لن أزيدَّ من قولِ الحقيقةِ شيئاً ؛ بل هي نطقتْ بقناعةٍ تامة وراسخةٍ ، لقدّ كان شاعراً كونياً بحق ووفق المعايير المتخِذّة بالتقييم ، شاعريتهِ تمثلتْ برؤى من طراز مبتكِر وخاص ،عصَّرَ أشياء مملكة” نيبور” في قارورة واستنشقها بعمقٍ، حتى أضحى” أسعد إنسان في العالم ” ، عاصرَ تعاسة الهم اليومي بكل تبدلاتهِ وإشكالاتهِ ؛ خطوة بخطوةٍ ، طرق أبواب عِلّم البيان ووظف نصوصهُ بصدق الموروث ،والمثل السائر ، والتناص القرآني ،والتشبيه ، والمرموز ، والإستعارة ، والكناية، والسخرية والتهكم ،كي تتواءم مع وجعهِ اليومي الأبيض ،لم يماثلهُ شاعرٌ في هذا المضمار سوى ” نزار قباني” هو الآخر أخلص لرؤاهُ ، لكن بطبيعة رومانسية خارقة ومغايرة عن كزار، فـ ” نزار” في وصفهِ أشياء المرأة بدقةٍ متناهيةٍ ، لكنّ بإيحاء شبّقي عارم ، تسلّلَ خِلسةً إلى حقيبة المرأة ، ورأى ما يُسحِرهُ ففصَّل من أشيائها عباءةً يغطي بها رؤاهُ .
كنتُ قد كتبتُ بهذا المضمون دراسة عنونتها ” الشاعران نزار قباني وكزار حنتوش – شِراكة مساهمة بماركة مسجلة شعرياً ” لكني لم أنشرها متفادياً تشنجات المريدين للذائقة ، ولتباطئي أتلفتْ سهواً مع مسوداتٍ مهملة ، كنتُ مقتنعاً بصواب رأيي في حينهِ ، لكن إزدادت قناعتي أكثر حينما قرأتُ مقالة عنوانها ” قضية للمناقشة – هل كزار حنتوش شاعرٌ عالمي ؟” للناقد د. حسين سرمك حسن ؛ قال فيها : إن بصمة” كزار” الشعرية فريدة وخاصةً مِثل الشاعر ” نزار قباني ” ألبس قصيدة التفعيلة قميصاً وبنطلوناً وجعلها تدور في الباصات وتجلس في المقاهي ” نعم هكذا أرادها” نزار” أن تكون مدنية الطِباع وعصرية تبرز مفاتنها ، لهذا زج بمفرداتهاِ طعم بنكهة الـ ” الشيكولاته– النستلة – الليمون ” يصقلها و يسلفنها بهذه الروائح ، لكن ” كزار ” أبقى عليها هندامها الفضفاض الآصيل ومنحها حرّية التجوال في بيئتها بعفوية ، رشّ على مفرداتهِا الحُرّة رائحة الأرض وعبقها .
كلاهما أوفيٌّ لرؤاهُ ؛ كزار مسَّد على جسد الأرض وشم عطرها الأبيض فغاص بعمق الطين الحري ، ونزار تسلقَ جسد المرأة ،وأعتلى القِمة ، وأعلن ثورتهِ من هناك ، فـ ” نزار ” مهما تصنعَ في رؤاهُ فهو شاعرُ كونيٌّ يشارُ لهُ بالبنان .
يلاحظ من ذلك العمومية في نص كزار ، والخصوصية في نص نزار ، لكن الفرق في الحرف الأول من إسميهما – ك- ن ، ربما من الإستقراء التتابعي كانت الحصيلة – كاف – كزار \ كامل – عموم –شامل – إيثاري و- ن – نزار \ ناقص – حصري – خاص– نرجسي ،فقد تكون هناك عواملٌ ساندت ” نزار ” في اعتلاء العالمية دون ” كزار ” مثلاً وسامتهِ بزرقة عينيهِ وإرستقراطيتهِ ورنة إيقاع إسمهِ ومنصبهِ ، هذه التي لم تؤهل ” كزار ” لِما أنشدهُ لهُ ، ربما !..، في حين شكلت قصائد “كزار” برمتها مشهداً بانورامياً يسطعُ بكل الإتجاهات ، كوةٍ تطلُ على عالمٍ يتنزهُ من الموروث بحجة الحداثة ، ويراوغ عن مفرداتٍ خشِنةَ نطقها بها أسلافهِ ، أما هو فكان مبهوراً بشمولية الحِس الكامن بالأعماق ، لهذا جاءت نصوصهِ بصياغتها العفوية النادرة، وأروع ما قالهُ في قصيدة ” لا تأتِ .. إنما تعالَ ” ومقطعها الذي يتناسب مع شعورَ كل محبٍ تأفف لموعدٍ طالً يقول :
دخِنْ … وأغمز في السِّر … رفيق الخندق
دع قلبي يصعد دخان تنانير
يكتبُ فوق الصيف :أحبك ِ
ولماذا فاض إناء الصبر لديك !
وتجعد وجهك ، كقصيدة حُبٍ في جيبَ
عريفٍ في الجيش
” كم ينشرها عشرات المرات ، ويطويها في اليوم ” في نصهِ خطاب للآخر- استنتاج شامل كم هي صادقة مشاعرهِ !..
في حين وظف “نزار” – حرف التشبيه – الكاف – في قصيدة ” مشبوهة الشفتين” يقول
شفتان .. مقبرتان شقهما الهوى \ في كلِ شطر أحمر تابوت \ شفة كآبار النبيذ مليئةٌ \ كم مرة أفنيتها وفنيت \ الفلقة العليا دعاءَ مسافرٍ \ والدفء في السفلى . فأين أموت ؟! نرى في هذا المقطع من خصوصية الأنا المتجسدة في شعرهِ .
هما شاعران كلٌ لهُ بصمتهِ ،فـ كزار ينتقي بعفوية وببراءة أقرب إلى الإرتجال بمفردة ما؛ يصوغها ،يلبسها ، يكسيها ،يهندسها على فصالهِ تماماً ، ويوظفها في الهواء الطلق وعلى المكشوف ، لم يعرف التصنع في حياتهِ ،في حين كان يخطط ” نزار ” إستحضارات للمفردة قبل توظيفها ،فـ كزار يطلقها على هداها ، وكما روت زوجتهِ الشاعرة” رسمية” لا يزوق نفسهِ بل يطرحها على الورق كما هي ” هي لغتهِ الخاصة به ِشعرياً. حتى غدّت علامة فارقة – ماركة مسجِلة ، مدرسة خاصة لرؤاهُ فقط ، سهلة الألفاظ لكنها مستغلقة وعصيةٌ المطاوعة لا تفتح إلا بحبكة من مَثل أو ضربة قاسية من سخرية لاذعة ، بيضاء كنصاعة روحهِ ، وما أروع نصهِ هذا الذي أختزل بهِ كل الصفاء والإخلاص بالعشق – عوالمهِ الأرضية راسخةٌ تماماً برؤاه ،– الطين الحرّي – الماء – ما أعظم التشبيهِ بالأصالة ! يقول :
أنتِ الطين الحرّي
وأنا الماء
فلنمتزج الآن
” قيمر معدان ”
حيثُ يلاحظ للمتلقي عند قراءة أعماله الشعرية الكاملة ، يرى بأن مفردة اللون الأبيض طاغية فيها من دون بقية الألوان الأُخرى ، بدءاً من \ القلب الأبيض – الألم الأبيض – الجرو الأبيض –المقبرة البيضاء –الكُرّاس الأبيض – قطيع أبيض – الغيم الأبيض – نرجسة بيضاء – دمي الأبيض – طيور بيضاء… إلخ، هذا ما رصدتُ في نصوصهِ عدا التي ذكرها بصيغة إستعارة أو رمز وكناية وتشبيهٍ مثل \ اللقلق – الحليب – السحاب –الضباب – القطن –اللؤلؤ – ناب الفيل – الشيب ،هذا النسق اللوني لم ينتهي بهِ إلا أن إرتداهُ كآخر حِلّةٍ أدخلتهُ إلى مستطيل الرحمة . ولهُ في قصيدة إلى قرينهِ المشاكس –إلى جان دمو :
القِطط البيض الناعمة
ما أوتني
في الليل الدافئ
ونمور الأحراش الصعبة
طردتني
من وجر الليل
ولذا هممتُ على وجهي في الحرية .
كذلك في قصيدة ” الألم ” يستذكر صديقهُ الصعلوك “نصيف الناصري ”
يقول : شاعرٌ
يفتح دكان بقالة
ثوري يستبدلُ حزباً بالآخر
خمس دقائق في حانة
دون ” نصيف ”
ولايمكن أيضاً نسيان رفيق التمرد الشاعر ” حسن النواب “إستذكارهِ بنصٍ مضاء في قصيدة ” الأمل ” :
شعبٌ يتمنى أن ينكص في الحال
إلى عهد ” كريم بن قاسم ”
” البرتو مورافيا ” يدعو ” حسن النواب ” إلى كأس
سيف ديمو كليس
سرير بروكست .
فيما يُرى حرف التشبيه لرؤاهُ وهو ” الكاف “والذي وظفهُ في سربٍ من المفردات الحياتية الملموسة وهي الأقرب إلى نبض قلبهِ الأبيض منها : كالنخلة – كالخباز –كالفُل – كالنفاش – كا لدعسوقة – كا الصفصافة – كطير الحجل –
كالسدرة – كمخدة ريش – كمغاريف لبن …..إلخ ، إضافة إلى مفردات فاعلة في الحياة البرية زجها في نصوصهِ كحميمية للمكان والنطقُ بها كموروث – البردي – خشخشة القصب – المشط الخشبي – ورد الخباز – رائحة العطاب – هلهولة – الخرنوب –فوح المداخن – طين خاوة – شيشة –روح البربين –طعم النعناع – قيمر معدان….إلخ .
ومن ثيماتهِ الاُخر والتي ترصدها وإقتنصها حيثُ لم تخطر على بالٍ ،كونها مهملة بوصفها منتهية صلاحية التداول اليومي بها ،لكنهُ أعاد لها روح الحياة بتوظيفها : كُرة روث – طريق النمل –ورد لسان الثور –فاهية الطعم –السعلاة –ناقوط الحِب – قدر الفافون –فحل الجاموس –الرشاد –دواء القمل –هباب الجولة. كما لاتخلو قصائدهِ من الأمثال الشعبية السائرة والأقوال المتداولة كترصين للنص ومسايرة الهم اليومي ، وكما ذكرها في حميمية وتودد : يابعد روحي – درب الصد مارد –لادان ولا ودان – شلّهِ وأُعبر –أضمك في عبّي –الذي يدري ولما يدري .
حقيقةً لم أرَ الشاعر الراحل في حياتهِ ،بل عرفتهُ من رؤى قصائدهِ أواخر عقد التسعينات، قلتُ في نفسي آنذاك : كم هو بريء وشفيفٌ وطازجٌ وناصِعٌ هذا الشاعر ؟! ..، لا يعرف التصنع فطرتهُ البيئة السومرية بجبلتها الأولية فراح يمجدها بفضلها عليهِ .سارَ كثيراً وتجّول وتسكع وأترع تشرداً وبهجة وصعلكة وتيهان ،فكان قياف الأرصفة وممشط دروب الليل إلى الحانات برفقة أصدقاء البياض والذي يشكل معهم المربع الذهبي لمساحة الحياة بيضاء ، وهم ” كزار حنتوش – جان دمو – حسن النواب – نصيف الناصري “، لكن ما إن توالت السنون وتصدعت أضلع المربع في المنافي البعيدة والشتات ، حتى هامَ على تخوم الأرض وإقتعدَ مستسلماً ، رغم صعلكتهِ ظلّ مخلصاً للأرض مرتبطاً بها حميمياً ،ملتصقاً بها ، غير أن قلب” رسمية ” رأب التصدع بمعيار هندسي آخر من الحب ، , حيثُ شكلت رؤاهما معاً سيرة حياتهما حافلة بالمساجلة والحب في بناء النص الأبيض ، تساجلا شِعراً ومودة وحياة ؛ ذاكراً فضلها عليهِ في قصائد رومانسية رائعة والتي يرددها أكثر الشعراء بمعزةٍ فائقة للشاعرين معاً يقول :
لولا فيروز وبغداد ورسمية
لإقترنت ضفدِعةٍ بي
وألقى العنزُ عليّ الفضلات ، وكنتُ مجرد عربة
دون قيودٍ أو عجلات .
نعم إنها دينامية الحركة في ذهنية الشاعر –المحرك – الدهشة – المؤازرة – رسمية التي ملأت البيت والقصيدة حناناً بطلقتها الُأنثوية في إختراق قلب الصياد بحرقة بارود ألم أبيض ، المكان الذي يسعهما اوسِع العالم لهذا صرح قائلاً – أسعد إنسانٌ في العالم ، لكن رغم سعادتهِ إلا أن مفردة الموت تتمحور في قصائدهِ وهو في أشد حالات الإنتشاء ، فكان تنبؤهُ صائباً وخارقاً في نصهِ أو قولٍ لهُ :
” لن تطأ قدمي أرض السبعة بعد الألفين ” وفعلاً فارقت روحهُ الحياة في حفل تتويج زوجتهِ الشاعرة رسمية بتأريخ29-12-2006 .
وكذلك بصيغة التناص في ذاكرة الموت :
لارسمية هذا اليوم
لاصحوَ غداً
اليوم غناء تحت التوت
وغداً تابوت
، و بعد رحيلهِ ظلت الشاعرة تستذكر كلّ لحظةٍ وُ بما يقال عنهُ، وما تدّخرُ في قلبها ما يفيضُ من الذكرى ” كزار حنتوش .. الشِعر مقابل الحب ” في مؤلف صَدر عن دار ميزوبوتاميا بغداد 2013، ذلك الإخلاص الهائل بالمعزة والإيثار والصدق ،هكذا خلّدت زميلها وشاعرها وزوجها اللذان تحابا في ذكرى لن تمحو أبداً من مشهد الثقافة والأدب ، إذنً فحالها حال زوجات الشعراء العالميين في الحزن والشعر والتأليف ، ألا يكفي صمتاً من أن تُطلقُ على الشاعر الكبير كزار حنتوش صفة الشاعر العالمين ؟! ووفق هذه المعايير الراسخة في مشهدية حياتهِ كُلها .
3-2-2016 .
عدنان أبو أندلس : بانوراما الألم الأبيض؛ الشاعر كزار حنتوش في حياتهِ كُلِّها
تعليقات الفيسبوك
روعة