جلست على فراشي ، وضعت وعاء الشاي على الموقد أمامي . ثم تمددت على السرير،أراقبه . وحالما اخذ يغلي سكبت لي قدحا ومضيت أرتشف منه رشفات متقطعة على إيقاع الأفكار التي كنت اقلبها وأنا أحاول أن أروضها فتحملني وتدور بي في دائرة الحسرة والألم ، أتأمل ما ضاع من عمري ..تذكرت كيف هجرت المدينة وأنا شاب وكيف سرقتني الأعوام ولم أفق إلا وأنا على مشارف الخمسين.. وأخذت أتفكر بأعوام قضيت جانبا كبيرا منها في خدمة أرض الأغراب وحيدا لا أسرة ولا جاه حتى غادرتها الى ارض جديدة ومالك جديد لأسكن في العراء بيتا طينيا من غرفة واحدة. وشعرت بالنوم يداعب أجفاني أغمضت عيني وكدت أنام وإذا بي اسمع نباح كلب حاد تبتعه صرخة قوية تأتي من وراء السياج ، وضعت القدح جانبا وأخذت المصباح اليدوي من تحت وسادتي وعصاي الغليظة وخرجت مرتبكا أبحث في الظلمة.. فتشت أولا، فناء البيت وطلعت الى الدرب وبحثت بين بقايا الآلات القديمة الصدئة للمضخات المهملة القريبة ،فلم أعثر على شيء ..نزلت الى الحقل الذي يقع خلفها، دسست جسدي بين الأشجار.. سرت بين السواقي فلم أر شيئا.. وعاد الكلب للنباح فتكررت الصرخة اقتربت من مصدرها شيئا فشيئا فرأيت شبحا نحيفا يقف وسط الزرع ثم لم يلبث أن اختفى في الظلمة هتفت :
ـ من هناك ..
ولبثت ساكنا في مكاني لحظات ، فلم اسمع ردا. استدرت لأعود من حيث أتيت ظنا مني أنني أتخيل ما رأيت وإذا بصوت يناديني بنبرة مرتجفة:
ـ عمي صالح …
اقتربت ودققت النظر ، كانت ثمة فتاة تقف خائفة خلف شجرة ، وهي تحمل صرة من قماش .
قلت :
ـ من أنت.؟؟
ظهرت أمامي وهمست:
ـ أنا كافي…
اقتربت أكثر وأجهدت البصر:
ـ ما الذي جاء بك..؟!! وكيف قطعت الطريق في هذا الليل المجنون .. ؟!!
قالت متوسلة :
ـ أرجوك لا ترفع صوتك ..
ـ ماذا حصل في القرية من مصيبة.؟.
قالت :
ـ لاشيء .
ـ ماذا إذن .؟!!
قالت بحزن :
ـ خذني الى بيتك .
دخلنا البيت . وفي الغرفة أشرت إليها فجلست الى جانب الموقد والريح تصفر موحشة في الخارج فتثير مشاعر الكآبة والحزن بيننا. كانت ترتجف من البرد، وهي تقعد صامتة وقد انحنى جسدها النحيف حتى كادت تلامس هامتها ركبتيها. وضعت أمامها الطعام فامتنعت عن الأكل وكان وعاء الشاي لم يزل ساخنا فسكبت لها قدحا ، شربت قليلا وكدت اسألها عن حكايتها لكننا ظللنا صامتين يسترق بعضنا النظر للآخر على ضوء المصباح الذابل المتجهم عل احدنا يتكلم ، حتى آذن الفجر بالبزوغ فألقيت عليها بعض التوصيات وغادرت الغرفة الى البستان الذي أرعاه وأنا أحاول أن أخمن ماتخبئه الفتاة نزلت البستان وتجولت فيه ولم أنجز”كما افعل كل يوم ” إلا النزر اليسير وبعد الظهر رجعت الى البيت فرأيتها قد بثت الحياة فيه ، فقد جلت الصحون التي أضعها أمام حوض الماء في الفناء حتى عودتي وغسلت ملابسي المتسخة التي احتفظ بها تحت سريري وكنست الفناء وأزالت عنه بعض الدغل الذي نما في أرضه ونظفت الغرفة ورتبتها بشكل يبهج النفس واغتسلت وصففت شعرها الأسود الفاحم كالليل ولبست ثوبا زاهيا أخرجته من صرت ملابسها واعدت طعام الغداء وجلست بانتظاري .حين دخلت استقبلتني بوجه طلق والابتسامة المشوبة بالأسى تسبقها إلي .جاءتني بإبريق الماء و” ألطشت” وراحت تسكب لي وبعدما انتهيت ناولتني المنشفة وذهبت وعادت بصينية الطعام .وجلسنا نأكل.. أدنت لقمة من فمها الصغير وجمدت يدها ورأيت دموعها تنهمر على خديها قلت بهدوء :
ـ أما آن لك أن تتكلمي .!!
وغصت بعبرة وتلجلجت الحروف على شفتيها الغضتين وهي تشير الى بطنها :
ـ انه مزهر .
قلت مستغربا:
ـ ابن الحاج سلمان .!!
هزت رأسها :
ـ قال لي اذهبي الى العم صالح وسأوافيك قريبا .
تكتمت على وجودها معي ومر الشتاء وجاء الربيع وأنا أراقبها وهي تكبر فتغادر سن السادسة عشرة فتصبح أطول وتستدير أردافها ويبرزا نهداها حتى يملآ صدرها وترتفع بطنها لتصبح امرأة تشع جمالا وان كان جمال موشحا بالحزن وولدت ” كافي ” بنتا أسميناها “زهرة” ملأت علينا البيت سعادة ورحنا نرعاها معا ، كنت سعيدا معهما وقد أصبحتا كل دنياي ،وحل الخريف وجاء شتاء آخر وتسألني بين حين وآخر :
ـ لم يأت مزهر..!!.ماالذي أخره..!!
وابتسم وأطمئنها بأنه يوما ما سيجيء ليرعى بستان الفاكهة بعدما نضجت ثماره …
وكرت الأعوام عام إثر آخر والطريق الى بيتنا موحش لم تطأه رجلا غريب .حتى كان ذلك النهار حين أحسست بوعكة وأنا في البستان فقررت الرجوع وما أن دخلت الغرفة حتى رايتها تقف في ” الطشت” تستحم.. ومن يومها والنوم لا يزورني إلا لماما.. حتى كانت ليلة عاصفة أطفأت المصباح برياحها وكتمت أنفاسه.. لأنهض بين الصحوة والنوم.. ولم البث أن أشاركها الفراش ظلت تلك الساعة خانعة كشاة تذبح وأنا اسمع أنينها .
في الصباح بادرتني وهي مطرقة :
ـ فلنتزوج .
لم اصدق سمعي ووافقتها دون تردد ..وكبرت سعادتي وأنا أراها تزداد أنوثة وطفلتها بين أحضانها تلاغيها وتلاعبها وتحممها وتلبسها أجمل الثياب وتمشط شعرها بعدما جاوز عمرها الأربعة أعوام.. كنت لفرط سعادتي كثيرا ما استيقظ في ساعة متأخرة من الليل وقد تيقظت في داخلي وساوس وأوهام شتى وراحت تنمو كالدغل وترتفع حتى تصبح كأشباح ترعبني يضطرب لها قلبي وتتقطع معها أنفاسي حتى أود أن اصرخ. وفي الصباح أهون على نفسي وأنا أراها تحوم حولي تعد لنا الإفطار وتجلس طفلتها تحت إبطها وتطعمها وهي تداعبها وتبتسم. كنت أخشى على سعادتي معها وأنا مستغرق في دنيا الأحلام حتى كان ذلك المساء حين سمعت طرقا على الباب فتحت فرأيته يقف بقامته المديدة وجسده الصلب كفرع السنديان أحسست بالدوار وكدت اهوي الى الأرض وأنا اهتف : ـ مزهر.!!
عصام القدسي : نخل السماوة
تعليقات الفيسبوك