مروان ياسين الدليمي : قراءة نقدية في رواية بنات الرياض* للكاتبة السعودية رجاء الصانع ؛ السخرية في مواجهة السلطة

marwan yasinتوضيح لابد منه :
*صدرت الرواية عام 2005 عن دار الساقي،وكان عُمْر رجاء الصانع انذاك لم يتجاوز 23عاما ،وهذا بحد ذاته يعد تفردا وخصوصية في مسار الكتابة الروائية العربية يحسب لصالح المؤلفة،لم يسبقها إليه احد.وحال صدورها تعرضت الرواية الى حفنة كتابات نقدية توزعت مابين التجريح والاحتفاء.وقد يسألني سائل :لمَ تأخرت في الكتابة عنها كل هذا الوقت ؟، في حقيقة الأمر ليس هنالك من إجابة فيها شيئ من الغرابة لهذا السؤال الوجيه الذي يفرض نفسه ولامفر من طرحه،سوى اني لم احصل على الرواية في وقتها،كما أنّي كنتُ مشغولاً عنها بكتابة الشعر وهذا ماابعدني عن الاهتمام بها ،وبالكتابة النقدية عن الفن الروائي بشكل عام،وعندما توفرت الفرصة ــ هذه الايام ــ بعد أن طلبت مني احد الصديقات(تستعد لتحضير رسالة ماجستير عنها )ان اقرأها واكتب عنها قراءة نقدية،وجدت نفسي مستعدا للكتابة عنها.

سرد سيرذاتي
جاءاختيار صيغة المذكرات كوحدة اسلوبية في البناء السردي،موفقا الى حد كبيرخاصة وانها الأقرب الى عملية البوح لخفايا الذات والعلاقات الانسانية في مجتمع شرقي خليجي، خاصيته تكمن في خضوعه لجملة من التابوهات لايستطيع الفرد تجاوزها حتى وإن كان يبدو ــ كما جاء في الرواية ــ مجتمعا معاصرا،من الناحية الشكلية تتمظهر افقيا على سطحه الحياة الحديثة،إلاّ أنه في عمقه ــ عموديا ــ يقبع رهينة عادات وتقاليد اجتماعية ثقيلة،اضافة الى سلطة دينية ليس من السهل تجاوزها وفيما لو تجاوزها الفرد ستضعه عند عتبة يكون فيها اقرب الى يواجه مصيرا بائسا.
لم يغب عن بال رجاء الصانع انها ابنة البيئة التي تتصدى لها في روايتها ،وانها ستواجه صعوبات جمة سواء في عملية نشرها أوفي وصول خطابها الى هذه البيئة ذاتها،لذا وضعت في حسبانها ضرورة أن لاتتعثر عملية نشر الرواية وضرورة ايصال خطابها في كشف المستور والمخفي من العلاقات ،وقد شخصت بوضوح انها قد اصبحت أقرب شبها الى الموضع الذي وجد نفسه فيه القس الاميركي الاسود مارتن لوثر كنك عندما تصدى للتمييز العنصري في مجتمعه:”قد أواجه المصاعب الآن كما واجهها لوثر…ولم يقل أن ليس بالامكان إصلاح العالم ،وهاهو يذكر الآن كبطل من ابطال هذا القرن بعد أن عومل كمجرم في حياته ،قد اجد قليلا من المؤمنين بقضيتي الآن وقد لاأجد لكنني أشك في أن اجد كثيرا من المعارضين بعد نصف قرن من الآن “.
لم يكن للشخصية الساردة (موا )التي جاءت بصيغة ضمير المتكلم من غرض في كتابة الرسائل سوى أن تكشف عن شخصيات صديقاتها وهن يخضن صراعهن الحياتي في مجتمع يُخضع الانسان وخاصة المرأة الى سلطته خضوعا كاملا ،فكانت رسائلها التي كتبتها وفق مفهوم النص السردي السير ذاتي ــ يقتضي مفهوم السير ذاتي ان تتطابق فيه أنا المؤلف وأنا السارد وأنا الشخصية المركزية ــ بمثابة طرق على اسوار هذا المجتمع :”سيداتي سادتي أنتم على موعد مع اكبر الفضائح المحلية واصخب السهرات الشبابية .محدثكم (موا ) تنقلكم الى عالم هو اقرب لكل منكم مما يصوره له الخيال ” . ومع انها تخوض مغامرة خطرة إلا انها من الناحية الفنية تجنبت التورط بابداء رأيها حولهن وأكتفت بتقديمهن وفق رؤيتها الفنية التي صاغت بها الاحداث والشخصيات في الرسائل .rajaa alsane
اسلوب المذكرات ــ التي جاءت على شكل رسائل الكترونية ــ بدا كتقنية سرد ذاتية اكثرصلاحية في ايصال خلجات الذات الانسانية في وحدتها وهي تحاول ان توجه نقدا لاذعا للمجتمع لما يفرضه من قمع وتحريم .
