د. حسين سرمك حسن : تمظهرات الحضور الأنثوي في شعر عيسى حسن الياسري (ملف/8)

hussein 7(( في طفولته، نام في زورق وغاص

ولما كبر غاص في القمح ونام هناك ))

( نص سومري )

في قصيدة ( يا أمّ عيسى ) – من مجموعته الشعرية الأخيرة ” أناديك من مكان بعيد ” ، يقدم الشاعر ” عيسى حسن الياسري ” لنصه بإهداء : ( إلى شجرتي البعيدة : أمّي ) معيدا إلى الأذهان واحدة من التعبيرات الرمزية عن الأمومة الخالدة وهي : الشجرة . ويلحق بذلك فورا ، وفي بيت الإستهلال ، توسيعا رمزيا متواترا أسطوريا وشعريا لحضور الإبن وهو القمر :
( يا أمّ عيسى :
لقد أودى بك السهر
سهرت
أم نمت
لن يأتي لك القمر … – ص 89 ) .
ومن غرائب أرض الرافدين أن القمر رمز ذكوري في موروثها الأسطوري في حين أنه رمز أنثوي في أغلب الحضارات القديمة . وأعتقد أنها المعادلة الصحيحة أن تكون في السماء الشمس أنثى والقمر ذكر ، هذا القمر الذي ينجذب ” إليها ” البحر . والقمر / الإبن قد انفصل عن أمه إلى الأبد ، ليس الإنفصال الوجودي المبرر الذي يفرضه التقدم في العمر والنضج النفسي ، ولكنه الإنفصال القسري الذي فرضه النأي والتغرّب . وتشكّل قسرية هذا الفراق عوامل طاردة .. عوامل نبذت الإبن من الحضن الأمومي متمثلة في هذا الجفاف الشامل الذي شمل بلعناته السماء بغيومها التي لم تعد مثقلة بالمطر ، والأرض التي تيبست أشجارها وصمتت مراتعها الموحشة وهجرت حقولها أقدام الفتيات الراعيات الجذلى :
( لقد مضى عن بلاد ليس يعبرها
غيـــمٌ
يسافر في أثوابه المطرُ
لمن يضيء ؟؟
فلا الأشجار مورقة
ولا المراتع يشدو فوقها الوترُ
لا بيدر القمح
لا أقدام راعية
تخطو إلى الحقل جذلى وهي تزدهرُ )
لقد انتهت وظيفة هذا ” القمر ” الكونية التي لا تزدهر عادة إلا مرتبطة بازدهار الرحم الكوني الأنثوي ، الطبيعة الأم . والإبن القمر يتساءل : لمن يضيء ، في عالم حكمه الخراب وتسيدت على هامته أشباح المثكل ؟ . ناسيا الوظيفة الجوهرية الأخرى لقمر البنوة وهي إضاءة دروب الأم ، وتبديد ظلمات سنينها الآفلة . إن في هذا نوع من ” التمنّع ” الطفلي المغلف للحفزات الأوديبية ، وهو ” مقلوب ” الواقع النفسي والإجرائي الفعلي ، لأن الأمومة هي قمر سماوات الطفولة الفيزيولوجية ، والرجولة النفسية اللاشعورية . وعملية قلب الأدوار هذه هي التي لعبت دورها المخادع في جعل الإله الإبن خطأ هو الإله المنقذ / إله الخصب والنماء والخلاص ، سالبا عن هذه الطريق امتياز الأمومة الكوني والحياتي . ورغم عملية السلب هذه فإن الإبن / الإله القمر ، يخلّ بالتزامه المركزي تجاه الأم / الإلهة المنهجرة ، فلا يرى ضمن واجبات الوفاء الحاسمة المناطة به إلا إضاءة عوالم حيوات مكونات الطبيعة ، غافلا دوره الحيوي الوفائي . وفي محاولة التفافية يغيب فيها الإحساس بالذنب ، نجده يعمد إلى عملية تبريرية ، موسعا دوره من جديد ، ومانحا نفسه سمة الاستجابة لـ ” تكليف ” مبكر يشبه تلك ” العلامات ” الأولية التي تبشّر بميلاد الإبن المنقذ ، فيرى أن النأي والسفر هو واجبه الذي كُلف به منذ طفولته ، وإن من المفروض بالأم – الآن – أن لا تعيق انطلاقته بالبكاء الوجل :
( دعيه يرحل لا تبكيه في وجل
فمن صباه دعاه النأي والسفر – ص 89 ) .
والمعادلة المتوازية التي أقامها الشاعر بين الأم الأرقة التي جافت النوم وابنها القمر الذي هجر لياليها وصار يعرف أنها تنتظر بلا رجاء ، تعكس تجانس المخاوف المتقابلة التي تجري تحت غطاء الليل .. فلا يترعرع القلق إلا في الظلمة .. والبنية الليلية هي بطلة هذه القصيدة .. وتحت أستار الظلمة تنمو المخاوف والهواجس وموجات الرجاء الممزوجة باليأس . الظلمة هي الفراق وسواد الخيبة وعتمة الإنهجار وحلكة محتويات صندوق الذاكرة الأسود :
( أتذكرين ..
وكان الليل منسدلا
على العيون
سوى عينيك تنتظر ؟ )aisa alyasiri 4
والإنتظار هو اختصاص الأم .. خصوصا الأم العراقية ومنذ فجر الخليقة ؛ الأم العراقية هي إلهة الإنتظار .. الإنتظار فن الأمومة .. في حين أن الغياب هو اختصاص الإبن ، وعلى امتداد القصيدة سنواجه معادلات وظائفية تتقابل بين الإبن والأم . الأم تنتظر الإبن ، وهذا واجبها ، لا ينفصل عن محن الإنتظار الحاكمة في حياتها .. انتظار نزف الخصوبة .. إنتظار علامات الحمل .. انتظار يوم هبوط ” المنقذ ” في الولادة .. وانتظاره المديد في تشوفات الإلتحام العصي والمحرم في ظلمات اللاشعور .. وانتظار انفصاله النهائي المستحيل فهو طفل اللاشعور مهما نما ونضج و” تكلف ” بمهمات وجودية وحياتية . الأم تنتظر والإبن يغيب ضائعا مطاردا :
( ولم يعد
وقتها لفته قافلة
من الضياع
ويعدو خلفه القدر
أظفاره لم تزل بيضاء ناعمة
وخوفه إن رأى الجدران .. يستعر – ص 90 ) .
والحرية منجز أمومي .. ولهذا كان أول استعمال لمفردة ” الحرية ” في تاريخ البشرية ، وعلى أرض سومر ، في صورة مفردة ” أمارجي ” وتعني ” العودة إلى الأم ” كما يؤكد ذلك ” صموئيل نوح كريمر ” في كتابه ” ألواح سومر ” وكأن ذروة التحرر والأمن الذي حصل عليه الإنسان يتمثل في النهاية في العودة إلى الفردوس الرحمي الذي بالهبوط منه – ترى هل هناك موازاة صاغها اللاشعور الماكر بين هذا الهبوط وهبوط جدنا الآثم من الجنة بعد اقتراف الخطيئة ؟ – تنطلق صرخة العذاب الأبدي .. لكن في واقع الحال إن الأم ليست حرّة .. فهي مرتهنة بالإبن الغائب – كما تجسد ذلك القصيدة – الذي يريد تجريب أقصى حدود التحليق في سماوات ” الحرية ” التي منحته الأم صرختها الأولى في لحظة الوضع وعلمته مراراتها . الإبن / طائرها المحلق يخشى الجدران ، هو ربيب بيت القصب ذي الباب المشرع دائما :
( كطائر
كان يخشى أن يحطّ بها
يوما
لتأسره أبوابها الكثر
فكوخه قصب
والباب مشرعة – ولا أعلم لماذا أنّث الشاعر مفردة الباب وهي مذكرة في القرآن ، قد يكون ذلك تحت تأثير الإنفعال بالمناخ الأنثوي – ص 91 ) .
لقد خطفته – الإبن – قافلة الضياع بكل ما تعنيه من معاني الإنفصال القسري والتغرب والخيبة والخسران .. خسران العالم الفردوسي الذي يؤثثه حضور الأم .. ففي الذاكرة الطفلية لا أمل ولا اخضرار ولا نماء إلا بحضور الأم ، ولا أمن ولا اطمئنان إلا تحت ظلال عطايا رحمها الفردوسي المبارك ، وهذا ما فقده الإبن الضائع مرة واحدة وإلى الأبد :
( جاراه
صفصافه الريفي والنهر
كانت مراعيه حضنا حين يأخذه
إليه يغفو
فلا خوف
ولا كدر
وكان شعر صباياها إذا خطرت
ريح الصباح
على عينيه ينهمر – ص 91 ) .
وفي هناءة هذه البهجة الفردوسية ، يأتي ” أولئك ” الذين صاروا وكلاء للمثكل في تهديم اللذات وتفريق الجماعات كما تصف سيّدة الحكّائين ” شهرزاد ” الموت عند ختام كل ليلة من لياليها ، وحاولوا تجريده من جوهر حياته .. ما يعبّر عنه بـ ” الرائحة ” التي تعادل حياته ..وهي رائحة الأمومة .. الأرض .. الوطن .. التراب الطهور .. ووجد ذاته – ومن خلاله نجد ذواتنا نحن أيضا – ومن جديد ، ” يعقلن ” ويبرّر ارتحاله .. وغيبته .. هذه المرّة ، ليس بنداءات النفي والسفر التي ” كُلّف ” بها منذ طفولته ، ولكن بمهمة أوسع إطارا وأغنى محتوى وأكثر جلالا ، وتتمثل في دور وطني أوسع ، فهو الآن مسيح يحمل صليبه / الوطن على كتفيه ويجوب به معذّبا ومدمى في دروب الضياع والإحباط :
( حتى أرادوا له أن ينضو رائحة
أحبها حدّ أن يفنى بها العمر
حطّ الشفاه على أحجارها قبلا
وقال :
كوني معي
يا أرض يا حجر
مضى يشيل على أكتافه وطنا
ودربه : صفعات الريح
والعثر – ص 92 ) .
والياسري محترف شعر وليس من هواته .. محترف بمعنى الصنعة العالية الدقة التي تحدث عنها ” هايني ” شاعر ألمانيا العظيم بقوله : ” يتحدثون عن الإلهام ، وأنا أعمل كالحدّاد ” ، لهذا نجده – أي الياسري – يحتفظ بانتباهته الحادة لتوفير شروط وحدة قصيدته الموضوعية ليس في الثيمة المركزية حسب ، بل في تشكلات الصور اللغوية ايضا . فنراه يعود – في المقطع الرابع – إلى مفتتحه الخطابي : يا أم عيسى من ناحية ، ويختمه بالتذكير بالمراتع / المرجة ، وبالمطر كما سار في رسم مقطعه الأول ، ولكن في حركة إنعاش معاكسة ، فهناك سطوة الجفاف الماحقة وغياب المطر الذي جفّف ضرع الحياة بكل صورها ، وهنا فيض المطر الذي لا يخصب أرض الآمال الجدباء ، ولكنه يسقي مرجة حزن الأم : طفلها السرمدي :
( يا أمّ عيسى
صحبت الحزن يافعة
وقد هرمت
وشاخ الظل .. والثمر
وظل حزنك طفلا لاهيا أبدا
يخيط أثوابه الإيراق .. والصغر
كأنه مرجة ما جفّ مرتعها
كل الفصول
عليها يهطل المطر – ص 92 ) .
والياسري عملي وواقعي في تعامله مع حزن أم عيسى ، فهو لا يلطفه ولا يزوّقه مثل بعض المذيعات المتفذلكات اللائي لا ينفكن عن ترديد النغمة الببغاوية في الفضائيات بأن الحزن العراقي ليس حزنا بل شجنا ، ثم تبعتهن مجموعة من ” المثقفين ” الذين لم يروا في وصف الحزن تكريما لصبر الأمهات العراقيات – ورمزهن هنا أم عيسى – الخرافي على عتبات أبواب الليل – ولاحظ سطوة الظلمة الآسرة – . ترى لو سألنا أم عيسى عن سرّ نداءات فجيعتها التي تجعل الريح تنذعر من هول شهقات بكائها على ابنها الغائب ، وأجابت : والله عندي شجن الليلة !! فأي سخف تعبيري هذا ، وأي استجابة باردة هازئة ومفتعلة تثيرها في نفوسنا ؟ . ومن مفارقات اللغة العربية هو أن مؤلفي قاموس المنجد كانوا حائرين في تعريف لفعل ( حزن ) فقاسوه على معنى الفعل ( سرّ ) فقالوا : حزَن حُزنا : ضدّ سرّه . ، وحزِن حَزَنا له وعليه : ضدّ سُرّ وفرح فهو حزين ( الصفحة 131 ) ، وعندما جاءوا إلى الفعل ( شجن ) قاسوه على الفعل ( حزن ) فقالوا : شجِن شجنا وشجونا : حزِن ( الصفحة 375 ) . وصحيح أنّ الشجن يعني الهمّ ، لكن وقع المفردة النفسي أخف من مفردة الحزن التي يتبادر إلى أذهاننا معنى الإكتئاب والأسى والثكل والسواد والدموع . أما بالنسبة للياسري ، فإن الحزن العراقي هو حزن من الوزن الثقيل ومع سبق الإصرار والترصد . هو حزن لا تنفع معه أي محاولات تلطيف .. حزن أسود وقاتم وثقيل .. حزن تقاسم إرثه الخانق مع أمه المفجوعة ، هي هناك ، وهو هنا ، ولكن أي ” هنا ” : هنا المنافي ، و” هناك ” رداء الحزن الأمومي الذي يلبسه نخل العراق وحقول قمحه وشجره ، وقد قلت مرارا أن علينا أن نتخلص من أخدوعة العبارة النمطية التاريخية التي تسمي العراق بأرض السواد لأن البدوي الساذج الآتي من الجزيرة شاهد أرضه سوداء من بعيد بسبب كثافة غابات النخيل . أرض السواد هي نسبة إلى ثقل الأحزان الجسيمة والمرعبة التي كتبت على جبين هذه الأرض ، وإلا فإن الهند ستكون في ناظري البدوي العتيد أرض سواد أشد بسبب غاباتها الكثيفة المعروفة :
( يا أمّ عيسى
أوحدي من تفارقه
أمّ
لتجعل هذي الريح تنذعر
تظل تشهق طول الليل باكية
فتشهق الروح في المنفى
وتنعصر
الأمهات رداء الحزن يلبسه
نخل – العراق –
حقول القمح
والشجر
لا أمّ في أرضه إلا وقد جلست
ثكلى
على عتبات الليل تنكسر – 93 ) .
لكن الياسري – ولا أدري كيف يموت المؤلف وعيسى حاضر ، بل حتى أمّه الحقيقية في ساحة النص ، حاضران بلحمهما ودمهما الحي النابض ، ولا يمكن فك شفرات حزن النص المميتة دون أن يحضرا ونتعرف عليهما بدقة في المخيلة القرائية ؟ – لا يستطيع مراوغة مشاعره واللعب عليها طويلا حتى لو استدرجته إليها إغواءات توسيع الدور الأسطوري ، وذلك لأنه صادق ، وقابل للغواية بفعل الطفل الصغير ، والصغير جدا الرابض في أعماقنا ، والذي يرفض أن يكبر وينفصل عن حضن الأم نهائيا ، بل هو يصر على البقاء طفلا ( العبقرية هي الطفولة المستعادة قصدا كما يقول بودلير ) لأنه يدرك من حيث لا يدرك أن سرّ إعجازه الشعري يكمن في هذه الطفولة المستبقاة عمدا ، ولهذا نجده – ومن حيث لا يشعر – يعلن انكساره الطفلي الحيي الباهر بعد أن امتلأ طويلا بالواجب الكوني والوجودي ، وبنداءات الرحيل المبكرة التي تشبه التكليف الرسولي . يعود إلى هشاشته البشرية القابلة للإنجراح ، يصرح بها بلا لبس ، بل بنزوع حقيقي يؤكد دور الأمومة – الأصل – الولاء الثابت ، العزوم الذي لا يخضع لتبريرات أو تخريجات مهما كانت محكمة ، (وهل في إنهاكات الجنين عذرا للتخلي عنه ؟؟ ) مقابل تقلبات دور الإبن التي تحكمها تغيرات استجابات موقفية ومصلحية :
( تقول لحظة توديعي :
أتتركه ؟
أقول :
رحماك يا أمي أنا بشر
لست المسيح
وما كنت الحسين أنا
حتى أراه
فلا أذوي وأنذعر
ما كان قلبيَ يا أمّاه من حجر
حزن العراق
له الأحزان تعتذر – ص 94 ) .
الآن نزل القمر المؤسطر المتعالي – حتى على تربة أصله – إلى أرض واقع العجينة التي شكل منها .. فلا مهمات أسطورية .. ولا فذلكات خرافية .. ولا دور ذي أبعاد كونية . عاد عيسى في هذه اللحظة بشريا وأرضيا ، لا قمرا غادر البلاد لأنها لم تعد تحوي شيئا يضيء له .. ولا ” منتظرا ” كتب عليه النأي والسفر .. عاد يتوسل – كما هو متوقع من ابن عراقي بار – خيمة الأمومة الصابرة كي تمد ظلال عطاياها الباذخة فتشمل بعطفها لا هو حسب ، بل كل رفاقه المتغربين المنفيين . فهي أم الجميع ، وبهذا المعنى فقط تعود الأم لتكون هي المؤسطرة / الأصل ، الأم العشتارية التي تتسع عباءتها لكل الأبناء المعذبين المنخذلين ، بعد أن حاول الشاعر /الإبن عبثا،انتزاع امتيازات الدور الأمومي الكوني “مقلوبه” كما فعل جدّه”دموزي” بمباركة مكبوتات اللاشعور الجمعي التي تحاول الخلاص من سياط العذاب عن أي طريق حتى لو كانت مخالفة لوقائع مؤصلة ومرهونة بحقائق الحياة :
( يا أمّ عيسى
وعيسى كلّ مغترب
أضاع أمّا
فأوهى عمره الضجر
كوني لهم أمّهم
صلّي لوحشتهم
كما تصلّين لي إذ يطلع السحر
لقد بعدنا وهذي الريح باردة
فلتدخلي البيت
عبّي كأس من صبروا – ص 95 ) .
لكن القمر الإبن لا يكتفي بالنزول المذعن إلى أرض حقيقته الواقعية المؤصلة أيضا حسب ، بل يوغل في التكفير الإعترافي الذي يحاول إطفاء جذوة جمرة الإحساس بالإثم التي خلقتها محاولته الخلاصية التحليقية الجامحة في استهلال النص / الفعل الإبداعي / الحلم ، فيذهب ” بعيدا في طحين ” البراءة الأولى ؛ براءة الإنكسار الطفلي البيضاء ، التي لا مصلحة شعرية أو نفسية فيها . براءة لوجه البراءة ، وفي هذه الحال لابدّ أن تكون اعترافا نهائيا لا شائبة عليه ، وإقرار بحق الأنوثة/ الأمومة الأزلي ؛ هذا الحق أول من يدركه الشعراء الأبناء النجباء في لاشعورهم . هذا ما يشتمل عليه المقطع الثامن مضمونيا ، ولكن هذا المقطع يثير في مواجعنا كل خلاصات الألم الفاجع في القصيدة . وفوق ذلك فهو يحرك موقفا نقديا تقييميا يتعلق بفرادة الصورة الشعرية المذهلة التي صاغها الياسري . فإذا كان الدكتور إحسان عباس في كتابه عن السياب الكبير قد اعتبر الصورة التي رسمها السياب للكيفية التي تنسج فيها إبر الرغبة الآثمة نسيج بيت الإغواء العنكبوتي حول حشود العابرين منطلقة من الألحاظ الماكرة واحدة من أجمل الصور في تاريخ الشعرية العربية :
( كأن ألحاظ البغايا
إبر تُسل بها خيوط من وشائع في الحنايا
وتظل تنسج بينهن وبين حشد العابرين
شيئا كبيت العنكبوت يخصّه الحقد الدفين
حقد سيعصف بالرجال )
فإن الياسري يقدم – مع الفارق المضموني طبعا – صورة ينبغي وضعها ضمن إطار الصور الشعرية العربية النادرة . صورة إعجازية يعز نظيرها في الشعر الحديث . وأهم ما فيها أنها مخلصة للموروث الشعبي العراقي وخصوصا في مجال الشعر الدارمي الحافل بتعبيرات ” التضاد العاطفي – AMBIVALENT ” التي تتسم بها الشخصية العراقية ، وليس الإزدواجية الشعبية التي وسمها بها العلامة الراحل ” علي الوردي ” . شعر عيسى – وهذه من سمات قوته – هو شعر شعبي جزل مسبوك بالفصحى . لقد وجد عيسى طريقه الأسلوبي المتميز بعد أن أدرك بحساسيته العالية أن تيارات الحداثة وما بعد الحداثة التي يتمحور جهدها الأساس حول مركزية إلغاء الحضور الإنساني بأي طريق و ” تشييئه ” لتمهيد الطرق لغزو العولمة التي لا تعيش مع الاختلاف والخصوصية ، وتنتعش بالتجانس والسطوح المتساوية ، حتى حركة ” الأواني المستطرقة ” في العلاقات الإنسانية تضر حركتها الغازية رغم بساطتها . إن الصورة التي رسمها ” مبضع ” عيسى الشعري ، وهو مبضع جارح شديد الوطأة ، تصوّر التناقض الوجداني بشكل مدمّر ، تناقض عاطفي بطلته وضحيته في الآن نفسه الأم العظيمة الممتحنة :
( ربّيت يا أم عيسى مثل من حملت
في كفها الماء
أو في عينها الإبرُ
تسرّب الماء إن فكت أصابعها
وإن تحرّك جفناها
شكا البصرُ – ص 96 ) .
المقابلة بين المكونين : الإبرة الفولاذية المسبوكة من أعظم المعادن لإنجاز مهمة صغيرة ، والماء اليومي السائل البسيط الذي لا غناء عنه لديمومة حياتنا ، هنا تتواجه سمات متناقضة في الظاهر لكن الشاعر يطابقها في فعلها المجازي وبفعل خلاقيته الشعرية العالية ، فيجعل الحديد أخا للماء ، ورفيقا موجعا في النتائج المدمرة . إنها حيرة الأم التاريخية والنفسية التي لا حلّ لها . العين المشبوحة التي ابيضت من حزن الإنتظار الذي لا نهاية له ؛ إنتظار الإبن القمر الغائب ، والكف المتعبة والعنيدة القابضة على وشل قطرات ماء الأمل ، أمل العودة المستحيلة . وبالعودة إلى محنة الإنتظار المفتوحة ، يغلق الشاعر دائرة قصيدة العذاب فيختمها بما يعيدنا إلى بيت الإستهلال ، وهكذا ينسج الشاعر وحدة قصيدته ببراعة حدّاد مثل هايني :
( وحين تعبرك الأيام لن تجدي
سوى ليال نأى عن أفقها القمرُ – ص 96 ) .
وحين تحدثنا في الإستطلاع التمهيدي عن أن الحضور الأنثوي الباهر في مجموعة عيسى ( أناديك من مكان بعيد ) هو تمظهرات فعلية وتعبيرات رمزية عن حضور الأم الوجداني والنفسي اللاشعوري خصوصا ، فإن هذا الإستنتاج قد وجد تطبيقه ” المباشر ” إذا جاز التعبير في قصيدة ” يا أم عيسى ” . لكن هناك تجسّدات أخرى يلعب عليها الشاعر بمهارة وذكاء ، منها ما هو من بدائل الأمومة مثل خالة الأم في قصيدة ” زيارة الخالة حليمة ” التي يربط في مقطعها الإستهلالي الأول وبصورة مباشرة بين أمه وخالتها ، وهي رابطة مزدوجة من الناحية النفسية ، حيث تلعب الخالة دور الأم بالنسبة لأم الشاعر :
( إلى الطرقات المتعرجة
تلك التي تربط قريتنا بـ ” كميت ”
تتجه عينا أمي
كلّ مساء – ص 55 )

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *