إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.
الفصل :
قبل ان يرحل الشهود
فصل من سيرتي الذاتية – غيمة عابرة-
عيسى حسن الياسري
القتلة لا يبحثون عن فلسفة ٍ
بل يبحثون عن أجورهم ْ ………….. ”
– شيشرون –
في العام 1980 صرنا نشهد ظاهرة كثرة المهرجانات الشعرية ,وقد ظهر شعراء اختصوا بكتابة قصائد المديح التي تمجد القائد الجديد , وتصفه ” بالفارس ” الذي ستتحقق معجزة سحق
” إسرائيل ” و” إيران ” بل وحتى” أمريكا ” على يديه , وتحرضه على خوض الحرب , وقتل من يعارضه , وكانت الهبات الكبيرة تغدق على هؤلاء الشعراء, الذين صاروا يشكلون طبقة ثرية ومترفة , وكان أكبر هذه المهرجانات “مهرجان الشعر القومي ” , الذي أقيم في بغداد في التاريخ أعلاه , لمناسبة أعياد انقلاب السابع عشر الثلاثين من تموز ,لقد دعي لهذا المهرجان عدد كبير من الشعراء العرب , وشعراء العراق ,كان حفل الافتتاح قد أقيم في قاعة “الخلد” وحضره
” صدام حسين ” ,وكان معظم الشعراء الذين ألقوا قصائدهم في تلك الأمسية هم من الشعراء الذين أوقفوا جل كتاباتهم الشعرية على مدحه ,والتغني ببطولاته , هذه الأمسية انتهت في الساعة الواحدة ليلا ً, وقد اقترح الصديق “سعد البزاز ” علي ّ وعلى ” عبد الإله الصائغ ” أن نبيت معه في غرفته في ” فندق الأندلس ” ,بدلا من العودة إلى بيوتنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل ,وقد قبلنا اقتراحه , وذهبنا معه ,أحضر لنا طعاما جاهزا ً,وبضعة قناني من البيرة لأننا لم نتناول شيئا ً , وعندما أردنا أن ننام ,أخذ ” سعد البزاز ” شرشفا ًووسادة ونام على الأرض ,وترك السرير لنا أنا وعبد الإله ,علما أنه كان في ذلك الوقت مديرا ً للمركز الثقافي العراقي في لندن .
كان اسمي مدرجاً في الأمسية الأخيرة , وكان مكان إقامتها في “قصر الثقافة ” الذي يقع عند مدخل شارع الرشيد من جهة منطقة “الميدان “, توجهت إلى هناك برفقة شاعرين شابين من “تونس” لم يحضرني اسماهما ,على مقربة من المكان , كان هناك عدد من السيارات مركوناً على جانب من الشارع المؤدي إلى مكان الأمسية ,وكان الأدباء والشعراء والجمهور يصعدون إلى تلك السيارات , توقفت أنا وصديقيّ عن التوجه إلى المبنى ,ولما سألت أحد الشعراء الذي مرّ قريباً منا عن الأمر أجاب بأنه لا يعرف ,وفي هذه الأثناء توقفت سيارة وزير الثقافة والإعلام ” لطيف نصيف جاسم ” على مقربة منا ,ترجل منها ,وناداني باسمي ,وطلب مني أن أصعد أنا وصديقيّ إلى سيارة كانت تتوقف خلف سيارته ,بعد لحظات من صعودنا تحرك رتل طويل من السيارات المختلفة الأنواع , وهو يحمل الشعراء وجمهورهم , دون أن نعرف إلى أين نتجه ,,كانت تتقدمنا سيارة الوزير,عبرنا جسر الأحرار, مرت سياراتنا من أمام الإذاعة , بعد أن تجاوزنا جسر الجمهورية بقليل انحرفت سيارة الوزير عن الشارع الرئيسي , دخلت شارعاً فرعياً يمتد باتجاه “نهر دجلة ” ,وفجأة دوت صفارات التحذير ,وسحبت أقسام الأسلحة الرشاشة ,توقف الرتل كله عن التقدم بما في ذلك سيارة الوزير ,التي أحاط بها عدد من الجنود , وهم يوجهون أسلحتهم إلى داخل السيارة ,فعل جنود آخرون معنا ذات الشيء , وكذلك مع بقية السيارات , كانت حياتنا كلها مربوطة بخيط رفيع تقرر مصيره ضغطة إصبع على الزناد , كنا نرتجف من الخوف , فكر البعض منا أننا وقعنا ضحية انقلاب يدبره ” وزير الثقافة والإعلام ” , وقد اقتادنا معه للتمويه على حراس المكان ,وبعدها تلحق به القوة المسلحة التي تنفذ الانقلاب ,استمر هذا الحال خمس دقائق تمددت لتصبح زمناً لانهائيا ً . أبعد الجنود فوهات أسلحتهم ,وسمحوا لسياراتنا بالمرور , توقفنا أمام مبنى كبير ظهر أنه ” مبنى رئاسة الوزراء “,كانت أفواهنا جافة من العطش , وملابسنا مبتلة من عرق الخوف ,وبالكاد تستطيع أقدامنا المرتجفة أن تحمل أجسادنا ,أوقفونا في طابور طويل , وطلبوا منا أن نفرغ جيوبنا من العملة المعدنية , ونخلع ساعاتنا , والأقلام بكل أنواعها ,أدخلونا قاعة كبيرة ,وضع كل منا حاجاته في مكان ليتعرف عليها عند مغادرته ,ثم مررنا من باب يشبه أبواب التفتيش في المطارات . حتى هذه اللحظة لم نعرف ما الذي يراد منا ,أخذنا أماكننا في قاعة كبيرة أخرى , تتقدمها منصة شبيهة بخشبة مسرح , وتمتلئ بالحرس الذي يسلط علينا نظرات ملتهبة ,هنا نهض الوزير ,وقال بصوت فرح وهو يبتسم :
– سأزف لكم هذه البشرى ,سوف يحضر” القائد ” جلستكم الشعرية فهنيئا لكم ليلتكم هذي .
وهنا ضجت القاعة بالتصفيق والهتاف .
في العاشرة ليلاً حضر” صدام حسين “, وقد قوبل بالتصفيق والهتافات المدوية ,وبعد أن أخذ مكانه بدأت الجلسة الشعرية ,كان يجلس إلى جانبه عدد من الشعراء العراقيين البارزين والضيوف العرب . شيئاً فشيئاً بدأنا نعود إلى وضعنا الطبيعي .
ابتدأت الأمسية بالشعراء العراقيين المختصين بالمدح , والتحريض على خوض الحرب ,وقرع طبولها المرعبة من خلال قصائد تنذر بالكارثة ,كان كل شاعر ,وعندما ينتهي من إلقاء قصيدته , يتوجه للسلام على ” صدام حسين “,,كان ينهض لمصافحة الشعراء الذين يمتدحونه في قصائدهم ,وللشعراء العرب ويصافحهم بحرارة ,في حين يكتفي بمد يده وهو جالس في مكانه ليصافح الشعراء الشباب , الذين يقرأون قصائد ذاتية . جاء دوري للقراءة في الساعة الواحدة والنصف ليلاً كما تشير ساعة القاعة ,كنت آنذاك في الأربعين من العمر , لكنني كنت أبدو ومن خلال بنطالي الأبيض الجارلس ,والتشيرت الملون , وشعري الكثيف والطويل , وكأنني في العشرين من العمر , في حين كان لي ستة أبناء وثلاثة كتب شعرية ,تقدمت نحو المنصة , بدأت بقراءة قصيدة بعنوان “قراءة في كتاب القرى ” تدور كلها حول قريتي , وزمنها الأول , وترسم صورة لعصر من السلام والمحبة, هاتين النعمتين اللتين افتقدهما العراق .كانت قصيدتي أشبه برد غير مباشر على المحرضين على الحرب في قصائدهم . منذ قراءة المقطع الأول اعتدل ” صدام حسين ” في جلسته , أخذ يطلب مني إعادة بعض المقاطع وكأنه واحد من جمهور القاعة , الذي راح يحتفي بقصيدتي ,وبالرغم من سيطرتي على طريقة إلقائي المميزة , إلا أنني كنت أفكر بما سأفعله بعد انتهاء القصيدة ,هل سأذهب للسلام عليه أسوة ببقية الشعراء ؟ وإذا ماعاملني معاملته لبعض الشباب الذين صافحهم وهو جالس فماذا سيكون رد فعلي ؟ هل أنحني وأصافحه وهذا ما أرفضه أصلاً.. ؟ هل أدير وجهي وأترك يده معلقة في الهواء , وعندها ستكون نهايتي على يد حراس القاعة العمالقة نهاية نملة تحت ظلف فيل.. ؟ , كنت أكيداً أنّه ومن خلال اهتمامه بقصيدتي سوف ينهض لمصافحتي ,وربما خطا خطوة أو خطوتين لملاقاتي كما فعل مع البعض ,ولكن مخاوفي لم تغادرني ,ولكي أنهي هذه الدوامة المزعجة , اتخذت قراراً بأن أعود إلى مكاني بعد أن أنهي قصيدتي ,وألا أضع نفسي بموقف حرج. غادرت المنصة وسط تصفيق حاد من الجمهور ,لكن.. وحين أدرت ظهري وعدت لمكاني دون أن أحذو حذو الآخرين انقطع التصفيق ,بيد أن ْهناك يدا ًواحدة ًواصلت التصفيق مما جعل الجمهور يعاود التصفيق ثانية ً, كانت تلك اليد التي ظلت تصفق لي هي يد
” صدام حسين ” ,وهذا ما أخبرني به صديق كان يجلس بجواري .
انتهت الجلسة الشعرية في الثالثة صباحا ً, نهض ” صدام حسين ” من مكانه , قال لنا ..علينا أن نبقى حتى نتناول طعام ” السحور ” معاً .. كنا في شهر رمضان ,انتقلنا إلى قاعة فسيحة خالية من المقاعد ,وقفت أنا وبعض الأصدقاء على جانب , في حين تحلق عدد من الشعراء والجمهور حوله ,أذكر أن أحدهم سأله عن رأيه في القصيدة الحديثة , وهنا سمعت منه رأيا نقدياً يدل على ذائقة شعرية عالية حيث رد عليه بقوله :
– ألقصائد في كل أشكالها تشبه الخيول في حلبة السباق , فالفرس الأكثر أصالة هي التي تفوز, كذلك هي القصائد ,وأنا لا أفرق بين شكل وآخر, وجودة القصيدة وتأثيرها بالمتلقي هو المعيار.
حان وقت تناول السحور ,دخلنا قاعة الطعام التي اتسعت لما يزيد على مائتي شخص ,كانت مائدة ملأى بأنواع الطعام ,وعلى جانب آخر تمتد أطباق الحلوى والفاكهة, كنا جياعاً ,إذ لم نتناول شيئاً منذ الغداء , أخذنا نلتهم الطعام بشراهة . كنت منشغلاً بتناول الطعام لشدة جوعي , لكنني انتبهت على يد تربت على ظهري , رفعت رأسي فرأيت ” صدام حسين ” واقفاً إلى جانبي وهو يمد لي يده , وبكل هدوء مددت يدي وصافحته , ظل ممسكا ًبيدي وهو يهزها ويقول لي مبتسما ً:
– كانت قصيدتك جميلة ورائعة – ثم التفت إلى ” وزير الثقافة والإعلام ” الذي كان يقف على مقربة منا وسأله قائلاً :
-استاذ ” لطيف ” .. أين تخفون عنا هذا الشاعر الكبير, لماذا لم نقرأ له في الصحافة ,لا نراه في التلفزيون , لا نسمعه في الإذاعة …. ؟ .
لأول مرة كنت أسمع هذه الكلمة التي كانت تطلق على شعراء كبار ليس بمقدوري الاقتراب منهم ,ولم أعرف أن كثيرين ممن كتبوا عن تجربتي فيما بعد راحوا يلحقونها باسمي سيما بعد أن حصلت على جائزة “الكلمة الحرة العالمية” .
تقدم منا الوزير ,وقدم له تعريفا ًمسهبا ًعني, قال له إنني من الشعراء المعروفين في البلد ,وإنني كنت رئيسا ً للقسم الثقافي في الإذاعة ..والآن أعمل رئيسا ً للقسم الثقافي في “مجلة ألف باء “,وأنّ التلفزيون يزورني في بيتي كلما صدر لي ديوان شعر جديد ,ويسجل معي لقاءات طويلة . ظلّ ” صدام حسين ” واقفاً معي أكثر من ربع ساعة ,وهو يسألني عن الشعر ,ومتى بدأت علاقتي معه , سألني عن مكان ولادتي ,عن تحصيلي الدراسي , عن حالتي الاجتماعية , وبعد ذلك سألني عما أحتاج إليه . كنت حتى ذلك التاريخ أقيم أنا وزوجتي وأولادي الستة في بيت والدي المتواضع في منطقة” الطالبية “, ولا أملك شيئاً غير راتبي الذي بالكاد يوصلني إلى نهاية الشهر, وبعض المكافئات التي أتقاضاها من عملي في الصحافة , وكتابة برنامجي الإذاعي اليومي ” صباح الخير يا عراق ” , مع هذا سارعت لأقول له بأنني لست بحاجة لشيء .
وضع يده على كتفي وقال :
– كل العراقيين محتاجون ,هل تصدق أن رجلاً ثرياً قابلني ولما سألته إن كان محتاجاً لشيء رد عليّ بالإيجاب .
قلت له وأنا أشكره بأنني العراقي الوحيد الذي لا يحتاج لشيء.
مدّ لي يده وصافحني مودعاً وهو يؤكد لي قائلا .. ” إنت من أكثر العراقيين حاجة “, ثم شكرني على عفتي وقال لي .. إنني أستطيع أن أطلب مقابلته في أيّ وقت أشاء .
إنني أدون هذه الوقائع , وأرجو أن يبقى بعض شهودها أحياءً عند إطلالة “هذه الغيمة العابرة ” ,شكرته ثانية , وبعد أن انصرف لم تعد لديّ شهية للطعام , فقد شعرت أنّ الشجاعة خانتني ,إذ كان علي ّأن أطلب منه أن يحدد لي موعدا التقيه فيه على انفراد , لأبين له مخاطر الحرب التي تلوح في الأفق , وأن عليه أن يعاقب البطانة المحيطة به .. والتي تشجعه على دخول محرقة الحرب لأنها بطانة مشبوهة تريد ان تضع البلد على طريق مظلم .. أطلب منه أن يكمم أفواه الشعراء الذين يحرضونه على خوض الحرب لأنهم الأكثر كراهية له وللعراق , وأن كل ما يهمهم هو هذه الهبات السخية التي يغدقها عليهم ولاشيء غيرها ,أن أقول له .. إن عليه أن يدخل التاريخ من خلال صنع السلام , بناء العراق بناء عصرياً بالأموال التي ستأكلها الآلة الحربية , أن يقيم نظاماً ديمقراطياً يسمح فيه للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني بأخذ دورها في بناء الحياة الجديدة ,أن أذكّره أنّ ” الإيرانيين ” سيتوحدون أمام أي خطر يهدد بلادهم ,وأن المستفيد الأول والأخير من هذه الحرب هم أعداء البلد والأمة العربية ” , وأن وضع العراق على طريق الحرب سوف يلحق به خراباً فادحا ً, أن أحدثه عن عذابات العراقيين , معاناتهم على مدى العصور , لقد رأيت فيه رجلاً قويا ً , وبإمكانه أن يحول هذه القوة من منطقة الحروب إلى منطقة السلام , ومن الحكم الشمولي إلى الحكم الديمقراطي , ليقيم جنة على الأرض اسمها العراق , ظل هذا الندم يلاحقني , حتى وأنا أتمدد على فراشي في الساعة الخامسة صباحا ً, لكنني عندما تذكرت حماسه للقصائد التي تشجعه على الدخول بهذه المغامرة التي سحقت كثيرين سبقوه لدخولها , ورأيت عن كثب وقوفه البعيد عن حركة العالم من حوله , وتحالفاته , وانشداده إلى تاريخ منقرض لا عودة له , هنا أدركت بأن لا أنا , ولا أمة بكاملها , تستطيع أن تغيير دفة سفينة حياته المندفعة بقوة الريح , باتجاه صنع “غرناطة ” جديدة ضائعة أسمها ” بغداد “, و” فلسطين ” جديدة هي “العراق “,وأن شعبا ً عراقيا ًصنع تاريخا ًوحضارة ًعمرها سبعة آلاف ربيعا ًسيتحول إلى شعب شتات جديد , يهيم على وجهه ضائعا ًغريبا ًعبر قارات العالم الشاسعة .
*