غربة طويلة ، امتدت دهرا، لفتني بدوامتها . جبت فيها مدنا غريبة وغرقت في هموم مختلفة تماما، حتى نسيت جذوري والأرض التي أنبتتني ، وها أنا أعود بخفي حنين ، أتوسد خيبتي وأداري أحزاني ..كانت الدنيا تغيرت وأبي قد مات..ذات يوم رأتني أمي شارد الذهن أفكر وكما لو تكهنت بما يشغلني ..
قالت لي بنبرة تنم بطيبتها : ـ تفكر ماالذي تفعله غدا ..
أومأت برأسي موافقا ثم قلت: ـ لا تقلقي أنت.. لابد أن أجد سبيلي .
قالت بغبطة : ـ إذن .. عليك بإرث أبيك .
قلت مبتهجا: ـ أي ارث تعنين .؟
ـ صندوق من المال ائتمنه أبوك لدى صديق قبل أن يموت.. أوصى أن يسلمك إياه حال عودتك .
قلت : ـ ما اسمه هذا الصديق وأين أجده.؟
ـ يلقبونه بالجبّان قد تكون رأيته من قبل.. انه يسكن محلة “الفضل” حيث منزلنا القديم.
ـ لا أتذكره .. ولكن غدا أبدأ البحث عنه …
لم انم تلك الليلة فقد كنت أفكر بعد عودتي خالي اليدين ، بمال أؤسس فيه لحياتي المقبلة بعدما غزا الشيب رأسي .. في صباح اليوم التالي قصدت محلتنا القديمة وقلت ” فلأبدأ بمقهى المحلة ” . توجهت الى مقهى ” أبو وحيد” القديمة . دخلت إليها فرأيت الوجوه غير الوجوه التي اعرفها والمقهى تغيرت تماما وأصبحت تزينها واجهة زجاجية وتؤثثها أرائك نظيفة كما أطلق عليها اسما جميلا خط بلوح كبير علق فوق جبهتها “مقهى الفضل بن الربيع” جلست كالغريب . جاءني العامل فطلبت شايا . وضع القدح أمامي قلت له:
ـ ابحث عن شخص يلقبونه بـ ” الجبّان “.
رأيت الدهشة في وجهه: ـ تقصد عباس الجبّان..
قلت : ـ لعله هو من اعني.
قال هامسا :ـ بم تريده .؟
ـ لأمر خاص .
سألني بمكر : ـ احتال عليك ، أم سرق منك نقودا .
قلت ضاحكا : ـ وهل هو كل هذا .!!
ـ وأكثر..
وكاد يسترسل لولا أن قاطعته : ـ لا هذا ولا ذاك.. مجرد استفسار.
ـ على كل حال يجب أن تتعامل معه بحذر وإلا سترى نفسك ضحية مجرم خطير .
ـ شكرا على النصيحة الثمينة ..
أشار الى رجل في الثلاثين ضخم الجثة غولي الوجه مفتول العضلات على خده الايسر أثر لجرح قديم ، يجلس في مكان قصي من المقهى، ذهبت إليه ووقفت أمامه وحييته .رد التحية ونظر نظرة استغراب وتحد.
قلت : ـ أنت عباس الجبّان..؟!
وجلست أمامه تفاجأ بسؤالي ورد حانقا : ـ من أنت.. وماالذي تريده.؟
رويت له جانبا من الحكاية وسألته فيما إذا كان هو ابن الرجل أو حفيده أو قريب له.
لانت ملامحه وابتسم فانفرجت شفتاه الهمجيتان وبدا وجهه أكثر انتفاخا .
وقال بصوت كالرعد : ـ لا اعرف من أين جاءني هذا اللقب فلا احد من أسرتي يلقب به وضحك .ضحكت بدوري مجاملة وحين هممت بالمغادرة قال متذكرا : ـ أظن أن هناك شخصا يلقب به .. ابحث عنه في الأزقة التي تقع خلف جامع ” الحيدرخانة” …
قلت له : ـ تظن ..!! ..
ـ بل أنا متأكد من ذلك ..
دفعت عنه ثمن الشاي وانصرفت.. وصلت الجامع واجتزته فواجهني مدخل زقاق ضيق يقع على جانبه معمل للمعجنات ذو واجهة زجاجية عريضة تعرض أصنافا منها والى جانبها يقوم محل لتصليح المراوح الكهربائية. انحدرت الى الزقاق كانت تقوم على جانبيه بيوت عتيقة آيلة للسقوط ذات نوافذ صغيرة باهتة وأبواب خشبية قديمة متشققة ، إندرس لون طلائها وسحقت أقفالها . وما أن سرت خطوات حتى رأيت دكانا صغيرا يبيع حلوى الأطفال ، يقف وراء طاولته التي حملت زجاجات الحلوى رجل كهل كث اللحية يرتدي قميصا ملونا ويضع على رأسه طاقية تقدمت منه وسألته : ـ أين أجد بيت الجبّان .
ابتسم ابتسامة ذات مغزى وهرش فروة شعره وقال: ـ تقصد يونس الجبّان ..
وخرج من دكانه وأشار الى بيت يقع على بعد خطوات قليلة:
ـ ذلك هو ..وأضاف : ـ أطرق برفق ..لا تنس.. ها.. برفق
أمام باب البيت الذي أشار إليه الرجل وقفت، نقرته نقرة خفيفة فجاءني من الداخل صوت نسائي يصرخ بعصبية : ـ من هناك .. من بالباب .. من أنت .. ؟؟
قلت بصوت مرتعش : ـ أريد يونس الجبـ …
وقبل أن أكمل فتح الباب فرأيت امرأة في سن الأربعين تضع الكحل وألوان المكياج، بفوضى فهناك خطوط كثيفة سوداء حول العينين واحمر الشفاه جرى فوق شفتيها الغليظتين عريضا جعل من فمها أشبه بفم الشمبازي كانت بدينة ترتدي ثوبا يكشف عن ذراعيها وصدرها وقد تدليا ثدياها الكبيران وبرزت حلمتاهما فبدت كبقرة لها ضرعا ماعز.. تطلعت إلي لحظات ثم قالت باستخفاف : ـ أرسلك يونس ..!!
قلت : ـ بل أنا جئت ابحث عنه .
قالت : ـ إذن هيا عجل.. ادفع لأمي “وأشارت نحو عجوز شمطاء بعين واحدة تقف عند سلم المنزل الحجري” .. ورفعت طرف ثوبها حتى ركبتيها وواصلت : ـ وادخل هذه الغرفة.
فهمت قصدها ، تلعثمت وقلت معتذرا : ـ يبدو أنني أخطأت البيت .
وتحركت ابحث عن سبيل للهرب وقفت في طريقي وقالت :
ـ جئت تتفرج فحسب ..هه
ـ أنا اعتذر حقا.. لقد ظللت السبيل .
شيعتني بنظرة وقحة وقالت ساخرة: ـ في المرة القادمة تلمس طريقك جيدا .
عدت أدراجي فمررت بالرجل العجوز صاحب الدكان ، نظر إلي وابتسم وتمتم بكلمات لم افهمها واصلت سيري وقد قررت أن أسأل أول شخص أصادفه ، كاد الزقاق يخلو من المارة . وصلت الى الجامع الكبير فرأيت رجلا مسنا يحمل بيده لوحة أوراق يانصيب توقفت عنده وأخرجت نقودا ومددت يدي الى اللوح سألته :
ـ ياعم .. تعرف هذه المنطقة جيدا .
قال : ـ كيف لا.. إنها منطقتي ..
ـ منذ متى تسكنها .
واقتطعت ورقة من اللوح الذي يحمله، فنظر إلي بارتياح وقال : ـ منذ العهد الملكي ..ربما قبل أن تأتي أنت الى الدنيا.؟ ..ثم هز رأسه ونظر إلي باستغراب: ـ ولم تسأل .!!
قلت له : ـ أبحث عن شخص اسمه الجبّان..
تفكر لحظات ثم قال: ـ هناك محمد الجبّان .. أظنه احد أولاده ..انه يسكن محلة المهدية ..
وما أن أكمل جملته حتى سلمته ثمن البطاقة وانصرفت . شعرت بالبهجة تغمرني . وتفاءلت ، أن جهودي لم تذهب سدى . فها أنا امسك بالخيط الذي يوصلني الى الرجل .ركبت سيارة تاكسي ونزلت في الشارع العام ثم انحدرت وأخذت أقطع الطريق الى المحلة المذكورة عبر الأزقة القديمة ، ونظرات الشباب المرابطين أمام أبواب بيوتهم وعند بداياتها وقرب دكاكينها الصغيرة تتفحصني . و تطرق سمعي تعليقات النسوة الجالسات عند العتبات وهن يراقبن أولادهن يلعبون بالقرب منهن .وصلت الى البيت الذي دلني عليه العجوز ، تلفت فوجدت صبيا سألته فأكد صحة خطوتي التالية وبرغم ذلك أصابتني رعشة فقد خشيت أن اخطأ ثانية ثم تجرأت وطرقت الباب. بعد ثوان سمعت صوتا نسائيا خافتا يسأل على استحياء : ـ من هناك..؟؟
ثم فتحت ، كانت ثمة امرأة شابة ،هادئة الملامح تحجب جسدها بالستارة المعلقة في الممر المؤدي الى الداخل أطرقت ُ احتشاما وقلت : ـ أريد محمد .؟
قالت : ـ خرج..
سألتها : ـ الى أين .؟
ـ لا أدري بالضبط.. تستطيع أن تمر عليه بعد ساعة..
وما أن هممت بالانصراف حتى طالعني شاب، أمسك بزندي بقوة وقال بغضب :
ـ من أنت .. ؟ ولم تقف هنا..؟
والتفت الى المرأة يوبخها : ـ قلت لك لا تفتحي لأي مخلوق..هيا ادخلي ..
تلعثمت وأرادت أن تقول شيئا ولكنه صرخ بها ثانية وهو يلوح بقبضته: ـ ادخلي فورا وإلا…
فدخلت خائفة على عجل . قلت : ـ أنت ابن الرجل ضالتي ..
وأخذت اسرد له الحكاية ..
فقال بنبرة لا تخلو من عصبية : ـ أنا حفيده ..
ـ وأين هو الآن ..
ـ جدي مات منذ سنوات .
قلت : ـ ووالدك ..؟
تجاهل سؤالي وقال: ـ تستطيع أن تستفسر عن شؤون جدي من أخيه .
ـ وأين أجده ..
تجده هذه الساعة في مقهى محلة الإمام طه .وان لم تعثر عليه فانه يسكن قريبا منها . مددت الخطى وأنا اقصده . ومررت بمحل للمرطبات وتذكرت انه كان يوما ما دكان نجارة لصديق أبي رحمه الله كان يجلس عنده يتحدثان بأمور لا أتذكرها فتوقفت . شربت قدحا من العصير ودفعت ثمنه ثم واصلت سيري.. وتململت الذكرى في داخلي وأردت أن استرجع جانبا منها فلم افلح فقد طمست الغربة المؤلمة ما تبقى من الذكريات. حين وصلت المقهى كانت الساعة تقارب الواحدة ظهرا دخلتها وألقيت نظرة سريعة على زبائنها فاصطدم نظري برجل طاعن في السن يجلس وحيدا على أريكة يراقب عن كثب بعينين يداعبهما النوم أشخاصا يلعبون “الطاولي”. فتكهنت انه هو بدون شك. حييته فلم يسمعني جلست الى جانبه وأمسكت بذقنه وقلت له : ـ أتعرفني ..؟!
انتبه إلي واخذ يحملق بوجهي محاولا أن يتبين ملامحي جيدا وابتسم قائلا : ـ لا والله .. ولا صغرا بك .
قلت له : ـ أنا فلان ابن فلان ..تذكره.!!
سر للمفاجأة فانبسطت أساريره تمتم : ـ له ولموتانا الرحمة والمغفرة .. هم السابقون ونحن اللاحقون .
نادى النادل وطلب لي شايا : ـ كان أبوك صديقا لي أيضا ..وان كان اقرب لأخي مني ..
وجلست أرتشف من القدح وهو يرقبني توقفت وقلت له : ـ يا حاج .. جئت إليك .
التفت إلي وقال : ـ الأمانة عندي .. احتفظت بها بعد موت أخي .. أكمل شرب الشاي أولا.
نهض وتبعته . كان يسير ببطء ويتوقف بين الحين والآخر ليسترد أنفاسه .وصلنا المنزل الذي يسكنه .دفع بابه الخشبي فاصدر صريرا .
تقدمني وهو يردد : ـ ادخل .. لا احد في البيت.. نزلاؤه في العمل .. ادخل .. أنت لست غريبا .
كان المنزل من القدم أن احترق قرميده وتهتكت نوافذه وأبوابه وأصبح آيلا للسقوط . أخذ الرجل الذي ينوء بشيخوخته يرتقي سلما خشبيا وهو يتكئ على دربزينه الذي برزت عروق خشبه وأصبح بلون التراب . كنت أسير ورائه ، كان السلم يهتز تحتنا حتى ظننت انه سينهار .. دلفنا غرفة مظلمة إلا من بصيص من ضوء الشمس يتسلل إليها من نافذة صغيرة . توقف الرجل وهو يلهث وأشار الى فوضى الغرفة وتقدم ووضع يده على صندوق متوسط الحجم وقال بأنفاس متقطعة :
ـ هذه هي الأمانة مثلما وصلتني ..والله على ما أقول شهيد.
ثم رفع رأسه الى الأعلى وقال : ـ الحمد لله ،أنني سلمتها لصاحبها قبل أن أموت ، عانقت الرجل وشكرته على أمانته .
عدت بالصندوق الى البيت .كانت أمي تجلس عن كثب تراقبني مسرورة. فتحت الصندوق ونظرت في داخله ثم قلّبت محتوياته فوجدت ثلاث روبيات من الذهب الخالص تستقر في قعره وساعة جيب قديمة وخنجرا صدئ ومسدسا عتيقا من مخلفات القرن التاسع عشر وكيسا صغيرا من العملة القديمة التي بطل تداولها. تراجعت خائبا خطوتين فتأوهت أمي ونظرت إلي بإشفاق .. امتدت يدي الى جيبي فاكتشفت وجود ورقة بطاقة اليانصيب ،أخرجتها ومضيت أتأملها، شرد ذهني وتخيلت السحبة التي تجرى أول الشهر القادم . ابتسمت في داخلي وانشغلت اعد على أصابعي ما تبقى عليها من أيام.وأنا احلم بالجائزة الأولى .
عصام القدسي : الإرث ..
تعليقات الفيسبوك