محمد خضير : محاورات حديقة زينب (4) (ملف/4)

mohamad khdier 7إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر هذا الملف عن المبدع الكبير القاص والروائي المجدّد “جمعة اللامي”، الذي طبع بصمته السردية الفريدة على الخارطة السردية العربية من خلال منجزه السردي الفذّ. تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتّاب والقرّاء كافة للمساهمة في هذا الملف، بما يتوفر لديهم من دراسات ومقالات ووثائق وصور وغيرها، بما يُثري الملف ويُغنيه. تحية للمبدع الكبير جمعة اللامي.

النصّ : 
(4)
الغرفة والمسرح
هبطنا في الليلة الرابعة من الشقة المعلقة في ليل الشارقة , واتجهنا إلى حديقتنا . فجأة أدركت أننا لا نخوض حديثاً ليلياً بين اثنين منفردين بمسرحهما , وإنما همهمة أصوات كانت تتعقبنا وتشترك في حوارنا . أينما انتقلنا , انتقلت العائلة بإرثها وحاصرت مسرحنا الدائري بأصواتها .
[ صوت (1) : ماذا نقول لأنفسنا ؟
صوت (2) : أقيموا له مسجداً هنا .
صوت (3) : صار قضية .. صار قضية .
صوت (4) : اجمعوا ما كتب في كتاب .
صوت (5) : آهم .. أنا .. آهم أقول .. آه يا حكمت الشامي .. يا.. آ.. آ ..
صوت الخطيب : والآن لنمارس طقس البكاء المعتاد . ] ( قصة : من قتل حكمت الشامي : 1967 )
سألت جمعة : بدأتَ كتابة قصصك بمسرحة متقابلة للأصوات , بمخاطبات أمام الجمهور . كيف يتخلص الخطاب من إرث العائلة ؟ خرج خطابك من الغرفة إلى المسرح , فهل تخلت العائلة عن ملاحقتك بإرثها البعيد ؟
أجاب : بدأ خطابي انفرادياً في حدود الغرفة , غرفة الليل المحاصرة بأصوات النضال والملاحقة . ثم حللتُ في ردهة السجن , فانتقلت أصوات العائلة إليها . وحينما انهار السجن انتقلتُ إلى مسرح يتسع لجولات خطابي ضد هجوم العائلة الانتقامي . ولا أحسب أنني كنت وحدي على هذا المسرح , فعشرات من كتّاب القصة في العراق دافعوا مثلي عن خطابهم ضد صدمة الاندحار الجماعي لخطاب العائلة .
ـ بدأ خطابنا بصدمة وانتهى بصدمة , أما زال خطابنا القصصي اندحارياً ؟
ـ ما أكثر المسارح التي انتقل إليها خطابنا, وهو يتوزع اليوم على مسارح الدنيا كلها. لكنه يعود أبداً إلى نقطة التأسيس النضالية الأولى, ويتصل بإرث العائلة بين مرحلة ومرحلة, يجمعه ويبنيه من جديد . لذا يبدو هذا الخطاب استعادياً , اندحارياً , في تجريبه وبحثه عن نقطة التأسيس .jumaa allami 10
ـ نشأ خطابنا الروائي مع نشأة الدولة العراقية الحديثة عام 1921 , بصدور رواية محمود أحمد السيد (جلال خالد) . بدأ الخطاب مدنياً وثورياً لكنه أُختتم برؤية اندحارية . يسافر بطل الرواية إلى الهند لاكتساب العلم الثوري , وحينما يعود يكتشف خمود أول ثورة ضد الاستعمار البريطاني للعراق , فيقع طريح الفراش . كان جلال خالد أول مريض ثوري عراقي , ثم توالت الشخصيات العليلة التي لفظتها الثورات المجهضة وراءها . هل خرج خطابنا عن هذه الرؤية الاندحارية ؟
ـ إذا أضفنا إلى رواية محمود السيد روايات ذو النون أيوب وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر وعبد الرحمن الربيعي وفاضل العزاوي لبنينا منها نصباً لبطلنا الغريب , المهزوم على مسرح الكفاح السياسي والاجتماعي . كانت روايتنا حلقات متصلة من الاعتراف بفداحة الخسارة الفردية والجماعية . توالت الانتصارات والاندحارات وتوقفت الرواية تلتقط أنفاسها أمام مطالب المسؤولية السياسية التي حمّلتها الأحداث العظيمة كاهل الروائيين العراقيين غير المسلحين بخبرة واقعية . كان هؤلاء الروائيون طلائع مخلصة لنظام العائلة المهتاج بنظريات القرن العشرين الكبرى , فأصيبوا في الصميم من وعيهم المباشر والفتيّ وشبّوا منكسرين. تسللوا الواحد بعد الآخر من مناطق الخطر , وتباعدت المسافات والأجيال والأساليب . حمل الأوائل معهم بذور فصامهم الثوري, ومنعهم مسَّهم الذاتي من عقد اتفاق أدبي مع جماعات التحول السياسي الجديد . وبسبب هذا التوالي الاجهاضي وهنتْ سلسلة الأجيال الأدبية واندثرت مصادر التأسيس الثورية .
ـ إذن , وصلنا إلى نقطة اللاعودة , كما أسلفنا من حديثنا. هل نعيش مرحلة اللاتواصل, هل نحن أجيال مبعثرة , جزر منقطعة ؟ هل يعني بحثنا عن يوتوبيا أننا تهنا بعيداً عن موطن العائلة , وعدنا أفراداً لا أجيالاً مرتبطة بتقاليد وقضايا ؟ لقد بنيت أنت بنفسك مدينة اسمها (اليشن) . بهذا الاستدلال هل نستطيع أن نبدأ من أبنية معروفة في تاريخنا الأدبي الشخصي , بعد أن هدمنا قلاع تاريخنا الأدبي الجماعي ؟
