إشارة :
يهم أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف عن الشاعر المبدع والإعلامي الكبير الدكتور زكي الجابر بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيله حيث غادر عالمنا في الغربة يوم 29/كانون الثاني/2012 . وتهيب أسرة الموقع بجميع الأحبة الكتّاب والقرّاء المساهمة في هذا الملف بما يملكونه من مقالات أو دراسات ووثائق وصور ومعلومات وذكريات عن الراحل . وسيكون الملف – على عادة الموقع – مفتوحاً من الناحية الزمنيّة . ومازالت الناقدة الدكتورة حياة جاسم محمد ترفد الملف بنصوص وصور مهمة للراحل الكبير فشكراً لها.
المقالة :
المقالات الصحفية (4)
هل أسأنا استخدام التكنولوجيا؟(1)
د. زكي الجابر
لكل عصر نموذجه الشمولي، والأمر كذلك منذ أن خط الإنسان على الطين، ونقش على الحجر، وبنى المسلات والأهرامات وشيد الجنائن المعلقة. والأمر كذلك حين نسج الإغريق أساطيرهم، وحين طاف جلجامش باحثا عن عشبة الخلود، وحين أوقد المجوس نيرانهم، وصولا إلى ترسيخ المطبعة وانتشار الكتاب وشيوع أفكار العدالة والحرية والمساواة. وأظنك تنتهي معي إلى الإقرار بأن النموذج الشمولي لهذا العصر هو التكنولوجيا بمختلف مفرداتها من الصاروخ عابر القارات إلى قرص الكمبيوتر. ولعل أوسع مفردات هذا النموذج القائم هو تكنولوجيا التواصل سلكية ولا سلكية.
ولقد جاءت التكنولوجيا إلى أقطارنا مسرعة، فامتلأت شوارعنا بالسيارات صغيرها وكبيرها، وأسسنا شركات النقل الجوي، وأقمنا مؤسسات للإذاعة والتلفزة، وضمت مكاتبنا أجهزة الكمبيوتر، وامتلكنا قمرا صناعيا، وتناقلنا الأخبار عبر شبكات الفضاء، ونقل التلفون محمولا وغير محمول أصواتنا من نقطة إلى أخرى.
ولعلك مثلي راودك التساؤل: ’’هل أحسنّا استخدام التكنولوجيا، ولنقل مثلا التلفون المحمول‘‘؟ لك أن تصدق أو لا تصدق، ولكن دعني أنقل حادثة اقترنت بالتلفون المحمول. كنت أصغي إلى محاضر يلوك لسانه ثقافة وعلما حينا وتحذلقا وتَعالمُاً حينا آخر، وفجأة رن تلفونه المحمول في جيبه، وأوقف المحاضرة ليتحدث مع الطرف الآخر، حتى إذا انتهت المكالمة اعتذر بكلمات وجيزة، وعاد إلى دَيدَنه في لَوك اللسان! صدق أو لا تصدق حادثة أخرى، حين رأيت صديقين في مطعم من المطاعم يتناولان لذيذ المأكل، ويتحدثان في أمور دنياهما، ثم ينقطع تواصل الحديث لينهمك كل منهما في حديث على انفراد وعبر التلفون المحمول مع الطرف الآخر! ولدي أكثر من مثال يقترب من هاتين الحادثتين في مواقف أخرى تمتد من الشارع والسيارة إلى مخدع الزوجية والحمام!
قد يكون موطن غرابة أننا بحثنا وكتبنا في مجالات التأثيرات الاجتماعية لوسائل الاتصال التي تتعامل مع جمهور متسع مثل الإذاعة والتلفزة والسينما، ولم تنل وسائل الاتصال من نقطة إلى نقطة، كالتلفون، نصيبها من البحث والدراسة والتساؤل. لم يدرس الباحثون الاجتماعيون أثر التلفون على عمليات التواصل اليومي في الحواضر، وعلى الرغم مما يقال عن التأثير الإيجابي للتلفون حينما يصل الريف فليس بالملحوظ توفر اهتمام جاد بالتعرف على هذا التأثير الذي يمكن أن يتعرض له سكان القرى والأرياف والأطراف الذين يبلغون ثمانين في المائة من مجموع سكان الأقطار النامية.
إن الاعتقاد الراسخ بأن تأثيرات التلفون، اجتماعيا، ليست بالمنفصلة عن تأثيرات تكنولوجيا التواصل التي استجدت في إطار النموذج الشمولي المتفاعل مع عصرنا الحالي، والتي قد تمتد إلى عصر مقبل. وقد يكون أبرز هذه التأثيرات غزو الخصوصية وهيمنة نفوذ ’’الأخ الأكبر‘‘(2) التي يخضع لها المعمل والمدرسة والبيت، حتى يمكن القول بعدم وجود أي حد يمكن أن تقف عنده. ومن هذه التأثيرات الكثرة من الأخبار والمعلومات التي تصك السمع وتأخذ بالبصر كل يوم، من غزو للفضاء وانتشار الأمراض المتناقلة جنسيا وقضايا التمييز العنصري وحقوق الإنسان واتساع ثقب الأوزون! وأهم من ذلك هو ما يتولد من اضطرابات هنا وهناك متمثلة في قوة الاستخبار والرغبة في الاستحواذ العسكري وسلب الآخر حق الحياة!
وهكذا أجدني مسوقا إلى القول مع القائلين بأن الإنجازات التكنولوجية ليست بحد ذاتها ذات فائدة، وإنما هي ذات فائدة أو ذات ضرر في إطار القرائن الاجتماعية. من يستطيع إنكار فائدة السيارة في النقل وتقريب المسافات والترويح عن النفس، ولكن من يستطيع إنكار ما تجلبه من مخاطر حين تملأ الصدور بالدخان، وحين تضيق بها الطرقات الضيقة، وحين تركبها سرعة الجنون، وحين لا يحسن السائق الأخذ بزمامها، وحين يسير الراجل حيث لا ينبغي له أن يسير، وحين تفتقد قطع غيارها، وحين تتصاعد أسعارها مع كل طراز جديد من طرزها المتجددة! ومثل ذلك يحق لي القول مع التلفون حين يغدو وسيلة إزعاج في أيدي الفضوليين، وحين يتحول إلى أداة لقضاء الوقت بالهذر ونقل الإشاعات والنميمة وما لا طائل وراءه. إن التكنولوجيا ليست عملية توالد ذاتي منفصلة عن بيئتها الاجتماعية، بل هي تتكيف وتوظف كما يشاء لها البشر أن تتكيف وتوظف!
وأجدني كذلك مسوقا للقول مع القائلين بأن التكنولوجيا معرفة، إنها معرفة تنتج البضاعة كما تصنع أدوات وأجهزة إنتاج هذه البضاعة وتوزيعها. وهو قول مرتبط بشرط أساسي قوامه التفريق بين معرفة كيفية عمل الآلة وفهم عملها والمنطق القائم وراء عملها. ولعلك أدركت المغزى الكامن وراء هذا الشرط. لقد اشترينا من التكنولوجيا ما اشترينا، وربما أحطنا بجوانب من تشغيلها، ولكننا وقفنا عاجزين عن صنعها وعن فهم خفايا عملها. امتلكنا القمر الصناعي ولم نصنعه، بل ما زلنا عاجزين عن صناعة مرسلات الإذاعة وأجهزة التلفزة والتهاتف، ولم نَزَل نتخبط في الفصل بين فائدة التكنولوجيا وضررها. إن الانفلاق الذري قد يسر علاج الأمراض العصية، ولكنه في الوقت ذاته عبد الطرق لتحقيق أشد أصناف الدمار والهلاك! ولم نزل نتخبط في الفصل ما بين المعرفة التكنولوجية والمعرفة الإنسانية، فإذا كان للأولى ميكانيكيتها وشكلانيتها وسيطرتها على الطبيعة فإن للثانية طابعها الإنساني وشموليتها ومحاولاتها المستمرة لفهم الطبيعة. ولن يساورني ريب في أن مصير الإنسانية مرتبط بمدى تعلّق العلماء والباحثين بالمعرفة الإنسانية والأخذ بها، وبخلاف ذلك فإن الإنسانية ستبقى معرضة لأشد أنواع الخطر نتيجة توالي الاختبارات الذرية وتصنيع الأسلحة الجرثومية وعمليات الاستنساخ! وبهذا التعلق بالمعرفة الإنسانية لن تكون التكنولوجيا عدوة للإنسان بل صديقا يعمل على تطوير آفاق حياته وازدهارها جماليا واقتصاديا.
إن مشكلات بلداننا النامية معقدة، وقد يكون صعبا إخضاعها لإطار نظري محدد، ولكن مشكلات التكنولوجيا، كما يبدو لي، ولعها لك كذلك، تتصدر هذه المشكلات. إننا بتوظيف التكنولوجيا وبهذا الشكل السريع قد نسيء إلى مدننا وذوقنا وحياتنا الاجتماعية. فهل فكرنا بالطريق واتقان آداب المرور قبل تكاثر السيارات في شوارعنا وأزقتنا؟ وهل فكرنا بتعطيل التلفون المحمول ومنع استخدامه في الملاعب والأماكن العامة وأثناء قيادة السيارة؟ وهل شعرنا بضرب من الخجل عند استخدام التلفون المحمول في المرحاض والمرافق الخاصة؟
إذا لم نفكر ولم نشعر بكل ذاك فكأننا ضعنا مع ضياع نصيحة شيخنا الشرقي(3) حين قال:
قد ضل من قال لنا عانِدوا
وثابِروا في طلب المستحيل
فليس للركض لنا عائد
فالخطب إذ يركض نبض العليل!
وقل معي صدقت أيها الشيخ!
(1) نشرت في صحيفة العَلَم (المغرب)، 6-2-2000
(2) إشارة إلى رواية 1984 للكاتب الإنكليزي جورج أورويل (George Orwell).
(3) علي الشرقي شاعر عراقي (1890-1964)
جميل المقال ” هل أسأنا استخدام التقنية ” . نحن لم نصنع التقنية لذا تبدو التقنية مع غالبيتنا شيء غريب مع غرباء لا يمتون لها بصلة .