اختارت المؤلفة ان ترتدي قناع الشخصية الساردة التي هي بنفس الوقت المؤلف الضمني،ومنحتها اسم (موا) ويبدو الاسم غريبا وقد لايكون له اي دلالة في اللغة العربية،لربما كانت محاولة من المؤلفة في ان تمارس لعبة لاتخلو من التشويق مع قراء الرسائل وهم يحاولون ان يتعرفوا عليها من بين الشخصيات النسائية الرئيسة .
الخمسون رسالة التي انتظمت على ارسالها الى جميع اصدقائها المفترضين على شبكة الانترنت كل يوم جمعة بعد صلاة الظهر لمدة ستة اعوام تتعرض الى حقيقة العلاقات الاجتماعية التي تحيط بالشخصيات النسائية الاربعة(قمرة،لميس،ميشيل،سديم)وما تتركه من اثر عليها،خاصة وان هذه العلاقات تحمل الكثير من الزيف والرسوخ في آن واحد .
محاولة المؤلفة الاختفاء وراء شخصية السارد (العليم بكل شيء)تأتي في اطار التمرد على نمط العلاقات الاجتماعية وتعريتها،وخيار نشرها عبر الانترنت كان تقانة سردية منحت الشخصية الساردة حريتها في البوح،هذا اضافة الى مايتيحه الانترنت من تفاعل يعقب عملية نشر الرسائل مع الاصدقاء المفترضين فيمنحها بعدها الاجتماعي في التأثير والحضور،كما ان تعليق الاصدقاء وتخميناتهم واعتراضاتهم عبر الايميلات على ماجاء في الرسائل من احداث ومواقف للشخصيات،شكل جزءا من مفردات تقنية السرد في اجرائية كسر الوهم السردي التي بشرت بها كتابات مابعد الحداثة،وافصحت عنه بشكل واضح كتابات مابعد القص، خاصة فيما يتعلق بتتدخل المؤلف السارد وتعليقه على الاحداث،بذلك تحققت عملية تفتيت الوهم مابين القارىء والنص السردي،وهذا مايشكل جزءا جوهريا من عملية البناء ولايصال والتلقي .:”اعترف بأن قدرات الناس على الربط والتحليل ماأنفكت تفاجأني،رسائل كثيرة وصلتني تسألني عن هويتي الحقيقية ،وهل اكون احدى الفتيات الاربع اللواتي اكتب عنهن هذه الايميلات ؟ولم لا ؟”.
كما تم الاعتماد على وحدة اسلوبية قائمة على استثمار نصوص قرانية واحاديث وجمل لكتاب وشعراء معروفين لكي تدعم من خلالها المؤلفة ماتود التعبيرعنه.وجاءت تلك النصوص في بداية كل رسالة،بذلك كشفت عن طبيعة المكونات الثقافية للشخصية الساردة ،ايضا افصحت عن حساسية الشخصية ومحاولتها الارتكاز على منطلق فكري يدعم ماتود ايصاله في من افكار،رغم غياب التآلف والانسجام في الاقتباسات بل على العكس وجود تفارق وتقاطع !، فمالذي يمكن ان يجمع مابين اشعار نزار قباني بكل ماتدعو اليه من تمرد عاطفي وجنسي ومابين نصوص مستلة من القران ؟ ،هذا يعكس اشكالية الوضع الوجودي الذي تعيشه ذات المرأة في بيئة محكومة باصول دينية واجتماعية، يمتلك كلاهما صفة التقديس والهيمنة ولايمكن الفكاك منها . kh rajaa alsane 2
ثنائية التمرد والخضوع الانثوي
تبدو نماذج المرأة هنا متنوعة في فرديتها بحدود ذاتها هي،ورغم ما يحيط الجميع من حدود عامة مجتمعية مشتركة إلاّ أن اي واحدة منهن لاتبدوعلى قدر كبير من الجرأة في مواجهة الحدود المجتمعية،فلم يكن لهن دور في تحديد مسار حياتهن ولاشكل النهاية التي انتهت فيها علاقاتهن العاطفية او حتى الزوجية ، رغم أن سديم حاولت ان توقف هذا الانسحاق امام سلطة المجتمع عندما رفضت الخضوع لخالتها بدرية بتزويجها من ابنها طارق طالب كلية الطب الذي يحبها بصمت مذ كانوا اطفالا،وحتى عندما وافقت على الانتقال الى العيش معهم في الشرقية بعد وفاة والدها اشترطت عليهم ان لايفرضوا عليها نمط حياتهم وان لايعاملومها وكأنها قطعة اثاث .
الماضي يرمي بثقله على حاضر ومستقبل جميع الشخصيات النسائية ،ولايمكن ان يتخلصن من اسواره،فكل واحدة منهن تعيش حياتها وفقا لما فرضه عليها،ومن الصعب ان تبدأ حياة جديدة وترمي خلف ظهرها ماضيها الشخصي،خاصة التجارب العاطفية،فكل الوظائف الاخرى التي يمكن للمرأة ان تثبت من خلالها وجودها وكينونتها لن تنافس اهمية تجربتها العاطفية مع الرجل.بذلك تتحول التجارب العاطفية وفق هذه الصورة الى قيد واستلاب بدل ان تكون رافدا يثري تجربتها الذاتية والانسانية،وهذا بلاشك يعود الى ماتعانيه الشخصيات من خضوعها للحدود الاجتماعية والاخلاقية التي تحد من حريتها بالشكل الذي تصبح التجربة العاطفية مع الرجل محوراً تتقولب شخصيتها في اطارها.
نبرة السخرية
ابرز مايمكن ان يلاحظ في اسلوب رجاء هو امتلاكها لروح النكتة والسخرية في نقدها للاشياء، فهي لم تتعمد ان تكتب رواية وفق مواصفات اعتادت عليها ذائقة القارىء العربي،إذ تخلت عن الانضباط ،والقياسات التي تحكم بناء الرواية المتعارف عليها،وانساقت الى ماتنطوي عليه شخصيتها من انفتاح على زمنها،فهي ابنة العشرين عاما التي تعيش عصر الانترنت،وهذا مابدا واضحا في بنية الرواية،فكان معمارها الفني اقرب الى نمط الرسائل المتداولة عبر الايميلات الالكترونية،بما تحمله من استعارات لحكم واشعار وايات قرآنية، حرصت على أن تبدأ بها قبل سرد رسائلها .
حملت الرواية جرأة واضحة في نقد وتشريح العلاقات الانسانية في المجتمع السعودي،عبر التركيز على شخصيات نسائية.وكان اختيار الشخصيات النسائية اكثر تعبيرا عن محتوى خطابها النقدي بكل مايحمله من تشخيص وجرأة،ذلك لان المرأة في هذا المجتمع الذي تنفرد سلطة الذكورة في حكمه هي العنصر الاضعف،ولاتملك في جميع الاحوال قرار حياتها ومصيرها،حتى لو اجتازت عتبات كثيرة من التعليم والتقدم في مشوارها المهني،إلا انها تبقى اسيرة وخاضعة له،حتى أن المرأة الغير متعلمة وفي كثير من الحالات تبدو اكثر حظا وسعادة من المتعلمة، لانها لاتعي عبوديتها، ولذلك هي لاتعيش وضعا تراجيديا محكوما بصراع ثنائي مع نفسها ومع المجتمع كما هو حال المرأة التي يتفتح وعيها بالعلم والمعرفة والدراسة والتجارب التي تعيشها خارج بيئتها.
تبدو جميع الشخصيات النسائية ضحايا،أمَّا الشخصيات الرجالية فلن تكون اكثر من كائنات لاتعطي للعاطفة والمشاعر الانسانية ازاء المرأة ماتستحقه من اهتمام،بل على العكس تحمل في داخلها نظرة دونية بموجبها يصبح من السهولة أن تخلعها من حياتها.
لم تكن شخصيات الرواية النسائية فقط تحمل ضعفا وخضوعا للمجتمع ،فالشخصيات الرجالية هي الاخرى حملت ضعفا وخضوعا امام هذه السلطة كما هو الحال مع شخصية فيصل الشاب الانيق الوسيم الذي وجدت فيه ميشيل (اسمها الحقيقي مشعل) نموذجا جديدا يختلف عن الشباب السعودي لكنه اتضح لها فيما بعد بأنه لايختلف عنهم شيئا فقد تخلى عنها بعد ان رفضت والدته ان يتزوجها،فخضع لرغبتها متنازلا عن ذاته :”أخبرها نصف الحقيقة.قال لهاان والدته لم تؤيد فكرة زواجه منها،وحدثها بما داربينهما تاركا مهمة استنتاج الأسباب الواضحة لغضب الأم .لم تصدق ميشيل ماتسمع !أهذا فيصل ألذي أبهرها بتفتحه ؟يتخلى عنها بهذه البساطة لأن امه تريد أن تزوجه فتاة من وسطهم؟”. ميشيل هي الشخصية الوحيدة التي تكاد أن تكون تعي ماتريد ان تفعل وتختار وتدافع عن خيارها ورغم فشل تجربتها مع فيصل إلاّأن ذلك لم يجعلها تنكسر واعتبرت هذا الفشل جزءا من رحلتها لاكتشاف ذاتها،وعندما حانت الساعة لكي تصفّي حسابها مع من خذلها في لحظة من حياتها، لم تترد ،بل أقدمت على تصفية الحساب وهي بكامل وعيها وشجاعتها.فما كان منها إلاّ أن تذهب الى القاعة التي يقام فيها حفل زفاف فيصل على شيخة التي اختارتها له والدته :” وجدت نفسها تتجه الى الممر الطويل لترقص .كانت المرة الاولى التي ترقص فيها رقصا خليجيا …بدت منطلقة وسعيدة ،رقصت وغنت في تللك الليلة وكأنها الوحيدة في تلك القاعة ،إنه احتفال خاص بها للأعتراف بنجاحها وصمودها ،احتفال بتحررها من ان تصبح عبدة للتقاليد كبقية النساء التعيسات اللواتي تغص بهن القاعة “.
هنا تبدوالعلاقة العاطفية لدى الشخصيات النسائية تأخذ اهمية كبيرة مقارنة مع الشخصيات الرجالية،فشخصية قمرة على سبيل المثال رغم طلاقها من راشد إلا انها كانت تشعر بحاجتها الماسة اليه خاصة بعد طلاقها :” لم تلاحظ يوما أهمية وجود راشد في حياتها حتى خرج منها .عندما تضطجع على جانبها الأيسر وركبتها اليسرى تكاد تلتصق بذقنها بينماساقها اليمنى ممدودة ،فلاتجد قدمها قدم راشد الى جانبها ،تتقلب كثيرا وتشعر بأن السرير يشتعل من تحتها ،أو أن خيوطه تتحول إلى إبر تنغرز في مسام جلدها “.
فضاء المكان
تبدو سلطة المكان باعتبارها فضاء معماريا في هذا العمل غائبة لكن هيمنتها تبرز وبقوة من خلال فضاء العلاقات الانسانية،فالمكان هنا يفرض حضوره باعتباره فضاء اجتماعيا وليس معماريا،ويشكل القوة الاولى التي تتحكم بمصائر الشخصيات،ورغم ان المؤلفة لم تول اهمية لشرح تفاصيل الامكنة التي تعيش او تتواجد فيها الشخصيات،ولم يبرز بحيَّزه المعماري، إلا أنه يكتسب وجوده من خلال الحضور الانساني ونمط العلاقات الاجتماعية وماتفرضه العادات والتقاليد بكل ثقلها وهيمنتها .
سلطة الجنس
لم تتوغل بتفاصيل العلاقات الجنسية إلاانها عالجتها بشفافية عالية وهذا ماينم عن ادراك كبير لأهمية التلميح والايحاء في بناء الفكرة،من غير التورط في المباشرة ،بنفس الوقت فإن اللجوء الى التلميح يكشف عن حساسية الموضوع العالية وخطورته من الناحية الاجتماعية،وهذا مادفع المؤلفة الى ان تكون حذرة في طرحها لموضوعة الجنس،ورغم جرأتها في الطَّرق وبقوة على جدار العلاقات السائدة إلا انها لم تمنح نفسها تلك الجرأة في تناول العلاقات الجنسية بشكل واضح وصريح.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *