ناطق خلوصي : مظاهر التحول الاجتماعي والفكري ـ السياسي في رواية “الظلال الطويلة”

natek 4تضفي الصراحة والموضوعية ووضوح الرؤية والجرأة في التناول ، قدرا ً واضحا ً من المصداقية على العمل الروائي ــ أي عمل ــ حين يعتمد كاتبه هذه الخصائص فعلا ً ، وقد تحقق هذا ، على ما نزعم ، في رواية ” الظلال الطويلة “التي صدرت في طبعتها الثانية مؤخرا ً ، وهي رواية ، أمجد توفيق ، الرابعة بعد ” برج المطر ” و ” طفولة جبل ” و” الطيور الحرة ” فضلا ً على مجموعاته القصصية الخمس التي بدأها بـ ” الثلج .. الثلج ” التي صدرت عام 1974 .
تقع هذه الرواية في 309 صفحات ، واذا طوينا المقدمة ـ الدراسة التي كتبها الدكتور خالد علي مصطفى ، والمدخل الذي كتبه الروائي نفسه ( ويفلسف فيه رؤيته ) ، فإن النص يتوزع على أحد عشر فصلاً ، اختصت الستة الأولى منها بالحضور السردي ، وبشكل متواتر، لشخصيتين محوريتين تفصل بينهما مسافة واسعة من نماذج الأخلاق والمركز الاجتماعي والمواصفات الشخصية والمستوى الفكري ،سعة المسافة المكانية بين بغداد وباريس ، وهما المكانان اللذان جرت فيهما الأحداث . لكن هذا الحضور السردي ما يلبث أن يتداخل فتلتقي الشخصيتان المحوريتان معاً بدءاً من الفصل السابع لتتلاشى الفوارق التي كانت تفصل بينهما فتصبح الغلبة للطرف الثاني ( العاهرة انتصار) على حساب الطرف الأول ( السياسي بشار) ، في انقلاب صريح لكل المعايير في ظل الاحتلال . .
كان واضحا ً ان الرواية هدفت الى إدانة الحرب والاحتلال الأمريكي للعراق دون أن تغفل ( في الوقت نفسه ) ادانة الأخطاء التي وقعت في السنوات التي سبقتهما ، وتجلت الصراحة والموضوعية ووضوح الرؤية وجرأة التناول هنا بشكل واضح فقد كان الروائي من شهود تلك المرحلة وما حفلت به من وقائع لم يتردد في الكشف عن جوانب منها ،مثلما هو شاهد على فضائع أيام الحرب وسنوات الاحتلال ، لذلك كتب ما كتب وفق ما يمليه عليه ضميره الوطني ، فرسم صورة حقيقية لما حدث خلال تلك المرحلة ولما أحدثته الحرب وأحدثه الاحتلال من خراب طال القيم والأخلاق بشكل خاص وأحدث ما أحدث من تحولات في البنية الاجتماعية وفي المواقف الفكرية ـ السياسية للأفراد ، تحوّلت معه عاهرة إلى” خاتون ” وسيدة قصر تملي كلمتها على الآخرين ، وتحوّل أحد الملتزمين حزبيا ً ،عن أفكاره وخرج على النظام الذي كان يعمل في خدمته طويلا واستمتع بامتيازاته الاستثنائية داخل العراق وخارجه ، فاستجاب لإغراءات جهاز مخابرات أجنبي عن وعي .
كان بشار هذا حزبيا ً في موقع متقدم ، مالبث أن اختلف مع حزبه حول بعض التوجهات فعوقب ( !) بأن تمّ ارساله الى باريس ليكون مسؤولا ً عن التنظيم الحزبي هناك ، وكأن الروائي أراد بهذه الاشارة ، أن يدين ما كان يحدث من ممارسات استغلال المنصب لأغراض شخصية، يؤكده قوله عن بطله هذ ا : ” في باريس تيقن ان عشرات بل مئات الشخصيات الزائرة التي تأتي من البلد على شكل وفود تحت أغطية مهمات وواجبات وأعمال ، تأتي لأجل التسلية والاستمتاع بفرص خلقوها لأنفسهم أو خلقها لهم آخرون دون أن يكون لها رصيد فعلي في تحقيق هدف أو منفعة . في حديث مع أحد سفراء بلاده ، قال السفير :
ــ الكل يعرف ذلك، وثمة نكتة قديمة تقول اذا كان طريقك الى الكويت ، فاجعل خط سيرك بغداد ــ باريس ــ الكويت ” ( ص 80 ) ، و ” وكتب زميل ملاحظاته الى وزارته فكان الاتهام جاهزا ً: انه يحاول أن ينفرد بالمتعة والامتيازات . ” (ص81 ) . amjad tawfikويواصل الروائي ايراد أمثلة مماثلة بهدف الايحاء بايجابية بطله فيقول بالنيابة عنه: ” وأضاف السفير :
ــ هل تعلم ان وكيل وزارة ومديرين عامين زاروا باريس تحت غطاء تسليم دعوات الى مثقفين
وشعراء لحضور مهرجان يقام في بغداد ؟ !
سأل بشار ضاحكا ً :
ــ وهل سلموها فعلا ً ؟
قال السفير :
ــ لا .. تركوها في السفارة ليقوم أحد المستخدمين المحليين بتوزيعها . ” ( ص 81 )
وإذ شاء الروائي أن يؤكد على ايجابية بطله بشار من خلال ذلك ، فإنه أسقطه في المقابل فأظهره بسلوك يشي يهشاشته الأخلاقية والاجتماعية والفكرية . فعلى الرغم من انه متزوج وله ابنة شابة ( وكانت زوجته وابنته معه ) فقد أقام علاقة خارج اطار العلاقة الزوجية ، مع فنانة تشكيلية فرنسية شابة اسمها ايزابيل، تبين انها مرتبطة بالمخابرات الآمريكية التي اتضح انها هي التي وجهتها نحوه للايقاع به في حبائلها ، بهدف التأثير عليه لإسقاطه سياسيا ً واغرائه للتحول الى صفوف المعارضة . ومن مظاهر هشاشته الفكرية انه استجاب لهذا الاغراء وارتضى أن يضع نفسه تحت حماية جهاز المخابرات ذاك وبما يتعارض مع طبيعة انتمائه السابق . وبلغت هشاشته الفكرية والنفسية ذروتها حين عاد الى بلاده بعد الاحتلال ليجد نفسه في مواجهة محنة اختطاف ابنته الوحيدة ” أمل ” واضطراره للاستخذاء أمام العاهرة انتصار ، وكأن الروائي أراد هنا أن يعاقبه على هشاشة شخصيته مرة أخرى .
أما الشخصية المحورية الثانية فهي ” انتصار ” التي كانت تعيش بادىء الأمر في بيت قديم يقع في حي شعبي ” مع شقيق صعلوك مخمور يتلقى الصدقات والاكراميات من الراغبين في المتعة مع شقيقته “( ص 42 ) ، وكأن الروائي أراد أن يلقي الضوء على سقوطها الأخلاقي على نحو مباشر، وهو السقوط الذي كان وراء انتقالها من موقع اجتماعي الى موقع مغاير وفرّه لها الاحتلال . وتتحدث الرواية عن الكيفية التي قفزت من موقعها الاجتماعي المتدني الى موقع مغاير تماما في تحول مفاجىء قد يبعث على التساؤل عن القدرة التي مكّنتها من المشاركة في السطو على البنك المركزي والسهولة التي تم بها ذلك . kh amjad tawfek
تقول الرواية : “عندما وصلت البنك المركزي ، كان الرصاص قد توقف تقريبا ً ، والمنطقة غارقة في الظلمة ، والباب موصد . تلمست الحائط ، فوجدت نافذة مكسورة وحديدها محطم ” ( ص 43 ) . كل شيء إذن كان مهيئا ً أمامها للقيام بعملية السطو، فقد ارسلت الصبي الذي كان معها الى البيت لجلب مصباح يدوي موضوع الى جانب سريرها . فوصل الصبي ” حاملا المصباح ، رفعته نحو النافذة ، وطلبت منه النزول الى الداخل. ما ان أصبح الصبي في الداخل حتى ناولته المصباح وأمرته أن يبحث عن رزم النقود ويسلمها لها ، وفي أقل من نصف ساعة، كان كيسان كبيران من أكياس الدقيق ممتلئين برزم الدولارات والدنانير ” ( ص 44 ) وقامت بسحب الكيسين الى بيتها بمساعدة الصبي دون أن يعترضها أحد على امتداد المسافة بين موقع البنك المركزي وموقع بيتها في الحيدرخانة. هكذا إذن حدث التحول المفاجىء في حياتها وجعلها تتسلق السلّم الاجتماعي على عجل حتى بلغت قمته في وقت استثنائي ، فاشترت دارة جديدة واسعة في المنصور وتركت بيتها القديم في”الحيدرخانة ” لخمسة أشخاص كانوا يزورونها في بيتها القديم الذي كانت تعيش فيه أيام ممارستها البغاء .
الأشخاص الخمسة هؤلاء كانوا قبل سنتين ” نزلاء عنبرالأحكام الثقيلة في سجن ( أبو غريب ) مثقلين بأحكام الاعدام التي ينتظرون أن تنفذ بهم في أي يوم.. …… جمعهم السجن ، ووحدهم الحكم بالموت ، ,آخى بينهم انتظار تنفيذ الحكم ” وكانوا يقومون بعد اطلاق سراحهم بـ “سرقة سيارات / خطف أشخاص والمطالبة بفدية / ابتزاز تجار / اعتداءات / حوادث قتل / مجالات أوغلوا في الغوص بعتمتها ولؤمها وقساوتها .. ” ( ص 41 ) ، وكأن الرواية أرادت هنا أن تدين عملية اطلاق سراحهم قبل الحرب ليعاودوا ممارسة أعمالهم الاجرامية .
لقد أصبح هؤلاء الخمسة تحت سطوة انتصار وصاروا يدها الضاربة في تنفيذ ما كانت تطلبه منهم . ويدخل الأمريكان على خط السرد عند قيام عصابة انتصار باختطاف احدى المجندات واحتجازها خفية في بيتها ، لتتوالى الاحداث التي تفضي الى تعاون الامريكان مع انتصار بما يحمله ذلك التعاون من دلالة وبما يرمز به الى طبيعة الصلة التي تربط بين المحتل و الأشنات البشرية التي تطفو على سطح المجتمع في الظروف الاستثنائية في أي بلد يتعرض للاحتلال .
لقد كان للمكان دوره في حدوث حالات التحول الاجتماعي والفكري ـ السياسي التي طرأت على سلوك ومواقف الشخصيتين المحوريتين اللتين وضعهما الروائي في بؤرة الاهتمام ، لتنسحب الشخصيات الثانوية الى الهامش . فقد كانت انتصار تعيش حياة المهانة في بيتها القديم في منطقة الحيدرخانة ، وهي منطقة شعبية قريبة من موقع المبغى العام الذي كان قائما ً وتم اغلاقه رسميا ً وإن ظلت بقاياه دورا ً متناثرة هنا وهناك . غير انها تحولت تماما ً ، سلوكا ً ونمط حياة ، وطبيعة علاقات ، عندما انتقلت الى منطقة المنصور الراقية . اما بشار فقد أتاح له كونه في باريس ( موقع اقامته الجديد ) بعيدا ً عن الرقابة ، فرصة التمرد بحرية على واقعه السابق اجتماعيا ً وفكريا ً وسياسيا ًوأخلاقيا ً أيضا ً . لاسيما بعد أن ارتبط بايزابيل ، وإن كان كل ذلك قد تم بغطاء حماية من الأمريكان .
هل نقول ان الرواية أرادت أن تعاقب بشار على عودته الى الوطن ؟ لقد كانت زوجته نسرين تلح في رغبتها في العودة الى بغداد بعد أن استبد بها الحنين اليها ، فاستجاب لها بعد تردد .. وربما كان هناك دافع خفي لاستجابته لتلك الرغبة هي غير الاعتقاد بأن سرقة اللوحة التي رسمتها له ايزابيل من المعرض قبل افتتاحه كانت قد أوجعت روحه ودفعته الى مغادرة باريس، وهو مبرر لا يكفي لاقناع رجل في مثل موقعه . لعله كان يطمح في مواصلة العمل مع الاحتلال من أجل الحصول على منصب كبير في بغداد وكان قد حصل على توصية بالمساعدة من المخابرات الأمريكية ، لكنه وقع تحت سطوة انتصار ( بما ترمز اليه ) ، فخسر بيته وكاد يفقد ابنته ، فكان ان عاد الى باريس بجسد مضعضع وروح عليلة ، عودة الإبن الضال !

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *