محمد خضير محاورات حديقة زينب (3) (ملف/3)

mohamad khdier 8إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر هذا الملف عن المبدع الكبير القاص والروائي المجدّد “جمعة اللامي”، الذي طبع بصمته السردية الفريدة على الخارطة السردية العربية من خلال منجزه السردي الفذّ. تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتّاب والقرّاء كافة للمساهمة في هذا الملف، بما يتوفر لديهم من دراسات ومقالات ووثائق وصور وغيرها، بما يُثري الملف ويُغنيه. تحية للمبدع الكبير جمعة اللامي.

النص : 

(3)

منقع العذاب
حلّت الليلة الثالثة , وحان موعد الهبوط إلى حديقة زينب , فارتدى جمعة اللامي سروالاً من الكتان وقميصاً طويلاً مجعداً , وخرجتُ بردائي المنزلي , وسرنا إلى محيطنا الأخضر مريدين متشوقين للقاء السر الأعظم في رحاب الليل الأوسع والأفخم .
وما كدنا ننتظم في فلك السائرين , الساكتين والهذرين , المستترين والظاهرين , حتى بادرتُ جمعة بسؤالي : من أين تنبع الفكرة ؟ من الرأس أو القدم , العين أو الأذن , الماضي أو الحاضر , القرب أو البعد ؟
قال : تأتي الفكرة في أوانها مأتى الخطوة والالتفاتة , القيام والقعود , النهضة والكبوة . نحن أبناء أرياف , ليلنا عميق غزير الأصوات, نكاد نسمع هسيس الدواب, وخفقان القلوب , واحتضار الأرواح , ونشوء الأحياء . فإن لم نهجس الفكرة أوان انفصالها عن مستقرها وسيرها الوئيد , فاتتنا وقصدت سوانا ممن يرهفون السمع ويشحذون الخاطر .
ـ وكيف ندرب خاطرنا على صيد الأفكار ؟
ـ بالصمت والخلوص من الكدر . بالجوع الروحي إلى مصادر الأفكار وشوارد الرؤى . بالتمعن في انتظام الحرف والكلم والعبارة في سطر من كتاب أو وجه من الحياة . إذ ما نفع الفكرة إن لم تنتظم في صورة أو عبارة ؟ إنّ مَثَلها في صيرورتها كمثل ريح صرصر تعبث ببال عابد متبحر في كتاب المحكمات والمتشابهات من بدائع الخلق وآياته .
ـ وهل من مفر من فكرة خطيرة تلبست ثوب الردى , أو آذنت بشرّ مستطير ؟ كيف الهرب من أفكار العذاب والموت ؟
ـ لا سبيل إلى تفاديها . أحياناً يكون اصطدام الفكرة بخاطر صاحبها المقصود لها والمرصود من أجلها مثل فرقعة الرعود , أو انهيار الجبال , أو اصطخاب البحر . هل تذكر أين التقيت فكرتي الأولى ؟ وممن تلقيتُ بشارة يُتمي وعذابي؟
ـ أجل , مرة من صياد يسكن كوخاً في أحد بساتين الجنوب , ومرة من ( الأبجر ) . قرأتُ مقاطع ( الأُخذة ) الميسانية برهبة وحزن . كيف تخلصتَ من لعنة (الخنزير الأعمى الصغير) و (القنطروس) وبقية المسوخ التي طاردتْ صنوك في (الثلاثيات) ؟ jumaa allami 11
ـ وهل تظن الأفكار تضيع بعد استقرارها في أعماقنا ؟ إن الفكرة تطارد الفكرة , مثلما كتابة الماضي تقتل الماضي . لكن لا شيء يذهب إلى العدم . فالأفكار تظل تحوم حول أعشاشها كطيور ثكلها فقدان فراخها . وتظل المسوخ نائمة في أرباضها , وقد يوقظها السرد الأعمى حين يخطئ ألفاظه ودلالاته . وأنا أقول لك : دعها نائمة رغم كل شيء .
ـ في (الثلاثيات) مقاطع طويلة تقتفي أثر سرد (كافكا) : غرف كالأقفاص , تحولات , مشاهد تعذيب تقشعر لها النفس . هل استفدتَ من (كافكا) ؟
ـ أنت تذكرني بزمن الرواية العظيم . ثلاثة ساعدونا على التلصص على أعماقنا في أيام الرعب , طهرونا من عصابنا القهري بقراءة أناجيلهم الروائية : (مسخ) كافكا , و(جريمة وعقاب) دستويفسكي , و(جحيم) باربوس . أجل , علمونا كيف نواجه مسوخنا ونحشو أشداقها بالأحلام . بل كيف نتحدث بلغة (الوضع البشري) كلما اشتد عنف القوى المضادة . كنا نزحف آنذاك على رُكب دامية للخروج من نفق اليأس والإحباط . في تلك الأيام لم نكن نعرف أين يكمن خلاصنا , في الواقع المعيش أم في الروايات التي نقرؤها .
ـ هو كذلك , ضاعت أبعاد الواقع وتبعثر السرد هباءات في فراغ هائل الاتساع . وفي أحسن الأحوال بدا الواقع أشبه بمغطس ذي بُعد واحد هو القاع . كان السرد مضغوطاً إلى الأسفل دائماً . كيف خرجتَ من مغطس ذلك الواقع ؟
ـ عندما بدأ العالم القديم يواصل انهياره , نظرتُ حولي وأخذت في الارتفاع . من يعش طويلاً في منقع العذاب , يرتفع خفيفاً إلى الأعالي . الصعود إلى أعلى : كان على رأس مهمات السرد في قصص المرحلة الوسطى (الثلاثيات واليشن) . كانت قصصي قبل هذه المرحلة انجرافاً حراً وسريعاً إلى مهوى الحلم اليوتوبي , الذي انقطع فجأة بصدمة الانفصال ووجع الانهيار . بعدئذ أصبحت أنظر بوضوح إلى مسـوخ الحلم الرهيبة المحبوسة في أقفاصها . كان البُعد الوحيد أمامي هو البُعد الأعلى , وكان ارتفاعي صعباً ومؤلماً نزفتُ فيه آخر قواي الجسدية . وهكذا وجدتُ نفسي في فضاء المرحلة الثالثة من سردياتي , وقد امتلكتُ حريتي في الحركة عبر الجهات الأربع , بل الخمس , صعوداً إلى الرقم الأعظم لقيمة الحرية والاتحاد بالتجربة .
ـ الهبوط إلى القاع , ثم الصعود والانتشار في جهات العالم , رجَّ رؤياك رجّاً فاختلط سرد الواقع بسرد السيرة . كيف نفصل بين الحدين ؟
ـ يمتزج في كتابتي قص السيرة بقص الواقع , واشتباك جذور التجربة بفضاء الحلم . يحرث قلم السيرة ماضي التجربة ويقتلع أدغالها كي يهيئ الأرض لبذور الحياة الجديدة . استعذبتُ آلامي وهجوتُ حياتي قبل أن أستروح نسمات الاستغفار والترجي التي يستشعرها رواة الأسفار في نهاية الرحلات الطويلة . عانيتُ ما يعانيه أبطالي من آلام التخفي والكتمان , وانجراح سيرتهم بشظايا الهجاء والشك . وفي نهاية الأمر صفت المرآة والتحمت الأوصال وبزغت السيرة الثانية من هجائيات السيرة الأولى وشكوكها . حين يمر السرد خلال ((القصبة المجوفة)) لسيرة الروح , تستقم المعاني وتصفو الصور وتأتي الأفكار طيعة مختارة .
ـ إلى جانب أعمال الروائي المغربي محمد شكري , قلما نعثر في أدبنا العربي على سرد نرسيسي متجلّ بذاته العارية , عنيف في هجائه وحفرياته . أتعتبر (الثلاثيات) وقبلها قصص (من قتل حكمة الشامي) و(اليشن) أعمالاً من هذا النوع ؟
ـ ليست أعمالي سرداً مثلياً لعشق الذات أو فضحها , وإنما هي ـ كما لمحت ـ حفر في قاع التجربة لإرضاء ميل سردي واع بذاته , باحث عن البُعد الخامس وراء ذاته . ففي كل رواية عظيمة نعثر على شخصية خامسة , مهمشة مقصية غامضة , ترتدي قناع الروائي نفسه بآثامه وأحلامه المتطرفة . بينما تهدف رواية السيرة إلى محورة الشخصيات حول الذات النرسيسية المتجلية بوضوح وصدق أمام عيني القارئ . لكن هذا النوع يتجلى في أعمالي الأخيرة أيضاً بأشكال شتى , ويتوزع على جهات النفس الساردة بظهورات أوسع .

الليل في قصص جمعة اللامي قديم وأليف , الليل الجنوبي , الليل الصحراوي , ليل المدن الخالية , تسلل من القصص وعلق بذيول حوارنا , طوقنا بذراعيه الطويلين وهدهدنا . استسلم جمعة لهدهدة الليل , وترنيمة الأم الحزينة , وانتهى حديث الليلة الثالثة , تمتمات على شفاه تداولت بدايات الكلام وزقزقات الأفكار في أعشاش السطوح العالية .

*عن موقع الروائي

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *