هشام القيسي : أيّام في كل اتجاه (8/ الأخيرة)

 hosham 5(( أوقات ))
 في البحث عن مخرج يفضي به إلى أن يكتشف حظاً تسعد فيه أوقاته التي تهوي كمطرقة من حين إلى حين ، يواجه خطوات معاكسة لا تنام . وحيثما يمضي يفكر بأبواب عارية بلا حدود ، بيد أن استنطاق حكمته بات يوحي له بأنه لا يمكن أن يساير رحلة موازية جديدة . يعود ثانية إلى وسط حياته تحت مشهد صامت مر.

 من خلال كلماته اليومية يغدو حالماً عن قصد. ربما يراهن على وجه لا يتشرد في البؤس ولا يطير منه الغضب. لكن لحظاته المتساقطة في ذاكرة لياليه تجعله يسهر في مجاهل نفسه طوال الوقت وحيثما تنبثق منه إشارة تطفو بسكوتها كيفما تريد.

 تبدو عارية في طريقه منذ البداية باتجاه كلمة أراد منها أن يعرف كيف تشقى وكيف تضئ ، فهي في أعمق الليالي ترسو على غير ما ترسو في النهار. عندما غادر لحظاته المرتعشة ليبحث عن إطار يضمن فيه انفتاح أسئلته المليئة بالمسامير الجارحة، تشتعل فجأة رؤيته الجافة تحت مظلة شك تصغي إلى حالة هلامية في أوديتها ومن خلف نافذة تبكي. يدرك حينها أن المسافة مليئة بالأدغال.

 يومئ من بعيد وهي علامة أعتاد عليها من الضفة الأخرى للنهر . شيئاً فشيئا يقترب من الشجرة التي يبدو انه يحمل بصمات في ظلها حينما كان محاصراً بأصعب الأوقات وسط أحلام تبدو له غير بعيدة المنال. ورغم أنه وصل في الوقت الذي يألفه عند كل زيارة تفاجئه على الشجرة ملامح توحي له بأن خطواته مرممة لا ينبغي أن تسحب وراءها عاصفة أخرى.

 ربما يعرف السر وربما لا يعرف، فالعيون شاخصة في أكثر من مكان نحو فريسة عارية لا تغادر الفجر، معها أمتعتها البسيطة وشباكها المعلقة في نظراتها وما تفعله في الآخرين فهي لن تكون لأحد وهي وحدها تمارس أشاراتها وتفضل أن لا تحاسب نفسها في أغلب الأوقات. عندما يسقط كأسه من يده وينهض من نومه يجد نفسه خارج نقطة مجهولة لم يحلم بها من قبل.

 في زقاق ضيق تجلس القرفصاء ، تراهن على مكان ينتظرها ولهذا لم ترد أن تنام أو ترسل أشارات قلقة . فهي تحاول أخفاء رغبتها وبالجوع الذي هي عليه بيد أن امرأة كانت قد قامرت على مكان شبيه جعلها تداعب ذاهلة أفكارها وتنظر لتمساح استحضرته من بين لحظاتها المليئة بالسراديب.
 بلغة تفهمها تمضي مندفعة نحو سيجارة متميزة بعلبة ساكنة في معطفها. اعتادت أن تنظر إلى مرآة في حقيبتها فقد كانت تشعر تلقائيا بأنها لا تتحاشى من استنشاق تلك السيجارة بين لحظة وأخرى، وحينما شارفت على الانتهاء منها كانت تنظر بنظرات هلامية مليئة بالذهول وهي تسبح في اتجاهات عديدة خارج النافذة.
 بين جدران وحلم ناقص حاول أن يتسلق أسرار جوع يتسع له فإذا بصوت من الداخل يبرق ويقيده نحو صورة تحترق من أقصى نهايات أيامه التي لا يفهمها أحد غيره.

 لا يبالغ فقد سحبته يقظته من منتصف ذاكرته لتبحث في لحظته التالية ما يسفر عن وجهه المعبر وكلما حاول أن يتفادى مساره تتجاهله لتريه بقية مجاهله العارية.

 وهو يبحث عن بقية من ذكرياته هذه الليلة ، تطلق جدران العالم أسئلة تدفعه إلى محطات مجهولة لا تبالي بالمشاعر. عندها يعود ويمشي خفافا على أيام يدرك فيها حياته إلى حد ما.
 لم يسمح في أواخر أيامه أن تطوق مطارق الحرائق رأسه ثانية سيما وأنه يسير في طريق يساعده على توجيه ما يصبو إليه. لذا ينظر إلى الخلف أكثر من مرة ويفتح حوارا أكثر من مرة أيضا. بيد أن قرع الباب بحذاء ثقيل جعله يتنقل تحت جنح الألم فيما يغط العالم في نوم ملئ بالكهوف.

 هذه الصرخة تجعله يرى عميق كلماته من نافذة تندفع إليها ذاكرة ترن لا تريده أن يزحف ببطء وسط الطريق. وبين كل شبر وشبر يواجه مشاكل تطرق على رأسه، في هذا المسار يمشي بطيئا بانتظار إطفاء نيران قبل نهاية حلم يقيم على شرفات أيامه.
 يحاول أن يشق طريقه الذي أحرق صفحات عديدة أتقنت المتاجرة. وإذ يرى صورته تقترب من لحظة لا تبتسم يفكر بطريقة تجعله يكتشف التحرر من المحاصرة تلقائيا بنظرة مفتوحة تعرف أين تسير.
 تلك الواقعة تظهر أحياناً سراباً ، وحيثما يختفي تنطلق باتجاه الشمال علامات من أشياء لم تعد تفهم هذه الرسائل . تأمل ساعته بإمعان فإذا هي تسيره إلى زاوية من زوايا ذهنه التي تقود ذاكرته باتجاه أحلام ألغت المتاهة وخرجت إلى انعكاسات غير محاصرة تشارك في خصب اللحظات الجميلة التي لا تخطأ باتجاه الأفق.

 هذه السيرة تحمل أجوبتها إزاء كل باب لا تعرف أنفاقاً ضيقة، لهذا قرر أن يمضي نحو محطة انتظار بمشاعل من فرح يذكره بأوقات حية شاخصة في أكثر من مكان، وقرر أن يشتم هواء ورائحة عطرة في يوم واحد يدخل حدود البهجة بنظرة حالمة مبكرة. لكنه إزاء هذا الاختيار ومن خلال رؤية مفاجئة يبدأ بالانزياح صامتاً بعد أن يكتشف أن في الكلمات حكمة مرة مليئة بنيران مجنونة تمارس خطوات مسرعة حيثما تشاء.

 كيف تأتي وهي ساهرة طوال الليل تنفض بين اللحظة واللحظة آهات تروي كلمات لا تسعى نحو مكان ما وقد أثقلتها مخالب غدت شظايا تودع أظافرها بارتخاء . في هذا الطرف من النهر حيث بقايا أكياس أمتعة وقنان ورماد غادره احتفاله في اللحظة الأخيرة، يهاجم رأسه من وراء شروده عسى أن يجتاز زمانه الذي يجري قطرة بعد قطرة.
 حتى يصغي إلى أنغام طفولته عليه أن يتأمل ويمضي من بداية النهار مثلما عليه أن يستلقي في ظلال كلمات ضاحكات بعفوية لا تنظر إلى المناسبات من إحدى الزوايا المشغولة. فقد ألقى في طاحونة أيامه من دون دعوة محنة عسى أن يفترسها الوقت بعيدا عن الحرائق التي تزوره كل يوم. وبينما يسترسل في خلوته تواجهه مشاهد لا زالت تحول بينه وبين أفقه دون أن تأبه لأرقه.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| حسن سالمي : “منطق الطّير” وقصص أخرى قصيرة جدّا .

لعنة الدّمّ      اشتعل الضّوء الأخضر فانطلقت العربات تجري عبر خطوط متوازية، باستثناء خطٍّ واحد …

| حسن سالمي : صديقتي.. جِنيّة وقصص أخرى قصيرة جدّا .

صديقتي.. جنيّة كان لا يملك شروى نقير… صادف أن مرّ في الصّحراء وحيدا حينما عثر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *