لثرائه واتساع أملاكه ، نصحني قريب له أن أقصده لأستلف المال الذي احتاج إليه لزواج ولدي، ولأنني حديث العهد بالقرية ، طلبت من قريبه هذا أن يصطحبني إليه ولكنه اعتذر لأن الحاج فدعم ،كما جاء في اعتذاره ، لا يكشف عن أوراقه أمام الأقارب ولا يخرج درهما في حضورهم ، فإذا ما صاحبني لن أفوز بمرادي .ذهبت باكرا قبل خروجه من البيت .وقفت أمام باب بيته الكبير ، كنت مترددا. في هذه الأثناء خرج فلاح يحمل بيده منجلا ويحتضن كومة من الحشائش ، رأى وقوفي بالباب ولاحظ ترددي فأشار إلي بيده :
ـ أدخل .. الحاج موجود..
اجتزت الباب وسرت في ممر على جانبيه تقوم أعمدة مطلية باللون الأخضر الداكن تحمل سقفا من أشرطة حديدية تنتشر عليها حبال الكروم الممتدة من حديقة واسعة مترامية الأطراف الى يساره كان على طول الممر صفان من الأصص الإسمنتية العملاقة المغروسة بنبات الصبار ألشوكي والأزهار البرية الغليظة ..في نهاية الممر كانت ثمة درجات ثلاث عريضة وفسحة أمام الباب الداخلي للبيت كان الحاج هذه الساعة يجلس متربعا على كرسي من الخيزران خلف طاولة يلتف حولها عدد من الكراسي وقد بدت ساقاه النحيلتان بعدما انحسر عنهما ،جلباب قديم مقطوع الأزرار ، ممزق من تحت إبطه الأيمن كان يجلس متهدل الصدر تبرز عظام أضلاعه وتبدو شعراته القليلة البيضاء. ما أن رآني حتى هتف : ـ حيّهم..يا هلا.. يا هلا .
رددت تحيته وقلت مبتسما وأنا أصافحه : ـ أنا جارك الجديد..
ـ أعرف ..الله محيي الجار .
وأشار علي بالجلوس ثم اخذ يسألني عن أحوالي وكيف رأيت القرية، فأجبته مطمئنا. قلت مع نفسي لأدخل بالموضوع وأعجل بذكر ما أتيت من أجله مادام الصباح في أوله ، قبل أن يغمر الرجل بشواغله ..
قلت له: ـ يا حاج أنا جئتك بطلب..
قاطعني قائلا ـ طلبك مجاب، لكن ليس قبل أن نأكل لقمة معا ، ليكون بيننا زاد وملح ..وأنت سيد العرفين .
وجلست صامتا وهو يراقب الفلاح ، يعمل بالحديقة فيبدي ملاحظاته له بين الحين والآخر:
ـ ارفع شتلة البرتقال من مكانها وضعها هناك قرب شجرة النارنج ووسع الساقية أمام شجرة الرمان تلك وشذب شجرة الخوخ وما زال على هذا المنوال والفلاح يمتثل لملاحظاته.. ومر وقت والأكل لم يحضر. وجاء سائق سيارة حمل أوقف سيارته عند البوابة المفتوحة حتى النصف ومعه رجل يبدو إنهما يعملان لديه وطلبا منه مفتاح مخزن السماد سأل الحاج السائق عن عدد الأكياس التي يحتاجونها وكم حمّل في المرة الأولى والمرة الثانية وكم بقي لأبي مراد ومضى في محاورة الرجلين وأنا جالس فاغر الفم أتابع دقته الغريبة بالنقاش وبعدما اطمئن أعطاهما مفتاح المخزن ثم انصرفا وعاد الحاج يتطلع نحو الحديقة وهتف بالفلاح :
ـ يا أبا محمد.. ليس هنا موضع شتلة ألرازقي.
وهب من مكانه واقترب من مدخل الحديقة قرب الباب ثم وقف ودك بقدمه الحافية بقعة من التراب وقال بعصبية : ـ ضعها هنا لتنسجم مع صف الورد هذا .. أجل هنا.. وأنت سيد العارفين ..
ومضى الفلاح يحفر. فعاد الحاج الى مكانه وقال مستغربا وهو ينظر إلي : ـ لم يحضر الفطور بعد ..
وراح يصرخ : ـ أين الطعام .. يااولاد ..
وسمعنا صوت امرأة عجوز: ـ دقائق ويكون عندكم ..
وتوجه بكلامه الى الفلاح : ـ هكذا أفضل ، أليس كذلك .. هذه الشتلة تستقبل من يدخل الى الحديقة .. سمها عريف استقبال .. والتفت إلي وعاد يسألني عن الأحوال.
قلت : ـ الحمد لله ..و..
ولم أكمل حتى دخل علينا شاب في الخامسة والعشرين واخذ يصف أواني الطعام من صينية كبيرة ولما انتهى رفع الحاج كم جلبابه الى كوعه وتناول رغيفا وهتف بي : ـ مد يدك قبل أن يبرد ..
اعتذرت ولكنه ألح علي فمددت يدي الى السفرة . رفعت لقمة الى فمي وقبل أن أضعها في حلقي اخذ الحاج يحدثني وهو يأكل بنهم عن حياته وكيف صنع نفسه بنفسه ويعظني بان لا احد ينفع في الشدائد غير ذراعك وطال حديثه فظللت امسك باللقمة وانصرف اهتمامي الى ما يقوله ورفع لقمة الى فمه ودسها في حلقه .
وهتف ـ ولدي حامد..
فخرج إلينا الشاب الذي جلب الطعام.
ـ نعم أبي..
ـ أين مضى أخوك سلمان .؟
ـ ذهب الى بيت راشد ..
ـ ماالذي يفعله هناك.؟
ـ يعيد له السيارة التي اشتراها منه .
ـ لماذا إذن اشتراها.؟
ـ عطلاتها كثيرة ولم تعجبه.
وكدت أضع لقمتي في فمي لكن الحاج نفض يده من الطعام وصاح بغضب :
ـ لن يردها راشد ..
وواصل : ـ سيقتتلان أنا اعرف راشد مثلما اعرف ولدي سلمان .. ورب الكعبة سيقتتلان.
أعدت اللقمة الى الصحن وجلست ساكنا لا اعرف ماذا افعل. وهب الحاج من مكانه وطلب إلى ابنه حامد أن يذهب الى بيت جده وينادي قاسم اكبر أولاد عمه ويلحقا به الى بيت راشد . فامتثل الشاب الى ما قاله أبوه ومضى وجلس الحاج ساهم الفكر. ثم عاد وحمل قطة خبز وراح يدفعني للأكل ترددت قليلا ثم جاريته ومددت يدي الى الطعام. ولم تمض برهة من الوقت حتى دخل رجل وقال بصوت عال :
ـ يا حاج فدعم .. سلمان وحامد وقاسم محجوزان في مركز الشرطة .
سأل بفزع : ـ لماذا .؟ ماذا جرى .؟
ـ ضربوا راشد حتى أدموه .
قام الحاج مشدوها ومد رجله تحت الكرسي وادخل قدميه في نعله وولج الى الداخل وخرج وقد لبس ملابس فاخرة ” الصاية والعباءة والكوفية والعقال ” وتركني وانطلق مع الرجل دون أن ينتبه لوجودي . . تلفت حولي فرأيت الفلاح منهمكا بعمله في الحديقة وكأن شيئا لم يحدث .. نهضت واستدرت نحو الباب وسرت عائدا الى بيتي بخفي حنين وأنا متعجب مما يجري نادبا حظي السيئ ، متألما لأنني لم استطع أن ابلغه طلبي.وفكرت في إعادة المحاولة والذهاب إليه ثانية ، ولكن ليس قبل مرور بضعة أيام . إلا انه فاجأني بما لم أكن أتوقعه .. عند المساء كنت جالسا استرجع للمرة الثانية ما حدث وابتسم لطرافة شخصية الرجل وعفويته وأتصور حركاته ونبرة صوته وطريقته في الكلام وأتأسف للحادث الذي حصل، حين طرقت الباب ، فتحت فوجدت حامدا ابنه أمامي:
ـ سألته عسى أن تكون المشكلة انتهت على خير..
فضحك وقال : ـ هذه المشاكل تحصل كل يوم في القرية.. فلا تشغل بالك بها
ودس يده في جيب جلبابه واخرج كيسا فيه مبلغ من المال يفوق حاجتي وقال بود :
ـ أبي يقول لك ، هذا المبلغ لتمشية أمورك.. وإذا احتجت ثانية، فسيكون في انتظارك .
عصام القدسي : المقابلة ..
تعليقات الفيسبوك