافي عندنا بوصفه ميدانا من ميادين المعرفة الانسانية هو الذي بامكانه ان يبقينا بمنأى عن هيمنة السياسة وكوارثها..
وفي مراجعة بسيطة للأصل اللغوي للفظة السياسة يتبين انه مصدر من ينطوي على معنى حسي مأخوذ من الفعل ساس يسيس فهو سائس وساس الأمر سِياسة وهو العلاقة بين حاكم ومحكوم الاول هو السلطة العليا في المجتمع والاخر هو المسيس الذي ينصاع شاء ام ابى ، أراد أو لم يرد.
وهي ايضا الغاية التي تبرر الوسيلة في منطق الانتهازيين وهذا المعنى الاخير هو الذي لا يقوض المعنى الحسي ويقلبه حسب بل انه اكثر خطرا وتهديدا كونه ينطوي على معان كثيرة عمادها الكذب كاساس وستراتيجية اركانها المخاتلة اسلوبا والمماطلة منهجا وبلوغ المآرب بخيرها وشرها.
وقد تحولت السياسة في عصرنا هذا الى علم قائم بذاته له شروطه واساسياته وليس لاي احد ان تنطبق عليه صفة السياسي او يكون سياسيا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة الا اذا امتلك مؤهلات خاصة ومزايا يتحمل هو بارادته كل تبعاتها لاسيما تبعية وصف السياسة بانها بؤرة الافعال الشريرة ومرتع الاقوال المواربة والخادعة والمضللة.
والوعي الثقافي الحر والملتزم ابعد ما يكون عن السياسة لانه ما ان ينحرف باتجاهها حتى لا يكاد يغدو حرا ولا ملتزما معا.
ولطالما قيل ان السياسة لا تدخل شيئا الا افسدته فهي اذا تزامنت مع العلم حرفته عن وجهته الموضوعية واماطت اللثام عن صرامته المنهجية.
واذا ما رافقت الادب قزّمته وجعلته رهينا آنيا بمرحلته لتلغي عنه صفة الامتداد الابداعي زمانيا ومكانيا ولتقولبه في خانة المحلية الضيقة.
وهكذا الحال مع سائر العلوم والفروع الانسانية ومنها الثقافة التي بدت في الاونة الاخيرة عندنا تنحرف باتجاه السياسة والايديولوجيا اكثر مما تنزع نحو الاختلاف والتعدد باتجاه التغيير للفضاءات المعرفية والفكرية ضمن زمن جديد له شروطه الخاصة في التلقي والتفسير.
ومن هنا صار حريا بنا ان نتمثل الوعي المثقف القادر على النهوض من دون الوقوع في شرك السياسة ومصالحها المريبة متمسكين بثوابت الثقافة ومسلماتها ومتخلصين من شرك الانقياد الى اذيال السياسة ومتاهاتها.
وذلك من خلال تركيز الجهد على مراكز اهتمام جديدة، تتأقلم مع منظومة مرجعيات مؤثرة .
ويبدو ان لدى العديد منا رغبة مماثلة في ان نتسلح بنزعة التحرر من الخطابات السياسية والايديولوجية بكل تبعاتها المرجعية سواء أكانت تاريخية ام اجتماعية مع ضرورة حياد الفعل الثقافي عن الخطاب السياسي بمزاجيته ومرحليته عبر الارتكان الى الحس الواعي بزماننا ومكاننا العربي بتنويعاته ومكوناته..
لكي لا نجد انفسنا يوما وقد اصبحنا على الجانب الاخر من الثقافة ضمن اطار بعيد عن الفلسفة ومنازعها الجمالية والفكرية فان علينا ان نستعيض عنها بكل ما هو غير مرعب ولا مؤدلج وهذا ما كان قد آثار حفيظة المفكرين ومنهم ميشيل فوكو الذي كان قد حذر في اطار تصديه لجينالوجيا المعرفة مما سماه “نذير شؤم”.
ولا ننسى ان اهم انجازات حضارتنا العربية الإسلامية انما تمت في ظل مناخات من الحرية الفكرية لتشهد الثقافة العربية انفتاحا تمثل في ترجمات عديد من الكتب المنقولة إلى العربية، التي حملت ثمار أهم ثقافات العصر آنذاك.
ولعل من اولى سمات توكيد الصفة الانفتاحية في صناعة الثقافة عندنا اليوم هي الطاقات الثقافية القادرة على التأثير في الرأي العام لإقناعه بالصواب او اعلامه بالخطأ بهدف التراجع عنه اولا ودفعا باتجاه الوحدة والخيار الديمقراطي اخرا، وبغية منح الاخرين خيار الوعي الفكري اللازم..
ويبدو أن مستقبل الثقافة العربية مرهون بخلاصها من تبعات النزعة العمياء إلى السياسة تلك النزعة التي تحاول ادخالها في مناحي الحياة وميادينها كافة في زمنٍ تبدو فيه الثقافة أحوج إلى التفتّح الواثق المحقق للترابط الديالكتيكي بين الابنية المجتمعية والمنظومة الحقوقية للمجتمع، التي تتشكل في مجموعها ثقافة الفرد، وفكره، وقيمه الاجتماعية.
وان جدلية العلاقة بين الثقافة ودرجة تطور البناء الاجتماعي هي التي تحتم وجود هذا الحاجز بين الثقافة من جهة والسياسة من جهة اخرى.
وقد لا اغالي اذا ما قلت ان هذا هو جوهر أزمة ثقافتنا العربية التي تنتظر منا اليوم ان نجعل النزعة العلمية اساس البناء الاجتماعي لبلوغ ثقافة جديدة علمية حرّة ديمقراطية، تتعايش مع البناء الاجتماعي المتقدم خارج أُطر الالزام والقسر والتخويف والإرهاب .
بعبارة اخرى، أن نوحد الثقافة الوطنية في ثقافة علمية ديمقراطية حرّة، قائمة على أساس موضوعي متين سواء في طبيعة تكوينها التاريخي او بمحتواها العربي الإنساني.
وان واحدة من اهم الغايات التي ينبغي ان نسعى لها لبناء ثقافي رصين هو تحقيق ثقافة اصيلة جديدة وصاعقة كميّا وكيفيا في ظل مجتمع ديمقراطي غير منقوص ولا مقيد تتحقق فيه وحدة هويتنا العربية وثقافتنا وتصوراتنا ضمن مجتمع سلمي يوافق بين التيارات، ويستند الى الموروث والمعاصر معا ..
د. نادية هناوي سعدون : جدلية العلاقة بين الثقافة والبناء الاجتماعي
تعليقات الفيسبوك