جليل القيسي : ما زلتُ على قيد الحياة غير مكترثٍ بأحدْ (ملف/2)

jalil alkaisi 9إشارة :
رحل المبدع الكبير “جليل القيسي” الرائد المجدّد والمحدث في فن القصة القصيرة وفن المسرح في العراق وهو في ذروة عطائه ونضج أدواته الفنية . ومع رحيله – وللأسف وكالعادة – أُسدل الستار على هذه التجربة الفنية التحديثية الهائلة. هذا الملف الذي تقدّمه أسرة موقع الناقد العراقي هو دعوة لإعادة دراسة تجربة الراحل الكبير الفذّة بصورة أكثر عمقاً وشمولاً. ندعو الأحبة الكتّاب والقرّاء إلى إثراء الملف بالدراسات والمقالات والوثائق والصور.

الرسالة :
أنا الذي يجبر الجميع على الصمت انا الذي يتكلم
من رسالة جليل القيسي الى مؤيد الراوي
كركوك شباط 2006

(….) فجأة تصلني منك، بعد ثلاثة عقود من الاغتراب، رسالة قصيرة باردة، وكأنّ القوى الوضّاءة لدى مؤيد المبدع قد جفت. لكنني مع ذلك حاولت أن أتذكرك واستحضرك بالصفاء الذي أريده، لا عبر رسالتك، بل من خلال ذلك الماضي الذي ملكناه وملأناه بكل ما هو مفيد ومتفاعلٌ وحيوي، إلاّ انني في الواقع لم أتمكن من استحضار ذلك الماضي بتفاصيله الكاملة، ولم تعينني رسالتك المقتضبة على ذلك عندما أثارت لديّ الشجون وتغلبت عليّ العاطفة.
يقول الفيلسوف الإسباني جورج سانتيانا: لا يستطيع الانسان استرجاع الماضي بوضوح، لأنّ (الآنَ) يتدخل ويفسده. هكذا بعد قراءة رسالتك حاولت، مرات عديدة أن استنجد بذاكرتي لأجمع شتات الأحداث والوجوه القديمة التي غابت عني وابتعدت في المنفى، لكن الذاكرة راحت تتلعثم في الإجابة عليّ، وحتى على الأحداث القريبة. لولا القراءة يومياً ثلاث ساعات تقريباً، رغم ضعف بصري، وهي تعمل حتماً على تنشيط دماغي المتعب، لأصبت بمرض الزهايمر الذي تعاني منه زوجتي منذ عام.
آه، أيها العزيز مؤيد، كنت أنتظر منك بلهفة رسالة تنطوي على سماء من أروع الكلمات؛ عن حياتكَ وعن الأصدقاء وعن الأسرة، لكنك كنت بخيلاً. أنتم أبناء ألمانيا وكوستاريكا وأمريكا بالتبني (في إشارة إلى فاضل العزاوي وأنور الغساني وسركون بولص. م) أنجزتم الكثير، ولكن اوجاعكم لم تكن قليلة أيضاً. هل ما زلت يا مؤيد تعاني من عذابات غير مفهومة مثل فان كوخ، وكالمتصوف تحاول الهرب من الزمن لكي تنسى. أما أنا فقد عشت عقوداً خرافية من الخوف ومن الرعب في ظل الفاشية الصدامية حتى أصبح الخوف عندي ضرباً من المتعة، ولا أعرف في الواقع كيف نجوت من فك الماكنة القاتلة، وبأي مزاج كتبت أعمالاً أعتز بها. أما muaiad 4الآن، بالرغم من الفلتان الأمني المريع، أكتب بحماسة فيما أردد مع نفسي كلمات الشاعر البرتغالي ريكاردو رييس:

ما زلتُ على قيد الحياة
غير مكترثٍ
بأحدْ
أنا الذي يُجبرٌ الجميع على الصمت
أنا الذي يتكلم

قدرنا، أيها الحبيب، أن نبقى بثبات إلى جانب عشاق الحياة، بغض النظر عن فوضوية اصطخاب التاريخ، لآنّ فهمنا، إلى حد ما، بشمولية الحياة يضخّ في عروقنا المزيد من عصارات الحب والمزيد من الثقة (…).

*عن صحيفة الاتحاد

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *