ناطق خلوصي : المدينة روائيا ً: قراءة في ” بصراوية “صادق التميمي

natek 4تنحو رواية “بصراوية “منحىً حكائيا ًتقليديا ًيعنى حتى بالتفاصيل الثانوية التي ترتبط بالمكان والشخصيات ، وتنمو حبكتها أفقيا ً ، فيبدو عندها ان الدكتور صادق التميمي عمد الى ذلك ليكون صادقا ًوواضحا ً تماما ً وهو يؤكد على النهج التوثيقي الذي أعتمده في الحديث عن سيرة مدينته التي يوحي عنوان الرواية باسمها ، فيتناول فترة من الماضي القريب : سنوات عقد السبعينات من القرن الماضي التي تعد سنوات ذهبية إذا ما قيست بسنوات العقود التي تلته ، حيث لم تكن لعنة الحروب التدميرية قد أصابت العراق ( والبصرة خصوصا ً ) بعد آنذاك ، وكانت بقايا التعايش الديني قائمة ( ويشكل هذا التعايش ثيمة رئيسية في الرواية ) في بعض المدن العراقية ومنها البصرة. لكن زمن الأحداث يتسع فيجتاز السبعينات ويمتد إلى الثمانينات ويفترض أن تكون أحوال البصرة قد تغيرت تماما ً في ظل الحرب التي لم ترد الإشارة إليها على امتداد صفحات الرواية وهذا خلل في البناء الفني للرواية يصعب تجاهل الإشارة إليه .
لم أفاجأ حين وصلتني الرواية من الدكتور التميمي ، فهو ليس غريبا ً عن السرد ، إذ كان على نماسٍ معه وإن كان من خلال الترجمة فقد أصدر ترجمته لـ ” حول العالم في ثمانين يوما ً ” وهو طالب جامعي آنذاك .
تمتد علاقتي بالروائي إلى ستين سنة بدأت سنة 1956 تحديدا ً حين جمعتنا خيمة دار المعلمين العالية ( كلية التربية فيما بعد ) طالبي مرحلة أولى في قسم اللغات الأجنبية، نضع ، محكومين بحماس الشباب، خطواتنا الحذرة على مبتدأ طريق طويل ، وكان هو دائب الحركة أكثر مني حيث عمل محررا ً في جريدة ” الحرية “في النصف الثاني من الخمسينات . لقد أثارت “بصراوية ” فيّ هذا الاستذكار وأملت عليّ هذا الاستطراد وأنا أحاول أن ألملم خواطري عنها وأكتب انطباعاتي في هذه القراءة .
صدرت الرواية عن دار ميزوبوتاميا مؤخرا ً ، وهي رواية كبيرة حجما ً إذ جاءت في489 صفحة توزعت على ثمانية عشر فصلا ً، بعدد محدود من الشخصيات ظل أغلبها ثانويا ً أو هامشيا ًبهدف تركيز الأضواء على شخصيتين مركزيتين، مع التأكيد على خصوصية المكان ، وهو البصرة هنا ، الى جانب خصوصية الثيمة التي تناولتها الرواية وتحتسب للروائي جرأته في التوقف عند موضوعة حساسة مثل التعايش الديني والاجتماعي بين طائفتين مختلفتين دينيا ً . sadek altamemi
شخصية الرواية المركزية الأولى نرمين ( أم نزار) يهودية كانت تدير معملا ً للخياطة في سوق البصرة ، مات زوجها مخلفا ً لها ولدين وبنتين ، فتصبح بعد ترملها موضع اهتمام ورغبة الحاج عارف جارها في السوق ويفضي التقارب بينهما الى قرارها بالاقتران منه على الضد من رغبة ابنها الكبير نزار المتعصب لطائفته دون أن تتراجع عن موقفها حتى بعد أن أقدم على الانتحار . امرأة من طراز خاص : قوية الشخصية تعشق العمل فقدمت نموذجا ً لطائفتها ، في مقابل زوجها الثاني الحاج عارف الذي بدا شخصية مهزوزة كانت العلاقة بينه وبين نرمين علاقة تصالحية، فلم يترك أثرا ً يذكر في مجرى الأحداث وكاد يغيب تماما ً حتى اننا لم نسمع صوته سوى مرتين أو ثلاث مرات على امتداد زمن الرواية ، وبالتالي لم يكن هناك أي شكل من أشكال الصراع الديني في الرواية . لقد جعل الروائي من شخصية الطفلة سالي التي تبنتها نرمين ، والتي ستصبح شخصية الرواية المركزية الثانية ، بديلا ً للحاج عارف في تمثيل طائفتها بما توفرت عليه من وعي مبكر وسلوك ايجابي ، برر انسحاب الحاج عارف الى هامش الأحداث ، ولا نشك في أن الروائي عمد الى الزج بهذه الشخصية بايجابيتها ، لتكون مكاقئا ً لشخصية نرمين الايجابية هي الأخرى ، على نحو متوازن تمثل كل منهما طائفتها المختلفة عن الأخرى . وسالي هذه ابنة عائلة قوقازية الأصل ،أبوها مصطفى عامل نقابي يساري الاتجاه تعرض هو وأسرته الى الكثير من المتاعب والمضايقات بسبب ذلك .
إن المنعطف الرئيسي في مجرى الأحداث تمثل في تبني نرمين للطفلة سالي وهي صغيرة ، لتعويضها عن حرمانها من أبنائها : الكبير نزار الذي انتحر والابن الثاني والبنتين ، وقد أقدمت أسرة زوجها على سحب الثلاثة منها بعد قرارها الزواج من الحاج عارف .وتجلى شعورها بالرغبة في التعويض في إسرافها في المبالغة برعاية الطفلة التي ظلت محور اهتمامها البالغ ومحور اهتمام الروائي أيضا ًالذي منحها مستوى وعي متقدم قد لا يتناسب مع سنها كما أشرنا ، وسيتجلى ذلك في سلوكها ومجمل تصرفاتها خلال المراحل العمرية التي مرت بها ، وقد انفصلت عن أهلها ًالذين غابوا عن الحضور تماما ًخلال سنوات غياب ابنتهم الثماني الأولى .kh sadek altamemi
لقد انقطع مجرى الأحداث خلال السنوات الست التي قضتها سالي في المدرسة الابتدائية وقد غابت عن الحضور تماما ً، فأحدث ذلك شرخا ً في مسار الأحداث ، لنجد البنت وقد أكم.لت الدراسة الابتدائية وخضعت لتطور عقلي ونفسي وسلوكي تجلى في اهتمامها بالعمل فكان واضحا ً ان الروائي عمد الى التأكيد على قيمة العمل من خلال ذلك . فحيت تعلمت سالي الخياطة والتطريز من نرمين التي كانت قد نقلت ورشة الخياطة العائدة لها من السوق الى بيتها بعد وفاة زوجها، صارت تحث أمها وأختيها على العمل في الخياطة بعد أن وفرت لهن ، هي ونرمين عدّة العمل .
ووفق مبدأ التتابع الأفقي للأحداث ، يزج الروائي بشخصية مزهرابن عم سالي، ( وهو ليس موضع ترحيب واحترام من أم سالي ) في مجرى الأحداث عند منتصف زمن الرواية ليجعل منه عنصر توتير ينحرف بالأحداث نحو ظاهرة النهوة العشائرية السائدة اجتماعيا ً في الريف بشكل خاص . ومزهر هذا ، كما تقول الرواية ، متزوج من اثنتين وله أطفال ، وهو عاطل عن العمل وهارب من الخدمة العسكرية ، تذكّر بعد سنوات ان له عما ً وبنات عم وقد فعل ذلك لغاية في نفسه، وعمد ، بتهوره ، الى محاولة إفساد خطوبة سالي من ضرار الابن الثاني لنرمين ، فتم إسكاته بمبلغ من المال .
تواصل الرواية تتبع مسار نمو شخصية سالي وهي تجتاز مرحلة المراهقة وفد صارت في مرحلة الدراسة الثانوية ولأن نرمين تعرف خطورة هذه المرحلة على حياة ومستقبل البنت، فقد شعرت بأن عليها أن تبدل جهدا ً مضافا ً في رعايتها ومتابعتها ، حتى عبرت سنوات المراهقة بنجاح مصحوب بتفوق دراسي وقد صارت في مرحلة الدراسة الثانوية فأولتها اهتماما ً خاصا ً. وطرأ منعطف رئيسي في مسار الأحداث في هذه المرحلة تمثل بوصول ضرار الى البصرة قادما ً من أمريكا وكان قد ذهب اليها قبل عدة سنوات ليعيش تحت رعاية خاله هناك ، وليعود الآن وهو تاجر مجوهرات . وبدا واضحا ً منذ الساعات الأولى لوصوله ، ان الروائي سيربطه وسالي برباط الزوجية ، وهو ما تحقق فعلاً فيما بعد . لقد أبدى ضرار اهتماما ً واضحا ً بها منذ البداية ، وفي أول يوم لوصوله يزور غرفتها ، ويرى مكتبة العائلة ويجد الروائي هنا فرصة لاستعراض ثقافته وطبيعة قراءاته هو من خلال التعريف باهتمامات سالي الثقافية وطبيعة قراءاتها. ولقد أصبح ضرار اكثر اقترابا ً من سالي خلال الزيارة التي قامت بها أسرتاهما الى جزيرة السندباد فأعلن عن حبه لها وعن استعداده للتخلي عن ارتباطه الديني .
ان الروائي يقدم في روايته سياحة مكانية في البصرة تلقي الضوء على معالمها السياحية وتقاليدها الاجتماعية ، مارا ً بما كان شائعا ً فيها من أغان ٍ ومناسبات لهو، ويختمها بحدثين تمثل الأول بتعرض نرمين الى أزمة صحية أودت بها الى الموت ، وتمثل الثاني بإتمام خطوبة سالي من ضرار والتهيؤ لسفرها معه الى أمريكا للزواج منه ولإتمام دراستها هناك ، ولن يتم ذلك دون ثمن يدفعه . فقد كان عليه أن يتخلى عن ارتباطه الديني ويشهر إسلامه وبذلك يكون الروائي قد أطلق رصاصة الرحمة على مبدأ التعايش الديني الذي كان سائدا ً على امتداد زمن الرواية !

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *