(I) العصا والحبل
رواية عبد النّور مزّين، (رسائل زمن العاصفة) ليست مجرد قراءة جديدة لفترة معينة من تاريخ المغرب الحديث، ولكنّها شيء آخر أعمق من ذلك بكثير، إنها لا تتحدث عن المغرب فقط، ولا عن الانتفاضة التي شهدها في أواخر شهر حزيران (يونيو) من سنة 1981، وإنّما عن العالم بأسره، وعن كلّ ما حدثَ ولم يزل يحدث بداخله من وقائع تُغيّرُ مجرى التاريخ، وتُزلزِل الأماكن والتأطيرات السياسية والجغرافية له من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، ومن أقصى شرقه إلى أقصى غربه، وذلك انطلاقا من فرضية التشابك الكوكبي التي طرحها الكاتب عبر فكرته المُتخيّلة عن مجرة أسماها الدكتور عبد النور بمجرة الجرو، أو المجرّة التّي ستضطرُّني إلى الوقوف أكثر عند المعنى الكوني للرواية بأكملها، ومحاولة تفسير ما الذي دفعني إلى القول بأنها لا تتناول منطقة جغرافية معينة واحدة هي المغرب، وإنما العالم والكون بأسره في أقصى الحالات.
تشاءُ القراءة الاستظهارية المُؤلَّفَاتيّة لرواية (رسائل زمن العاصفة) أن يكون بطلها هو الشخصية الراوية أو الحكّاءة، ويقدّمُهَا لنا الكاتب ككيان مجهول الاسم، وكذات تائهة وسط دوامة من الشخصيات السردية التي يتجاوزُ عددُها الأربعينَ شخصا، يتحرّكُون جميعهم عبر خريطة جغرافية تتوزع نقاطها الرئيسة بين مدن مغربية مختلفة أهمها الرباط والدار البيضاء وطنجة وتطوان، ومدن أخرى اسبانية أبرزها طوليدو وغرناطة. أمّا عن التأطير التاريخي، فقد حدَّدُه الكاتب منذ أولى صفحات الرواية حينما قال على لسان الراوي: [كان ذلك قبل أحداث الدار البيضاء بيوم أو يومين. كنا قد وصلنا أواخر يونيو إلى مخيم الريفيين، على مشارف كاستييخو. كان الأوان عصرا.] (1). وهو التأطير الذي يتمُّ عبرَهُ جرد أيقونات زمكانية تتلخّصُ فيما يلي من الأجزاء المتعالقة والمتصالبة فيما بينها: أحداث الدارالبيضاء / قبل يوم أو يومين / أواخر يونيو(حزيران) . وهي كلها أجزاء تضطرُّ القارئ إلى مغادرة النصّ للبحث في المصدر التاريخي الذي يُوثّقُ للشأن المغربي، كي يجدَ أنّ “أحداث الدارالبيضاء” التي وقعت في أواخر يونيو (حزيران)، يُقصد بها تلك التي اصطلح على تسميتها بـ”انتفاضة الدارالبيضاء الكبرى”، أيْ التي كانت سنة 1981، وهي السنة التي لم يذكرها الكاتب عبد النور منذ البداية، ولا حتى في وسط الرواية، وإنما ترك للقارئ مغربيا كان أم لا أمرَ استنباطها من خلال القراءة الكاملة لأحداث كِتابهِ الروائيّ، لا سيما وأنَّ ظهور هذه السنة بالذات وما تلاها من سنوات لمْ يتحقق واقعاً إلا في الصفحات الأخيرة الخاصّة برسائل “غادة الغرناط”. وهذه نقطة تُحْسَبُ للكاتب من حيث دقة التقنيات السردية المعتمدة في كافة فصول الرواية، لأنها تعني قدرته على شدّ انتباه ونَفَس المتلقي إلى آخر حرف من حروف نصه الروائي. إضافة إلى هذا، فجدير بالذكر أنّ أمر هذا الغموض الذي يلفُّ ذِكْرَ كُلّ ما له علاقة بتواريخ السنوات، لمْ تسلم منه فقط السنة التي اندلعت فيها انتفاضة يونيو، ولكن أيضا السنوات التي قضاها الراوي في السجن، فالمتلقّي لا يعرفُ بالضبط مثلاً متى اعتُقل حبيب “غادة الغرناط” ولا متى أفْرِج عنه، ممّا يستدعيه إلى محاولة القيام بعمليات حسابية تتقصّى اليوم الذي تمّ فيه الاعتقال، ثمّ اليوم الذي تمّ فيه التسريح، عبر إحصاء عدد الأيام التي قضاها الراوي مع غادة في (شاطئ الريفيين)، وأيام السفر إلى طنجة، وما إليها من التفاصيل التي تتعلق بتحرُّكات الراوي قبل أن يدخل إلى المخدع الهاتفي الذي منه كان يحاول أن يتحدث مع غادة: [وأعطيتك رقم هاتف خالتي بباب العقلة في تطوان. كنت أعرف أن ذلك كان كافيا. وكان كافيا. وانتظرتَ أمام مخدع الهاتف ببناية البريد في شوق ولهفة، تترقب صوت تلك التي أضحى افتقادها جارحا لا يطاق، غادة الغرناط. لم تحصل إلا على موعد أجج اللهفة أضعافا وأشعل الشوق جحيما في القلب.
آه يا لعناتي ..أنا. آه ! أي موعد هذا الذي اخترتُه لك؟ على باب مخدع الهاتف، كانا هناك. سرت بينهما، يحيطان بك،إلى خارج بناية البريد حيث كانت السيارة رابضة تنتظر لتبدأ رحلة زنازينك الأولى ولأهوي، أنا، أبعد فأبعد في قعر جحيمي السحيق] (2) وهي كلّها أيام تصل إلى ما يقارب الأربعين يوما، ليستخلص أنّ الاعتقال كان تقريبا في يومه 10 يوليو (تموز) 1981(3)، أمّا عن كم دام سجنه سواء في معتقل ولعلو، أو في سجون طوليدو وغرناطة، فهذا ما لا يمكن ضبطه بشكل دقيق، اللهم إذا تمّ الاعتماد على اللحظة التي تؤرخ في الصفحات الأخيرة من الرواية للقاء الرواي الأب بابنه عبد الكريم بعد غياب وضياع دامَا لأكثر من خمس عشرة سنة وهذا أمر لا يؤكده سوى مصطلح (الشاب) الذي ورد في المقطع التالي: [كانا ينظران إلي في استغراب وتساؤل باديين. منظر تلك القلادة ، على صدر ذلك الشاب الواقف جنب المرصاوي، هزني بكل ذلك العنف الذي لم أعهده من قبل. إنها قلادتك يا غادة الغرناط. هكذا كنت أردد في نفسي وأنا أعيد في ومضة برق صور ذلك المساء حين اشتريتها من السويقة على طريق عودتنا من نزهة حسان.
ودون وعي مني كنت أمد يدي إلى عنق ذلك الشاب متلمسا معدن ذلك الصندوق الصغير الذي يتدلى من السلسلة. بحركة سريعة غاية في الإتقان، كان الشاب قد أزالها ومدها لي في حركة شبه آلية.] (4)
عدم تحديد الكاتب للتواريخ عموماً في روايته بشكل أكثر دقة، لا يمكن اعتباره عيبا في المسار السردي للأحداث بقدر ما هو تقنية من التقنيات التي تبناها عبد النور مزّين وهو يبني نصه الروائي طابوقة طابوقة، لأن عدم تحديد التاريخ، وكذا اسم الراوي هما أمران يعنيان معاً فتح باب التأويل على مصراعيه، لأنّ الذات الساردة التي هي “الرواي” من الممكن جدا أن تكون قابعة بين القراء، كما من المحتمل جدا أن يجد أحد هؤلاء القراء أو بعضهم أحداث الرواية تتطابق لحدّ ما مع ما قد يكون عاشه هو نفسه في فترة من فترات حياته بغض النظر عن الحقبة التاريخية أو عن الأمكنة، ممّا يضفي على الرواية طابعا كونيا، فكل قارئ هو معني بالأمر، وكل مدينة في العالم هي معنية بالأمر، لأن تاريخ الإنسانية هو مجموعة من حلقات يتداخل بعضها ببعض بشكل يستحيل فصل أحداث تقع في دولة ما عن تاريخ دولة أخرى، وإن كانت ظاهريا لا تبدو كذلك، وعليه فإن أحداثا مثل هذه التي حدثت في المغرب لا بد أنها حدثت ولمْ تزل تحدث في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية، ويكفي أن يتأمل الباحث في مصطلح (سنوات الرصاص) مثلا ليجده حاضرا في الأرشيف التاريخي والسياسي للعديد من الدول، ناهيك عن أنّ العديد من شخصيات الرواية هي من جنسيات وديانات مختلفة فهذا الإسباني وذاك اليوناني، وهذا المسلم وذاك المسيحي والثالث اليهودي. وكل هذا يؤكد الأرضية التي انطلق منها الكاتب حينما قال في تنبيهه: [هذه رواية …كل الأحداث والشخصيات والوقائع والأمكنة الواردة فيها أو المرتبطة بها ، هي مجرد خيال وكل تشابه مع الواقع لا يعدو أن يكون مجرد مجرد صدفة ليس إلا.] (5) وهو فيما ذهب إليه صادق ومُحقّ، لأنّ الرواية تتحدث حقّاً عن أحداث من واقع الخيال، وإذ أقول هذا فإني أعني الخيال المحض لا التخيّل، أي أنني أمام كاتب يعرفُ جيّداً الفرق بين عصا موسى وبين حبال سحرة فرعون، فالعصا هنا هي عصا الإبداع والخيال الخلاّق، والحبال المتحركة هي كل شيء يمكنه أنْ ينجُمَ عمّا قد يحدثُ داخل مخيلة القارئ فيعتقد أنّ ما يُحكى داخلَ الرواية من أحداث تروي عن انتفاضة يونيو وما تلاها من تداعيات، لهُ علاقة بشخصيات وبأسماء حقيقية وواقعية، في حين أنّ الأمر غير ذلك تماما. ورُبّ قارئ سيتساءل قائلا؛ وكيف لنا أن نجزم بصحة هذا الأمر، فلربّما يكون هذا التنبيه مجرّد عبارة تمويهية لا أقل ولا أكثر؟ وأقول له: كل شيء يوجد في اسم (الزهرة) ومجرّة الجرو، هُما وحدهما عندهما الجواب القاطع على ما ورد في كلمات تنبيه الأديب عبد النور مزّين التي افتتح بها روايته.
(II) الزهرة
يتكوَّنُ المعمار الهندسي للرواية من اثني وعشرين فصلا، بعض هذه الفصول يحتوي على أكثر من جزء، وبعضها الآخر وخاصة الأخيرة يحملُ ستَّ رسائل؛ خمسٌ هي لغادة، والرسالة الرئيسة السادسة هي لشقيقتها الزهرة. والزهرة هذه هي البطلة الحقيقية لكلّ الرواية وإن كان يبدو ظاهرا أنّ البطل الرئيس هو “الراوي”، فمَرّة أخرى وأخيرة تستطيعُ الزهرة أن تستولي على كل شيء، أيْ أنها هي اليدُ التي كتبتْ تاريخ تلك الفترة من وجهة نظرها هي فقط لا غير، ولعلّي أقول هذا لأسباب عدّة أهمّها، أنّ القراءة العميقة لكافة نص الرواية وبفكر بعيد تماما عن الشحن العاطفي والمبالغة في التهييج التاريخي للأحداث واستغلالها لأبعاد لا صلة لها بأهل الإبداع والفن الروائي لا من بعيد ولا من قريب، تُظْهِرُ أنَّ الأمرَ لهُ علاقة وشيجة بشخصيات ذات تركيبة نفسية مريضة، تعانِي من اضطرابات هستيرية، وأخرى اكتئابية وثالثة وسواسية قهرية وصلت الذروة عندَ الزهرة، التي كان همُّها الوحيد في الحياة هو تدمير أختها غادة، فقط لأن هذه الأخيرة مقارنة بها عاشت قصة حبّ عفيفة وحقيقية مع حبيبها الأبدي (الراوي)، فوجدتْ في ظروف انتفاضة يونيو ما يسمح لها بالانتقام منها أشدّ وأفظع انتقام. ولو كانت أمامها ظروف أخرى غير ظروف الانتفاضة لقامت بالشيء نفسه دون أدنى تردد، ولو كانت أختها بقيت على قيد الحياة لما توانت عن الاستمرار في إيذائها سرّا وعلناً عبر التواطؤ مع مَنْ هُم على شاكلتها حتّى تحرمها من السعادة التي لم يعرفْ قلبُها إليها سبيلا. ولعل الكاتب كان حكيما للغاية في التأكيد على تشريح شخصية الزهرة بمشرط الطبيب العارف بخبايا النفس البشرية فجعلها تُعرّي نفسَها أمامَ القارئ من خلال رسالتها المطولة إلى أبعد حدود، كما يبدو هنا في إحدى فلتات لسانها التي لم تُسيْطر عليها بنفس الشكل والإيقاع الذي استطاعت بهما السيطرة على العديد من أحقادها التي كانت تنفث سمومها في رسالتها الواحدة تلو الأخرى:[…أنا، لم أدخل الجامعة مثلك أنت وغادة. أنا ، كنت مثله تماما، بالكاد تخطينا الثانوي.] (6) وهي عبارة تؤكد ما ذهبتُ إليه من رأي مفاده أن مركبات النقص المتراكمة داخل نفسية الزهرة المريضة هي السبب في كل ما تحبل به الرواية من أحداث ومتاهات تحكي عن واقع هو أقرب إلى الجحيم منه إلى الحياة الواقعية العادية التي يمكن لأيّ إنسان سليم وسويّ أن يعيشها: [… الجحيم يعلِّم أشياء كثيرة يا حبيب أختي ، حتى جراح الشعر الغائرة في أعماق الروح…] (7) وهو نفسه الجحيم الذي تعيش الزهرة في الدرك الأسفل منه هي وكل الأسماء التي كانت تدور في فلكها بمن فيهم الراضي أبكوز، العربي، وربّما موحا (8)، وابنتها (كومة الدم المتخثر) (9) ثم ثريا بلحاج زوجة الراضي، وابنها منه عمر، وما إلى ذلك من الشخصيات الثانوية التي كانت بشكل أو بآخر تتناوب على تنفيذ أوامر تدمير (الراوي) وغادة وكل من كان لهم علاقة بهما معا. أمّا في مقابل حفرة الجحيم هذه فكانت غادة كما يوضح الرسم التخطيطي، تشرقُ نجمةً ليس في مثل صفائها ونقائها ولا تألقها أحد: فتاة مثقفة، خلوقة، ذات حياء ووعي بقضايا بلدها آنذاك، وفية في محبتها وحفاظها على العهد والوعد من خلال سهرها على شؤون ابنها متكبدة كل المشاق لتضمن له أخيرا لقاءه مع أبيه حتى بعد وفاتها، ناهيك عن أنها لم تكن عندها أيّة نية في أن تجد نفسها محشورة في أحداث لا تمتُّ لها بأيّة صلة لولا أخطاء أختها الفادحة والكارثية وأمراضها العويصة والمتشابكة كأسلاك نابتة في غابة من الشوك: [سرى الخبر في الدرب كنار في بقعة زيت، فتقاطر الجيران على الدار بدافع الفضول وحب الاستطلاع. كانت غادة ملازمة لأمي كل ذلك الوقت، لا تكاد تفارق يداها يد أمي. كانت غادة دائمة الابتسام. وكنت أرقب تلك الابتسامة الخفيفة الجميلة وهي تضيء ثغرها الذي يقطر حسنا . كانت برك سوداء آسنة تتحرك في دواخلي وأنا أرقب كل ذلك الألق والبهاء. كم مرة غادرت المجلس وسط الدار حيث تحلقت النسوة حول غادة وأمي وهما في مجلسهما، ودخلت إلى غرفتي وأغلقت الباب وانخرطت في نوبة بكاء لا أكاد أفقه كنهها. وكنت أحاول أن أهدئ من روعي وأحاول الخروج إليهن] (10).
لكن السؤال الذي يظهر الآن من بين ثنايا هذا الوقوف المطول عند شخصية الزهرة: هل تاريخ الإنسانية يكتبه أهل الجحيم، أولئك الذين يسكنون الدرك الأسفل منه؟ وهل التغييرات التي تحدثُ في كل ركن من الكرة الأرضية لا يحرّكُها ولا يكون خلفَها سوى أهل السعير؟ إذا كان الأمر كذلك فمن أين يأتي هؤلاء؟ ولماذا اختار عبد النور مزّين هذه الصورة المجازية للتعبير عن هذه اللحظة الحرجة من تاريخ المغرب والإنسانية جمعاء؟
للردّ على هذا السؤال تجب بداية محاولة تقصّي الدوافع التي حدت بالكاتب إلى اختيار أسماء معينة دونا عن غيرها، وأقصد بالذات هنا اسميْ (الزهرة) و(غادة).
يبدو جليّا من خلال العديد من صفحات الرواية أنّ (الغرناط) هو اللقب العائلي لكلتا الشقيقتين (الزهرة وغادة) وفيه وبدون أدنى شك إشارة إلى تاريخ المغرب الأندلسي وجذور غادة الضاربة في أعماق تاريخ وحضارة الرقي والعلوم بشتى أنواعها، لكن الذي يبقى غامضا هو سبب إصرار الكاتب على تعريف اسم الزهرة وترك اسم غادة خاليا من أل التعريفية مع الاكتفاء بالتعريف عبر الإضافة، لا سيما وأنّ جمع كلا الاسمين الواحد تلو الآخر مع اللقب يعطي نتيجة نحوية ذات قيمة عالية يمكن اعتبارها خيطا كاشفا لحقائق من نوع آخر، فأن تقول: الزهرة الغرناط، ليس كأن تقول “غادة الغرناط”. فالأولى فيها فصل للاسم عن كل ما له علاقة بالحضارة الأندلسية المغربية، والثانية فيها وصل وحلول وتماهي في هذه الحضارة، لأنها هي ذاتها الأندلس، بل هي وردتها ونجمتها القطبية الشمالية إذا ماتمّ الأخذُ بعين الاعتبار الموقع الجغرافي لكل منطقة الشمال المغربي بما فيها اسبانيا المسلمة ومدنها العريقة كغرناطة وطوليدو وما إليهما. إذن فمن أين أتت هذه الزهرة ومن تكون، ولماذا على الرغم من تقنية الفصل الروحي والهَوِيّاتي والتاريخي بينها وبين غادة، تبقى هي الحاضرة بقوة وشدة في كل نصّ الدكتور عبد النور مزّين، بل هي التي توجِّهُ دفة الأحداث وتحرِّكُ الشخصيات كما تشاء ويحلو لها؟
بالعودة إلى فكرة الجحيم الذي تقبع فيه (الزهرة) والذي منه ومن حممه وشظاياه وحرائقه تتكون شخصيتها، وتعقيباً على صورة مجرّة الجرو التي سبقت الإشارة إليها في مدخل هذه الدراسة، فإنّني لا أجد اسما في عالم الكواكب والأفلاك أشد قربا من اسم شقيقة (غادة) سوى كوكب الزهرة، الذي كان يعتبره علماء الفلك توأم الأرض لتشابهه معها في العديد من الخصائص ولو أن الدراسات أثبتت فيما بعد أنه لا يجمعه والأرض أيّ شيء اللهمّ شكله العام. وكوكب الزهرة هذا كوكب بُركاني حِمَمِيّ، شديد الحرارة، ولا توجد فيه ظروف ملائمة لعيش الإنسان به، إذ تبلغ درجة حرارة على سطحه 462 درجة مئوية، ويرجع هذا إلى الاحتباس الحراري الذي يُسبّبه الغلاف الجوي للزهرة حيث يمنع الحرارة من التسرب خارج الكوكب إلى الفضاء، ناهيك عن أنه الكوكب الوحيد الذي لا أقمار له، وإنْ كان قديما يسميه أهل الفلك بنجمة الصباح لشدة توهجه. إلا أنّ حتّى هذه الصفة لا يُعوّلُ عليها لأنها لا توجد بتاتا في الشخصية التي رسمَها الكاتب كي تكون أختا شقيقة لـ”غادة الغرناط”، وعليه فإنّه لمْ يبق للزهرة الغرناط من كوكب (الزهرة) سوى الجانب البركاني الحمميّ المدمّر، خاصّة وأنّ تعاقبَ الأحداث وتواليها أثبتَ فيما بعد أنه حقا ليس ثمة أبدا ما يجمع بين الأختين من صفات، فالأولى بركان وحمم من الحقد، والثانية جنة ونعيم، وهي بحق نجمة المغرب القطبية كما يبين هذا الشكل الذي حاولتُ من خلال جمعِ كلّ عناصر الرواية فصولا ورسائل أنْ أستنبطَ الشكل الحقيقي لـ”غادة الغرناط” وما ترمزُ إليه بالنسبة للمغاربة أجمعين، فهيَ روحهم الصافية المتوهجة التي تسعى إلى تحقيق الأمن والسلم والسلام، ونشر السعادة والرفاهية في كل ربوع المغرب والعالم أجمع، لأنها نبعُ العطاء الذي لا يصدر منه إلا الخير والأمل في غد أفضل، هذا الغد المتجسد في صورة الشاب عبد الكريم:
وإذا كانت غادة تمثل الجزء المشرق مِنَ المغرب، فمَنْ هي الزهرة إذن؟ هل هي دولة “شقيقة” مثلا من الدول التي كانت تجمعها صلة قرابة وجوار تاريخيين وسياسيين وجغرافيين بالمغرب، فخانت العهد والوعد والودّ؟!
لا يوجد في الرواية ما ينفي أو يؤكّدُ هذا السؤال الاحتمالي، ولسنا بالمعنيين بالجواب عنه، فبغضّ النظر عمّن تكونُ الزهرة حقيقة فإن الأهم من هذا وذاك أنها تمثل صورة الشرّ المُستشري لدى بعض الناس والتي تجدُ نفسها بشكل أو بآخر مُقحمَةً في قضايا أكبر من حجمها، قضايا قد تدفعُها دفعاً إلى تغيير مستقبل دولةِ بأسرها دون أن تعي مدى خطورة هذا الأمر والنتائج المهولة التي قد تنجمُ عنه، ولنا في قصة الطالب الصربي غافريلو برينسيب خير مثال، فقد تسبب في اندلاع الحرب العالمية الأولى لمجرّد أنه قوبل بالرفض بسبب قصر قامته حينما طلب الالتحاق بمجموعات عسكرية منها تلك التي عرفت باسم “اليد السوداء”، فبادر إلى اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند، وزوجته صوفي دوقة هوهنبيرغ، لكي يثبت لمن رفضوه بأنه ليس أقل منهم قوة وأهمية، بالضبط كما حدث للزهرة، فلا هي تفهم في السياسة ولا في علومها ولا في استراتيجياتها الداخلية أوالخارجية، ولكنَّها أحبّت أن تقلّدَ “أختها” في كلّ شيء، لدرجة أنّهَا بدأتْ تنظمُ حتّى الشّعر لتدّعي الثقافة، وتكتبُ المذكرات والرسائل لتسرقَ التاريخ وتزوّرَهُ أيضا.
وإذا كانت (الزهرة) هي الجحيم بكل ما فيه من ألم وكراهية وشرّ ومعاناة، فإن الكاتب شاء لعنصر النّار في روايته أن يحمل أكثر من دلالة، فهو ليس الجحيم فقط، ولكنه أيضا الحانة، وهذه تقنية أخرى تدفع إلى طرح سؤال من نوع آخر: كل الشخصيات التي تدور في فلك (الزهرة) و(الراضي أبكوز) أراد لها الكاتب ألاّ تضع قدما في حانة من حانات طنجة أو تطوان أو غيرهما، وجعل منها أجسادا تتحرك إما في السفن، أو في المقاهي أو وسط الشوارع وبعض المكاتب والبيوت، فلماذا ياترى، هل نيران الحانات التي كان يرتادها (الراوي) وغيره من الشخصيات المحيطة به، تختلف عن نيران جحيم الزهرة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي تعنيه هذه المفارقة الكبيرة؟!
عبد النور مزّين وهو في حديثه عن تنقل الراوي وحركته وسط العديد من الأماكن وشربه الخمر فيها هو ومن صادفهن في طريق الألم من نساء كسعاد، ومارطا وليندا وغيرهنّ، لا يُسَمِّي هذه الأماكن بالخمّارات مع علمه التّام بأنّها كذلكَ بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، ولكنّهُ يُسَمِّي كُلَّ واحدةٍ منها بـ “الحانة”، ممّا يعنِي أنّهُ يعرفُ تماماً الفرقَ بين الأولى والثّانية فيُثبتُ بهذا أنّهُ ليس بالأديب الطبيب فقط، وإنّمَا هو روائيّ خيميائي، فعنصر الكحول (البيرا وما إليها)، هو النّار التي تتحركُ داخل “الحانات”، وهي عنصر في هذه الحالة كيميائي حارق بدون لهب عبر الشهور والسنين، إنّها نارُ تحوّلٍ ميتامورفوزي من حالة إلى أخرى، أي من حالة نقصٍ إلى حالة نضجٍ وتكامل واكتمال، ولعل شخصية سعاد “الساقية” هي النموذج الأمثل لتأكيد هذه النظرية، فهي عذراء، باهرة الحسن والجمال، كبُرت ونضجت وسط “حانة” المسترال (11) وفيها تعرفت إلى شخصية (الراوي) الذي أصبح رفيقَ رحلتها في البحث عن أمّها وأبيها (جمال)، كما هي غدت وبدون منازع رفيقة مسار بحثه عن نجمته المفقودة “غادة الغرناط”: [كنا ننزل شارع محمد الخامس باتجاه باب الأحد بالرباط، ثم نعرج بمحاذاة سور الاوداية في ارتقاء الطريق المفضي إلى تلك التلة المشرفة على بحر الرباط. كانت المقبرة تهجع في صمت إلى اليمين، وفي الأسفل يتراءى المنار القديم حارسا لتلك السهول الممتدة إلى الأعماق الزرقاء البعيدة في البحر.
هناك كنت أتركها وأعود إلى العكاري لأقف ذلك الوقوف الذي كنت قد اعتدت القيام به كطقس من طقوس التذكر والشرود قبالة ذلك الباب، حيث كنت أرقب غادة الغرناط وهي تخرج في كل ذلك البهاء، مقبلة تتهادى نحو ذلك اللهب الذي كانت تشعله عن بعد في روحي] (12)
الحانات إذن في رواية (رسائل زمن العاصفة)، هي رمز لكهفِ النفس البشرية الطيبة وما يحدثُ فيها من تغيرات وتحولات باطنية عميقة تُمَكّنُها من تجديد الرؤية ومواصلة الحياة رغما عن الصعوبات والعراقيل التي تصادفها في طريق هذا التحول الذي يتطلبُ من كل إنسان واع ومتنورٍ، الصَّبْرَ والحنكةَ وقُوّةَ الجَلَدِ، حتى تلمع في عمق ظلام حياته نجمة وهّاجة هي أناهُ الأعلى أوْ هوية الإنسان الحقيقية، أيْ ذلكَ الجزءُ الذي يبقى برّاقاً بعد أن تتمّ عملية التعري والتطهّر التي أشار إليها الكاتب في العديد من صفحات روايته.
(III) مجرة الجرو
في (رسائل زمن العاصفة)، أدرج عبد النور مزّين قصّة في غاية الغرابة قدّم من خلالها للمتلقي شخصية الراوي وكذا الظروف التاريخية ـ الجغرافية، والاجتماعية ـ الاقتصادية التي نشأ وترعرع فيها هذا الأخير. وإذ أصفُ القصّةَ بالغرابة فإنني أعني بذلك عنصر الغرائبية الذي منه نُسِجَتْ كُلّ الأحداث التي تتعلقُ بحبيب “غادة الغرناط”، أو الراوي الذي شاء له الكاتب أن يولد في قرية نائية من قرى الريف الغربي المغربي تسمى بأزلاف، وأن تربطه صلة “قرابة” بجرو شربَ دمَهُ بعْدَ أن ذبحتهُ لهُ أمُّهُ لتنقذه من الموت جرّاء مرض ألمّ به وهو طفل صغير كما يُوضِّحُ هذا الجزء المُقتطفُ من الرواية: [أخذت المكواة. مسمار حديدي طويل ينتهي بقطعة فلين بحجم فرنك، دسته في مجمرة على يمينها، آمرة أخي بالخروج. ظل عبد الحي يحملق فيها ويبرطم في بلاهة. أخرجته أمي كما قالت وجلست على عتبة بعينٍ على عبد الحي في الخارج وعينٍ علَيَّ، بين يدَي العجوز التي سرعان ما بدأت بالكي.
كوتني سبع كيات دون أنين أو حركة. كانت أمي تدير وجهها وتبكي عند كل كية ورائحة الشواء الممزوجة برائحة الفلين المحروق تملأ خياشيمها . غمغمت العجوز وبخت رذاذا من فمها على وجهي ثم أعادت لفي في المنديل والتفتت إلى أمي توصيها بما عليها فعله حين عودتها إلى البلاط وهي تقول: هل لديك جراء وليدة؟ / لا ، لا جراء لنا. / تدبري أمرك، لا بد لك من جرو وليد.(…) جزت أمي عنق الجرو وتركت دمه يسيل داخل قصعة من الفخار وسرعان ما ملأت كأسا وسقتني على مهل حتى أفرغَته تماما. كانت تنظر إلي، وقد عاودني الهدوء بعد أزمات الاختناق التي أحدثَتها جرعات الشرب المتقاربة. كانت أمي تسابق تخثر الدم، وبدا وجهي أقرب إلى وجه ضفدع عملاق تحول إلى مصاص دماء صغير ومخيف.هكذا كانت أمي تحكي وأنا أتخيلني مصاص دماء على مشارف الغاب. كانت فرحة أمي لا توصف، بكأس الدم. لم تكن تبالي بفمي الملطخ ولا بالقطرات التي تساقطت على ذقني وعنقي الصغيرين. هكذا حكت لي أمي، وكنت أصغي إليها وأنا أتساءل كيف لي أن أرد جميل هذا الجرو الشهيد.] (13).
القصة في ظاهرها تروي حكاية طفل صغير كان يعاني من مرض حاد في طفولته أصابه نتيجة الظروف البيئية والنفسية القاسية التي كان يعيش فيها هو وأخوه عبد الحي، فقررت والدته أن تأخذه إلى مُداوية القرية الشعبية التي كانت تحجّ إليها كل نساء المنطقة، فعالجته عن طريق الكيّ وشُرْبِ دم إحدى الذبائح كدأب معظم الناس في القرى ممّن يعتقدون في المعالجين التقليديين لأنهم لا يجدون أمامهم غيرهم، إلا أنّ الذبيحة في حالة (الراوي) كانت جروا صغيرا، وهذا الأمرُ ليس فيه ما يدعو إلى الاستغراب ولا لأيّ شيء من هذا القبيل سيما عند أهلِ الأنثروبولوجيا الذين يُقرّونَ جميعا بأنّ شُرب دم الحيوانات كعلاج للعديد من الأمراض كان منتشرا في العديد من الحضارات القديمة، وكَتَبَ عنه الكثير من الأطباء والباحثين في هذا المجال، وعليه فإنّ الغرابة ليست في الطقس العلاجي نفسه، بقدر ماهي في العناصر المُكوّنة لهذا الطقس، وفي طريقة توظيفها من طرف الكاتب لينسجَ منها أهم لبنات الرواية. وأقصد بعناصر طقس العلاج ما يلي:
ـ النار، وهي عنصر حاضر على طول الرواية بشتى تمظهراته وتجلياته الكيميائية والفيزيائية والميتامورفوزية، وهي هنا في حالة الطفل (الراوي) نار التحول من حالة الضعف إلى حالة التكون والنضج الجسدي والفكري؛
ـ الكيّ كإشارة لحدوث عملية فطام وتعقيم والتئام تَمَّ الفصلُ فيها وبدون رجعة بين مرحلتين في حياة الراوي؛
ـ السُّرّة ليسَتْ فقط كنبع للحياة، وصلة وصل بين الإنسان وأمّه، وإنما كشيء آخر أعمق بكثير سيتمُّ الإفصاح عنه فيما تبقّى من فقرات؛
ـ ثم الجرو، وهذا عنصر يثيرُ العديد من علامات الاستفهام والقلق، خاصة وأنّ الكاتب وهو يقصُّ على القارئ حكاية الراوي، وصفَ معظم شخصيات الرواية بالكلاب الضالة العوّاءة لا النبّاحة (14)، والكل يعلم أنّ العواء هو الصوت الذي تصدره الذئاب لا الكلاب، ممّا يعني أن عبد النور مزّين كان يؤكد على الصفة الذئبية الشريرة التوّاقة إلى الافتراس لدى العديد من شخصيات الرواية وخاصة منها تلك التي تدور في فلك الزهرة والراضي أبكوز: [لم أكن أقصده إلا إذا اسودت الدنيا في عيني أيام المجاعات، وطوق حبلها عنقي منذرا بالهلاك أو الهوان.كان ذلك قبل أن أنساب في تيهي وهواني. للتيه والهوان رزق لا يعلمه إلا الذين تردوا عميقا إلى قعره السحيق. لم أعلم ذلك إلا لاحقا. لم يكن لي مأوى ثابتا منذ زمن ليس بالقصير. ما تبقى من رفقة العواء التي طوحت بها ريح الشتات والهوان، لم تكن كافية لتأمين ملجأ ثابت، فكان التسكع على أرصفة المدينة وحاناتها خير مآل حتى صارت أحضان المومسات أدفأ من بقايا رفقة العواء النافقة.] (15)
لكن، ألا يدعو تشبيه الكاتب لشخصياته بالكلاب الضالة العوّاءة للتدبّر شيئا ما في هذا الموقف الذي تبناه خاصة في تلك الفصول التي كان يتحدث فيها عبر رسالة الزهرة المطولة عن أحداث انتفاضة يونيو1981؟ هل كان هذا الموقف يعني أن الكاتب يعيدُ قراءة التاريخ ولكن من زاوية أو من وجهة نظر أخرى أكثر حكمة وهدوءا واختمارا بعد مرور أزيد من ثلاثين سنة على تلك الأحداث؟ هل كان العواء حرفة من ابْتُلوا بالمراهقة السياسية، وأمراض التملق والانتهازية والوصولية؟ ربّما قد يكون الأمر كذلك، لكن الشيء الأكيد هو أن الكاتب جعل الجواب كامنا في كل ذاك الكمّ الضخم من المعلومات التي من خلالها سطّر سيرة ذاتية مفصلة عن كلّ شخصية من شخصيات الرواية موليا الاهتمام الأكبر للمنحدر الجغرافي والظرف الاقتصادي والاجتماعي لكل شخصية على حدة دون أن ينسى طبعا الإشارة إلى المستوى التعليمي والثقافي لها، حتى يبدو جليا للقارئ أنّ هذه الانتفاضة لم يقدها أهل العلم والتنظير والحصافة، أهلَ الدراية بالشؤون السياسية من أبناء الشعب وفئاته المثقفة والواعية، وإنما قادها أناس يعيشون في قاع الجحيم الاجتماعي ويعانون من جوع جسدي ونهم فكري لم يزد عقولهم إلا ضبابية وتشويشا، ولا تجدهم يتسكعون إلا في الخمارات وبين أحضان المومسات واضعا بذلك إصبعه على دمّل الإشكالية الحقيقية التي أدّت إلى فشل هذه “الانتفاضة”: طغيان الغريزة الحيوانية الذئبية على معظم شخصيات النص الروائي، ولو طغت لديهم على الأقلّ الغريزة الكلبية الحقيقية لكان الوفاء أقلّ ما يمكنُ أن توصف به هذه الشخصيات تجاه قضايا الوطن الصغيرة قبل الكبيرة كما فعلت “غادة الغرناط” وهي تواجهُ كل الصعوبات من أجل أن تحافظ على ابنها وتضمن له الوصول آمنا بين يدي أبيه.
هذا من جهة، أمّا أن تكون كل هذه العناصر المذكورة مرسومة وموشومة على بطن الراوي فهذا ما يستوجب الدراسة والتحليل.
يقول د. عبد النور مزّين في حوار دار بين (الراوي) و”غادة الغرناط” ما يلي:
[ـ ما هذا ؟
هكذا قالت غادة وهي تمرر يدها على بطني. كنا في الخيمة الصغيرة. كانت مستلقية إلى جانبي. اعتدلت في جلستها واتكأت على زندها وجعلت تجس بطني بأصابع يدها محاولة استكشاف النتوءات التي تحيط بسرتي، وترسم دائرة كاملة لا تكاد ترى من خلال شعر بطني. وعادت تسأل من جديد، جادة هذه المرة وهي تنظر إلي:
ـ ما هذا؟ لم أنتبه إليه من قبل !
ـ هذه مجرتي يا غادة، مجرتي .
ـ مجرتك؟
ـ مجرتي … أي نعم.
ضحكت ضحكة عالية مسترسلة وهي تلقي برأسها إلى الوراء، ثم عادت تنظر إلي وهي تلاعب مجرتي من جديد.
ـ وما اسم مجرتك هذه، يا صاحب المجرة؟
قالت وهي تضحك من جديد حتى نضحت عيناها بدمع خفيف جعلت تمسحه بظهر يدها.
ـ الجرو، مجرة الجرو، هكذا أسميها.
ـ الجرو؟
ـ نعم، مجرة الجرو.
قلت لها من جديد، قبل أن تند عنها قهقهة كسرت صمت الليل الشامل.] (16)
الراوي يتحدث عن مجرة الجرو ويقول في مكان آخر من الرواية إن لها سبعة أجرام (17) ويقصدُ بها علامات الكيّ السبع، تلكَ التي بقيتْ محيطة بسرَّتِهِ تذكّرُه بيدِ المداوية العجوز. إلا أنّ الطريقة التي افتتح بها د. عبد النور روايته وهو يتحدث عن أصدقاء الراوي الثمانية [كنا ثمانية، نحن وأربع بنات] (18) تشي بوجود علاقة ما بين السّبع كيّاتٍ الناتئة علاماتُها حول سرّة الراوي وبين عدد أصدقائه، ذلك أنّ ذكراهم بقيت خالدة في قلبه موشومة بنار الكيّ التي هي حياةُ المحن والتجارب القاسية. ولربّ مُعقِّبٍ على قولنا يرى أنْ ما من علاقة بين عدد الأصحاب والكيّ، فأولئك كانوا ثمانية والكيّات سبع، أردّ وأقول إنّ العدد الحقيقي للأصدقاء الذين كانوا على شاطئ الريفيين هو سبعة، وإن كان كان الكاتب يقولُ ظاهريا إنهم ثمانية، ذلك لأنهُ سيتوضحُ فيما بعد أنَّ الشخص الثامن هو شخص كامنٌ يحملهُ أحد الأصدقاء بداخله ولا داعي أنْ تكون علامته حاضرة وموشومة بين بقية الكيّات، لأن الأمر يتعلق بحامل العلامات والكيّات كلها، وليس هذا فحسب، فالعدد سبعة نفسه هو إشارة معراجية أخرى من الكاتب يؤكد بها منحاه ومنهجه الطبّي في الحديث عن شخصياته وتاريخ تطورهم النفسي وتحولاتهم السيكولوجية العميقة. إلا أنّه ثمة ملاحظة أخرى تجبُ الإشارة إليها، وإني لأظن فيها التأكيد الحقّ مرّة ثانية على أن كل شخصيات الرواية وأحداثها هي من نسج خيال الكاتب الإبداعيّ المحض ولا علاقة لها بحياته الخاصة (19) وأعني بها؛ اسم المجرة نفسها، أي “مجرة الجرو” ذلك أنّ التوصل لفحواها ورمزيتها بين ثنايا الرواية سيجعلنا نكتشف جميعا بأنّ الكاتب خبّأ للقارئ في قلب روايته مفتاحا إذا توصل إليه ظهر له بين يديه المعمار الحقيقي للكتاب برمّته، وبالتالي الهدف منه، إذ ما نفع الإبداع السردي والروائي في حالتنا هذه إذا لم يكُنْ يسعى إلى تحقيق قيم وأهداف معينة تقود المتلقي للولادة من جديد والاستمتاع بمنظر الشمس وهي تسطع مشرقة من بين الأجساد والشخصيات التي تشظّت وتحطمت الواحدة تلو الأخرى على طول (رسائل زمن العاصفة).
نقطة الانطلاق إذن ستكون من اسم المجرة الذي إذا تمّ البحث عن مقابله في لغات أخرى كالفرنسية أو الإيطالية مثلا فإننا سنجد أنّها تعني حرفيا (Galassia del cane Minore/ Galaxie du petit chien)، وكلمة (مجرة) مشتقة لغويا من جذر عربي هو “مَجَرَ” ويعني الكثير والدّهم، وقيل مَجِرَتِ الشاة مَجْراً وأمْجَرَتْ، وهي تُمْجِر، إذا عظُم ما في بطنها وانتفخ وأصابها الهزل بسببه، فلم تعد تطيق القيام به (20)، وهو التعريف الذي يجدُ ما يوافقه بدون أدنى شكّ في هذا الجزء من الفصل الثاني للرواية والذي يقول فيه الكاتب على لسان “الراوي” مُغيّراً فقط اِسْمَ الشاة باِسْمِ الضفدع، لأنّ الأمر كان يتعلق بجسد أصغر بكثير من حجم جسم صغير الشاة: [قالت ذلك وكشفت عن بطني. كانت كبالون صغير يوشك أن يرتفع في الهواء حاملا معه جسم الضفدع الذي كنتُه] (21)
ها قد تمّ التوصل إلى العنصر التناصّيّ بين المعنى اللغوي لمصطلح مجرة وقصة المرض الذي كان قد أصاب الراوي في طفولته البعيدة، فما ستكونه ياترى حقيقة العنصر التناصّيّ الثاني الذي يربط عبارة مجرّة الجرو بمقابلها في اللغة الفرنسية أو الإيطالية؟!
لا جواب لدينا سوى أنهُ ليس ثمّة في علم الفلك ما يسمّى بمجرة الجرو، أو (Galaxie du petit chien) وإنما هناك شيء اسمه “كوكبة الكلب الأصغر” وتتألفُ من نجمين لا غير؛ هما الشعرى الشامية والغميصاء التي هي من نجوم الشتاء (22) وتغطى مساحة سماوية تبلغ نحو 183 درجة مربعة. إذن كما ترى عزيزي القارئ فمصطلح “الجرو” الذي تبناه الكاتب لتسمية مجرة الراوي هو مصطلح فلكي بامتياز يجدُ أصله في عبارة (كوكبة الكلب الأصغر).
بعد هذا الكشف، يبقى السؤال الذي يجب طرحه الآن هو الآتي: ما الذي دفع د. عبد النور إلى الاعتماد في رصّ لبنات البناء والنظام العام الروائي لـ (رسائل زمن العاصفة) على المعنى الفلكي لكوكبة الكلب الأصغر؟
في تعريف (كوكبة الكلب الأصغر) أو كما سمّاها مجازا الكاتب بمجرة الجرو، يقول الفلكيّون إنّ لها نجمان، واحد أشدّ توهجا وأكبر حجما من الآخر، والقراءة المتمعنة لفصول الرواية تظهر لنا أيضا بأنّ الراوي ما لبث يتحدث عن نجمة متوهجة لا تفارقه أبدا هي “غادة الغرناط” وعن نجم آخر هو ابنه عبد الكريم الذي التقى به بعد سنين مضنية من العذاب والبحث والشقاء، وهذه حقيقة أخرى تدفع إلى التساؤل ليس فقط عن هوية الراوي الذي شاء له الكاتب أن يظل بدون اسم على طول فصول النص الروائي ولكن أيضا عمن تكونه حقيقة “غادة الغرناط” وابنها عبد الكريم؟
إنّ الراوي هو كل إنسان سالك مسافر في رحلة هذه الحياة، و”غادة الغرناط” هي نفسُه ومُرشده العقلي الأعلى، أمّا عبد الكريم فهو الروح التي وُلدت نقية من بين المخاضات القاسية التي يعانيها الإنسان وهو في طريقه إلى الكمال والتطهر من أدران التجارب وسط مسبك الحياة ونيرانها كما يُظهر هذا الرسم التخطيطي الذي يوضّح العلاقة بين الإنسان جسدا وروحا، وكذا جسدا ومكانا، وأخيرا جسدا يخوض غمار تجارب الصهر والانصهار والتبوْثُق من أجل تحقيق إشراقٍ وتوهج جديد أساسه الأملُ في غد أفضل وفي حياة يتحقق من خلالها الأمن والأمان عبر السعي إلى إصلاح أخطاء الماضي والاستفادة من تجارب السابقين من أهل العلم والفكر والصلاح بهدف بناء كيان جديد أو رجل ـ شمس، يسعى إلى نشر قيم الخير والعدالة والسلام والمحبة في كل بقعة من بقاع الأرض؛ كوكب الإنسان وبيته الكبير الذي يُعدّ المغربُ في هذه الرواية نموذجا مُصغّراً لهُ.
تم بعون من الله وتوفيقه
في يومه الخميس 28/01/2016
الهوامش:
(1) عبد النور مزّين، رسائل زمن العاصفة، سليكي أخوين، طنجة، 2015، ص 7
(2) رسائل زمن العاصفة، ص 113
(3) انظر الفصول: 10/19/20/21/22
(4) رسائل زمن العاصفة، صص 301/302
(5) انظر الصفحات الأولى للرواية (غير المُرقمة)
(6) رسائل زمن العاصفة، ص 63
(7) رسائل زمن العاصفة، ص 64
(8) وهذه شخصية أخرى من شخصيات الكاتب التي لفها بغلالة من الغموض، إذ يبدو أن الأمر يتعلق بالرجل نفسه الذي تزوج بالزهرة ثم اختفى باختفاء غادة من بيتها ليظهر معها وهو يقف إلى جانبها في محنتها طيلة فترة سجن حبيبها وأب ابنها عبد الكريم.
(9) رسائل زمن العاصفة، ص 109
(10) رسائل زمن العاصفة، ص 128
(11) انظر الصفحة 205 من (رسائل زمن العاصفة)
(12) رسائل زمن العاصفة، ص 292
(13) رسائل زمن العاصفة، صص 35 / 37
(14) يجدر بالذكر أن مصطلح النباح ظهر في الرواية فقط لمرة أو مرتين وكان مرتبطا بالجرو الذي شرب الراوي من دمه في طفولته البعيدة.
(15) رسائل زمن العاصفة، صص 99/100
(16) انظر ص 13 من (رسائل زمن العاصفة)
(17) رسائل زمن العاصفة، ص 36
(18) رسائل زمن العاصفة، ص 7
(19) انظر في هذا الصدد ما صرّح به الكاتب في حوار أجري معه على جريدة أخبار اليوم بتاريخ 26/01/2016 وهذا نصه: [الهموم الذاتية لأي كاتب لا يمكن أن تعكس مشروعا كاملا للكتابة يروم المساهمة بإجابات معينة محتملة عبر طرح الأسئلة القلقة التي لا تحتمل التغييب أو التجاهل إزاء مرحلة من أخصب وأعقد مراحل التاريخ المغربي المعاصر. وبالتالي لا يمكن للذاتي أن يؤسس لمثل هذه الأسئلة. لكن بالموازاة مع ذلك لا يمكن للكاتب ان ينفصل بشكل تام عن ذلك الذي كان بشكل أو بآخر التربة والماء والهواء حيث نبتت وترعرعت شخصيته الاجتماعية والسياسية. إن الانتماء إلى مرحلة معينة والتفاعل معها من وجهة نظر معينة ومن موقع معين يجعل المقاربات، التي قد تبدو للوهلة الأولى ذاتية، أقرب ما تكون إلى المقاربة الموضوعية بالنظر إلى حجم التضحيات التي تم تقديمها في سبيل انتظارات اجتماعية مفتوحة على آفاق أكثر اتساعا.
إن الذات بهذا المعنى لا يمكن إلا أن تكون خزانا لكل جمر الأسئلة. وحرقة الأسئلة تظل مشرعة على حقول الذاكرة. فلا يمكن تصور أي علاقة بين الذات بهذا المعنى وبين سؤال الكتابة إلا بتلك العلاقة التي لا بد أن تجمع شظايا الذاكرة بقلق وحرائق الأسئلة في انتساب عميق لخصوبة آفاق محتملة.]
(20) أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، مقاييس اللغة، الجزء الخامس، تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون، دار الفكر والطباعة والنشر والتوزيع، 1979، ص 297
(21) رسائل زمن العاصفة، ص 35
(22) لاحظ أن معظم الأحداث والقصص التي يحكي عنها الكاتب وقعت في فصل الشتاء والمطر الغزير.