ـ عدنا إلى التاريخ ,بعد أن خرجنا منه . نحن محكومون بفطرة الاستدلال التاريخي , باستكشاف حقيقة المسافة . هذا هو امتيازنا الأدبي , إحلال مفهوم المسافة بدلاً من مفهوم التاريخ العائم وسط النكبات والاندحارات . المسافة تبيح الرجعة لكنها تمنع الاندماج , حيث الحرية والانفراد وحوار الأضداد اختيارات ممكنة للحركة بين طرفيها . هناك (اليشن) وهنا (الشارقة) وبينهما استراحات المسير , وتحولات الفكرة , ومصادفات المسافة .
[ ومن على الرابية التي تطل على ـ اليشن ـ نظر سلمان المحمدي إلى مدينته القديمة التي استوت قاعاً صفصفاً . فاستدار نحو جهة المشرق , حاملاً معه حقيبته الجلدية وزوادة السفر . ] ( قصة : تحولات سلمان المحمدي :1974 )
ـ حين خرج (سلمان المحمدي) من السجن , اكتشف انهيار مدينة (اليشن) , وبسقوطها بدأ التفكير في الخروج من المدن القديمة . كانت يثرب أول ما لاحت في حلم المحمدي , إلا أن الرهبان والمحققين كانوا يقتحمون عليه الغرفة ويعذبونه كلما فكر في السفر. (( هل أن المدن القديمة تنسخ المدن الجديدة )) كما فكر سلمان المحمدي في قصتك ؟
ـ حين يكون السفر عذاباً , تنفتح المسافة أبعد وأبعد أمام تحولات الفكرة , ثم يكون الانتقال حقيقياً وخلاصاً نهائياً , كما حدث لسلمان المحمدي في صراعه مع أهل زمانه . أصبح السفر رؤيا من رؤى الدفاع عن الحقيقة ومواجهة جمود الأفكار والعذاب الذي امتد أياماً وشهوراً وسنوات. ولا بدّ أنك لاحظت نبوءة التفسخ والانهيار تشيع في أكثر قصص (اليشن) . فلم تكن (اليشن) مدينة فاضلة على كثرة ما فيها من الأولياء والفضلاء . أقمتُ مسرحي موطئاً لفكرتي عن امتداد المسافة وطول السفر .
ـ (الهجرة) احتمال كان يقف على عتبتي الغرفة والمسرح . مقارنة بمفهوم المسافة , كيف تفهم تعارضات الهجرة مع تاريخ العائلة ؟
ـ الهجرة سمحت ببناء (يشن) عدة على جانبي المسافة , مسارح لتمثيل تاريخ العائلة . المجهول , السفر , الكتابة , أحلام المسرح التي جربنا تمثيلها . حين خرجنا لم نكن نملك سوى تاريخ الضياع , أما اليوم فثروتنا من أحلام المسافة أكبر من أن تُقارن بإيشان واحد مطمور في مملكة العائلة القديمة .
ـ نتكلم عن رموز وأحلام , أين الحقائق ؟
ـ تجربتنا الأدبية كانت مجموعة رموز نحرص على قداستها وصيانتها بلغة العائلة المغلقة على استعمالاتها , بضعة تمارين عاطفية , حكايات وصور وهلوسات .. أما حقائق العائلة فظلت نائية عن أيدينا . وحين انتبهنا إليها من وراء المسافة , وجدناها تحجرت وانضمت إلى ممتلكاتنا الأثرية منذ آلاف السنين . من ناحية ثانية , غاب الشهود الرئيسيون , قتلتهم حقائق العائلة بألغازها . ظلت أشباحهم تطالبنا بكشف الحقائق , ونحن نخشى هذه المهمة , فلعنة العائلة تسدّ علينا المنافذ للعودة إليها .
ـ وكيف نبدأ ؟ كيف نقهر لعنة الرموز ؟ أين ننصب مسرحنا؟
ـ لقد بدأنا .. بدأنا .. كما بدأنا من قبل ..
صوت من هذا الذي يتكلم ويختم حوارنا على مسرح الحديقة ؟ خرجنا كما دخلنا مسافرين يوازنان مسافة المسرح مع تاريخ الغرفة وجسد الأنثى وخيول القضية المسوَّمة في شوارع العائلة .
[ في جو الغرفة المشحونة بالهمس ووجيب القلوب التعبى, كان الليل يستطيل ويستطيل , وهي كقطة حذرة تمتد لصقي, وأنا رجل أبحث عن الخلاص في المتاعب ومحاسبة التاريخ . أنا رجل أنهكني الجري والتطواف في مفازات الصحاري فلجأت إلى غرفة في طرف من أطراف مدينة الخوف والعذاب أبيع الحب والتجربة للناس وللدود ولسريري . قلت: إنها ممددة لصقي ولا شيء أعرفه عنها . كل ما أذكره أنني رأيت وجهها عندما كنت أحارب بسيف عبد الرحمن الداخل , وأمتطي جواداً عربياً تهزأ أعرافه بالويل والعاصفات . أغمضتْ ـ الآن ـ عينيها فبدت كالنائمة , غير أني أعرف أنها لا يمكن أن تنام , فمنذ أيام وهي تراقبني بطريقة الأسئلة . أردت أن أخبرها بعذاب الليالي الموغلة في جذور القضية , لكني صمتّ في النهاية فقد كنت أعرف ـ الآن ـ أية حالة تتلبسها . ] ( قصة : تاريخ القتلة : 1966 )

*عن موقع الروائي 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *