يخدم المئات من مبدعي شعبه، وحان الوقت ليقطف بعض الثمار
رزاق إبراهيم حسن
من يعرف حميد المطبعي في مختلف مراحل حياته ويعرف عنه وعن مشاريعه وعلاقاته يدهش ويأسف لحاله اليوم، فقد كان كتلة من نشاط دؤوب ومثابر ولكنه منذ سنوات عدة لم يغادر منزله لانه لا يستطيع المشي برجليه، والانتقال من مكان الى اخر.
وكان وخاصة في سنوات اصدار مجلة (الكلمة) يتصل بالادباء والكتاب بشكل مباشر او من خلال المراسلة ليحصل على ما يريد من قصائد وقصص ودراسات نقدية ثم يقوم باختيار الأفضل منها وتنفيذها بنفسه، حيث كان التنفيذ يتم بالحروف القديمة، ثم يقوم بعد ذلك بارسال اعداد معينة الى ادباء ومفكرين وكتاب في اقطار عربية مختلفة، ومنها العراق، حيث تكون هذه الاعداد مجانية على الاغلب وكان حميد يتحمل تكاليفها وتكاليف ارسالها من اجل ان يطلع العرب على النتاج الادبي والفكري العراقي، ومن اجل ان يساهموا في مجلة (الكلمة) الى جانب الادباء والكتاب العراقيين. وقد استقطبت مجلة الكلمة آنذاك اشهر الكتاب والشعراء العرب للنشر فيها مثل ادونيس ونزار قباني والفيتوري وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وغيرهم. وبعد هذا الحشد من الأسماء الأدبية والفكرية وهي أسماء عززت من مكانة الادب العراقي، ومن دوره القومي بعد ذلك يجلس حميد المطبعي وحيدا مع امراضه واوجاعه، لا يزوره غير عدد قليل من الأصدقاء وهم لا يملكون غير مشاركته في المه، وغير الأسف على زمان يصبح فيه واحد مثل حميد المطبعي دون رعاية، ودون اهتمام من الجهات المسؤولة والمعنية بصحة وحياة المبدعين من الادباء والكتاب.
وكان حميد المطبعي دائم التنقل بين بغداد والنجف الاشرف لأغراض خاصة بـ(الكلمة) وصدورها وتوزيعها، ولتفقد الأصدقاء من الادباء والكتاب وللدوام في بعض المؤسسات الإعلامية ولكنه اليوم ينتقل مع زوجته وابنه الوحيد باسم بين بغداد والنجف الاشرف بحثا عن الدواء والشفاء وليس من الممكن تحقيق ذلك وحميد لا يتقاضى غير راتب صندوق تقاعد الصحفيين الذي تطور وتضخم الى (ثلاث مئة الف دينار شهريا) بعد سنوات من المبلغ الزهيد وسنوات من الانقطاع. وقد حاول المطبعي مواصلة الكتابة وإنجاز بعض المشاريع رغم مرضه وعدم قدرته على الحركة، اذ كان يكتب عمودا شبه يومي في جريدة الزمان، ويكتب لصحف ومجلات أخرى، ولكنه اضطر الى ترك الكتابة لانه لم يعد قادرا على استخدام يديه اللتين ترتعشان، ويستكملان مع رجليه العجز وفقدان القدرة على الحركة. وقد انجز خلال سنوات مرضه التي امتدت لاكثر من سبع سنوات طبع ونشر المجلد الاوسع لموسوعة اعلام وعلماء العراق في القرن العشرين ويضم المجلدات الثلاث لهذه الموسوعة المهمة والتي تعد من افضل الموسوعات العراقية في هذا المجال، كما أعاد طبع ونشر موسوعته الجذور وهي تتناول شخصيات فكرية وادبية من مختلف المكونات العراقية، وأعاد طبع بعض مؤلفاته الصادرة في سنوات ومراحل سابقة، واصدر كتابا عن سقراط، كان قد نشر معظم مواده في جريدة الزمان. ولم يكن حميد المطبعي من الذين يكتبون للاستهلاك ومن اجل ملء الفراغات في الصحف والمجلات ولم يكتب لانه يحب الكتابة وانما كان صاحب رسالة، وكان يحرص على ان تصب كتاباته في خدمة الثقافة الوطنية العراقية، ومن اجل تجديد وتطوير هذه الثقافة، وكان يمارس التحدي عندما يقتضي الامر ذلك، فليس من السهل اختراق اهم وابرز قلعة للقصيدة العمودية، وقيادة التجدد من خلالها، وذلك ما فعله حميد المطبعي، اذ اصدر مجلة الكلمة في مدينة النجف الاشرف التي عاشت مع القصيدة العمودية مختلف مراحلها، وكانت قد حققت انسجاما بين رسالتها الدينية وبين القصيدة العمودية.
اغراء الوجاهة
ولم يتم ذلك لان حميد المطبعي يمتلك اغراء الوجاهة والمال والمنصب السياسي والاجتماعي الكبير، اذ لا يملك غير مجلة الكلمة وهي مشروع ليس رأسماليا ولم توظف له اية كمية من الأموال، بل انه اصدرها على سبيل المغامرة والتحدي.
ويدلك أي عدد منها على وضعها المادي فهي ذات طباعة قديمة وورق اسمر اللون، وهي ذات تصميم بسيط لا يخلو من الرموز والايحاءات الثقافية والسياسية، وبهذا المطبوع البسيط والمعبأ بالنصوص والدراسات الجيدة مارس حميد المطبعي التحدي. ولم يكن هذا التحدي متمثلا بالمجلة وصدورها فقط وانما يمتد لاشمل من ذلك بكثير، اذ كان حميد المطبعي يريد بالمجلة ان تكون معبرة عن تيار جديد في الثقافة العراقية، ذلك هو تيار جيل الستينات الذي يعد من التيارات المهمة والفاعلة والمؤثرة في الثقافة العراقية، ولتعزيز ذلك اخذ حميد المطبعي يدعو ويستقبل ادباء وكتاب الستينات من مختلف المدن والمحافظات العراقية، ويصدر نتاجاتهم تحت عبارة منشورات دار الكلمة، كما اخذ يصدر اعدادا وملفات خاصة عن بعض الشعراء والقصاصين ويقدم دراسات ومقالات لنقاد جدد بمناهج وتوجهات جديدة.
قصائد نثر
ولأول مرة تصدر مجلة في النجف الاشرف حاملة قصائد نثر لشعراء عراقيين وغير عراقيين وكان المطبعي في مقدمة هؤلاء الشعراء، اذ يمكن عده رائدا لهذه القصيدة في العراق وفي النجف الاشرف ولم تكن مجلة الكلمة دون اهداف سياسية ثقافية، فقد كانت الساحة الثقافية تعاني توزع الادباء والكتاب على تيارات سياسية متناقضة ومتصارعة، وكان كل تيار يعمد الى عدم الانفتاح على التيار الاخر، خاصة وان العلاقات كانت تحمل الطابع الدموي الذي رافق واعقب حركة 14 رمضان، وصدرت الكلمة بمساهمة ادباء وكتاب من مختلف التيارات، وكانت المبادرة لبروز وتنفيذ فكرة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي تعرضت للاجهاض بعد تأسيسها لعدة سنوات. وكان حميد المطبعي يريد بهذا الحشد المختلف ان يضع الكل امام الحوار والسلام، وان يسهم الجميع في خدمة الثقافة العراقية الوطنية، وخدمة التطور والتجديد فيها.
وعندما أغلقت مجلة (الكلمة) لم يهمل حميد المطبعي دوره في الثقافة الوطنية العراقية، وانما بادر الى كتابة وإنجاز سلسلة الجذور وهي مؤلفات تجمع بين الحوار الصحفي وبين السيرة الذاتية والوثائق وقد نشرت في جريدة (الثورة) ثم إصدرها في كتب كل كتاب مكرس لشخصية معينة من الشخصيات التي تمثل مختلف المكونات العراقية، ومن هذه الشخصيات علي الوردي ومحيي الدين إسماعيل وحميد سعيد وبهنام أبو الصوف ومحمد ومسعود محمد وكوركيس عواد وجواد علي وميخائيل عواد وغيرهم.
وتعد هذه التشكيلة من ابرز ممثلي الثقافة الوطنية العراقية، فمنها العربي والكردي والشيعي والسني والمسيحي، وكأن حميد المطبعي يريد بها ان يؤكد ان العراق وثقافة العراق بهؤلاء المبدعين المثقفين وليس بالجهلة المتعصبين ورواد الكراسي والمطامع ويبدو ان حميد المطبعي وجد ان مشروعه الثقافي العراقي أوسع واشمل مما تحقق في مجلة الكلمة وسلسلة الجذور، فالاول كان مرحليا وتحققت الكثير من أهدافه في ظروف إنجازه، واصبح المتخاصمون والمتصارعون شركاء في الانحياز الثقافي للستينات والثاني يركز على بعض شخصيات الثقافة الوطنية العراقية وليس على أوسع عدد من المساهمين بهذه الثقافة، ولتقديم أوسع صورة عن هذه الثقافة عمد الى اعداد وإصدار موسوعة الاعلام والعلماء العراقيين في القرن العشرين، وهي تقدم نبذة من سيرة ذاتية لادباء وكتاب ومفكرين واشخاص مبدعين ومتميزين في جميع الحقول والميادين حيث يقف الاديب الى جانب الحقوقي والمحامي والطبيب والعسكري والسياسي والصناعي والأستاذ ورجل الدين.. الخ.. ولم يكن حميد المطبعي بهذه الموسوعة يتوخى التعريف بالشخصيات العراقية في مختلف الحقول والاختصاصات فقط، وانما أراد بها ان تكون صورة مصغرة ومتميزة للعراق، وان العراق هو من يبدع ويتميز فيه وهو ليس في الادعاءات التعصبية القومية وانما في العراق نفسه، فكل الذين قدمهم المطبعي لم يشر الى هوياتهم القومية وانما لانهم من اعلام وعلماء العراق في القرن العشرين.
وبعد ما الذي قدمه المطبعي؟
إضافة الى ما تقدم فان المطبعي عاش عمرا لم يتوقف عن العمل والانجاز.
– فقد اصدر في سنوات معينة جريدة باسم الاتحاد العام لعمال النجف وكانت بعنوان (العامل النقابي) و(العامل الاشتراكي).
– قيامه بتأليف كتاب عن تاريخ الادب العربي وابرز شعرائه كان يحاول فيه التعويض عن الكتب الأدبية المقررة لطلاب الإعدادية.
– توثيق رحلاته الى بعض المناطق العراقية في كتب معينة يحاول فيها ان يقدم وجهات نظر خاصة ومختلفة عن بعض الاثار والوقائع التاريخية، ومنها كتاب (رحلتي الى شمال العراق) وكتاب عن بابل هذا بعض ما انجزه المطبعي خلال مسيرته الثقافية آملين دوامها وازدياد إنجازاتها بعد استعادته صحته وعافيته، وانتصاره في صراعه ضد المرض وهو في حالته الراهنة يواصل هذا الانتصار اذ تجده في أوقات معينة يبادلك الحديث واستعادة الذكريات البعيدة والاستفسار عن هذا وذاك من الأصدقاء وتجده في أوقات أخرى عاجزا عن الحركة والحديث والوقوف. ويتضح من خلال ذلك ما يلي:
1- ان حميد المطبعي شخصية وطنية وابداعية ويستحق العناية والاهتمام بما يؤدي الى إنقاذه من وضعه القاسي الراهن.
2- ان حميد المطبعي لم ينل اية التفاتة ومكسب، فقد عرفناه رافضا للحصول على قطعة ارض او مبلغ من المال او اي شيء اخر، ولم يعرف عنه التكسب بمواهبه وكتاباته، ومع انني اعرف انه عمل في مؤسسات إعلامية وثقافية الا انني فوجئت بخروجه منها صفر اليدين، فهل لم يقدم على الاستفادة من خدماته، وذلك ما تؤكده خدمته التقاعدية، فلم توضع ضمن التقاعد المدني أي تقاعد الدولة وانما احيل الى صندوق تقاعد الصحفيين، وهو صندوق خاص وقد انقطع عن العمل بعد عام 2003 واعيد بمبالغ زهيدة، ومازالت مبالغه ادنى بكثير من احتياجات الشخص الواحد، فكيف يكون الحال مع المطبعي ومرضه وكثرة ادويته ومراجعاته الصحية وعائلته التي تتألف من خمسة اشخاص؟. وحميد اضافة الى ذلك ارهق جسده بالعمل وكثرة التحرك، وكان هذا الجسد يراكم المتاعب والجهود المضنية دون راحة واستجمام اذ لم يعرف عن حميد انه تمتع بفسحة راحة واستجمام او سافر الى بلد ليرتاح، فقد سافر الى ارتيريا في رحلة عمل وموقف قتالي، وشمل معظم محافظات القطر باسفار وثقت أهدافها ومعطياتها في مؤلفاته المختلفة، ويبدو ان جسد المطبعي كان يبحث عن فرصة راحة من تراكم المتاعب والجهود ووجدها فرصة سانحة في الشيخوخة، حيث تضعف المقاومة ويتغلب الجسد على عنفوان الروح، وعلى طموحها وحيوتها وتطلعها الى المزيد من التوثب والانجاز، فهل يجوز ان يترك المطبعي مع الامراض واوجاعها وتعرض روحه الى الخمود والانطفاء؟ وأود ان اذكر انني لم اكتب عن المطبعي بطلب منه او من عائلته او احد اقربائه، وانما لانني اشعر ان المطبعي ثروة وطنية وانه خدم المئات من مبدعي شعبه وثقافته وانه في الظرف المناسب الذي يؤهله لنيل بعض ثمار هذه الخدمة الوطنية الإبداعية.
*عن صحيفة الزمان