حسن عجمي : فلسفة العقل و العقلانية

hasan agmiتخدعنا اللغة حين تدفعنا إلى الاعتقاد بأن كل مفهوم لغوي يدل على شيء معين في الواقع. مثل ذلك أن مفهوم العقل يجعلنا نظن أن العقل يدل على كينونة مُحدَّدة في الوجود تماماً كما أن مفهوم العقلانية يؤسس للاعتقاد بأن العقلانية تشير إلى حالة مُحدَّدة في واقعنا المعاش. لكن من الممكن الخلاص من خداع لغتنا و اعتبار العقل غير مُحدَّد ما هو و اعتبار العقلانية مجرد مشروع إنساني.

ثمة نظريات فلسفية و علمية عديدة تختلف حول كيفية تحليل العقل. فمثلا ً , بالنسبة إلى النظرية المادية , العقل ليس سوى حالات فسيولوجية في الدماغ. في هذا النموذج , المعتقدات و المشاعر مُختزَلة إلى عمليات ارتباط و تفاعل النيورونات. في العلوم المعاصرة , النيورونات هي الخلايا العصبية القائمة في أدمغتنا. أما نظرية أخرى فتعرِّف العقل على أنه مجموعة وظائف معينة أو ميول للتصرف. فمثلا ً , اعتقادنا بأن هذا الطعام جيد ليس سوى ميلنا إلى تناوله. هكذا تختزل هذه النظرية المعتقدات و المشاعر إلى مجرد ميول للتصرف. لكن من منطلق نظرية ثالثة , العقل ليس سوى برامج حسابية تماماً كبرامج الكمبيوتر. يقدِّم الفيزيائي ميشيو كاكو هذه النظرية و يعتبر أن العقل مجموعة برامج كمبيوترية. و لذلك , بالنسبة إليه , من الممكن في المستقبل أن تحيا عقولنا إلى الأبد في آلات متطورة و أن تفارق أجسادنا و تسافر بين النجوم. هذا لأن عقولنا برامج كمبيوترية حسابية و بذلك هي قادرة على البقاء خارج أجسادنا تماماً كما من الممكن نقل برنامج حسابي من آلة إلى أخرى و تماماً كما من الممكن لأي برنامج حسابي أن يوجد من دون أن يتجسد في أية آلة مادية من جراء كونه كينونة مجردة. نشهد هنا عودة المثالية في عملية تحليل العقل لكن من منظور علمي. أما الفيزيائي ماكس تغمارك فيصر على دفع هذا الاتجاه المثالي إلى أقصاه حين يؤكد على أن العقل ليس سوى بنية رياضية مجردة تماماً كما الكون كله. بالنسبة إلى تغمارك , الكون مُختزَل إلى بنيات رياضية لأنه من الممكن علمياً وصف و تفسير أي شيء في الوجود من خلال مفاهيم و معادلات الرياضيات. بذلك من غير المستغرب أن يكون العقل بنية رياضية أيضاً. هنا تزول المادة و تحل مكانها البنيات الرياضية المجردة فنصل إلى مثالية قصوى. (1)

لكن من الممكن الخروج من المادية و المثالية معاً , و ذلك من خلال قبول نظرية جديدة مفادها أن العقل غير مُحدَّد ما هو. و لهذه النظرية فضائل عدة. فبما أن العقل غير مُحدَّد ما هو , إذن من الممكن أن ننجح في وصفه و تفسيره على أنه حالات فسيولوجية في الدماغ أو ميول للتصرف أو برامج كمبيوترية أو بنية رياضية مجردة. من هنا , تتمكن النظرية القائلة بأن العقل غير مُحدَّد من تفسير لماذا تنجح النظريات العلمية و الفلسفية المتنوعة في وصف و تفسير العقل رغم اختلافها. و بذلك تكتسب نظرية لا محددية العقل مقبوليتها. و من فضائل هذه النظرية أيضاً أنها تضمن استمرارية البحث المعرفي. فبما أن العقل غير مُحدَّد ما هو , إذن لا بد من السعي الدائم نحو اكتشاف صفات العقل و وظائفه ؛ لو كان العقل محدَّداً في صفات معينة حينها لا يوجد داع ٍ كي نستمر في اكتشاف صفات جديدة له. من هنا تضمن لا محددية العقل استمرارية البحث العلمي بدلا ً من أن توقفه. و في هذا فضيلة كبرى.

بالإضافة إلى ذلك , بما أن العقل غير مُحدَّد ما هو , إذن من الطبيعي أن يمتلك وظائف عديدة و مختلفة كأن يكون آلية للحفاظ على الحياة من خلال تجنب الضرر و الاقبال على ما هو مفيد و أن يكون في الوقت نفسه آلية للحصول على المعرفة المجردة غير المرتبطة بالواقع المعاش أو بإبقاء الأحياء على قيد الحياة كمعرفة الرياضيات المجردة. فالعقل لديه وظائف متنوعة بسبب لا محدديته. من هنا , تنجح نظرية لا محددية العقل في تفسير لماذا العقل يملك وظائف مختلفة و متعارضة. لو كان العقل مُحدَّداً ما هو لتم تحديده فسجنه في وظيفة معينة دون سواها. على هذا الأساس أيضاً , لا محددية العقل تضمن حرية الإنسان. فبما أن العقل غير مُحدَّد , إذن العقل غير مسجون في مبادىء أو آليات تحدده و بذلك يضمن العقل حريتنا. و بما أن العقل غير مُحدَّد , إذن لا بد علينا أن نحدّده و بذلك يغدو العقل معتمداً في تكوينه علينا نحن بدلا ً من أن نكون سجناء عقل محدَّد سلفاً. لذلك يحررنا العقل و يصبح مشروعاً علينا أن نكتشفه و نخترعه باستمرار. هكذا العقل مشروع الإنسانية.

من جهة أخرى , يرتبط العقل بالعقلانية ؛ فمن المفترض أن يكون العقل عقلانياً. لكن تتنوع نظريات العقلانية و تختلف. إحدى النظريات تؤكد على أن العقلانية كامنة في انسجام أفكار و معتقدات الفرد. بالنسبة إلى هذه النظرية , فقط حين تكون معتقدات الفرد منسجمة فيما بينها يكون الفرد عقلانياً. هذا لأنه إذا كانت معتقدات الفرد تناقض بعضها البعض حينها الفرد لا يراعي مبادىء التفكير المنطقي و بذلك من الخطأ اعتباره عقلانياً. أما نظرية ثانية في تحليل العقلانية فتعتبر أن العقلاني هو الذي يحقق منافع ذاته أو منافع ذاته و الآخرين معاً. من منظور هذه النظرية , فقط حين ينجح الفرد في تحقيق مصالحه أو مصالحه و مصالح الآخرين في الوقت نفسه يصبح الفرد عقلانياً. هذا لأنه إذا لم يحقق الفرد مصالحه أو مصالحه و مصالح الآخرين حينها يضر الفرد نفسه أو يضر نفسه و الآخرين و بذلك يخسر صفة أنه عقلاني. و ثمة نظرية ثالثة تقول إنه يجب تعريف العقلانية من خلال المسؤولية الأخلاقية. تصر هذه النظرية على أن أي فرد عقلاني فقط حين يكون مسؤولاً عما يفعل. و بذلك يغدو الفرد عقلانياً فقط حين يستحق أن يُعاقَب أو يُكافَأ على ما يفعل. هنا العقلانية ليست سوى مسؤولية الفرد عما يعمل و ما يترتب عن ذلك من مكافأته أو معاقبته. فلو لم يكن الفرد عقلانياً , إذن من الخطأ اعتباره مسؤولاً عما يعمل و بذلك من الخطأ أن يتلقى العقاب أو المكافأة على ما يفعل. لذا العقلانية مختزلة إلى مسؤولية الفرد و ما تستدعي تلك المسؤولية من عقاب أو مكافأة.(2)

لكن من الممكن طرح نظرية أخرى ألا و هي أن العقلانية غير مُحدَّدة. لهذه النظرية فضائل معرفية عدة. فبما أن العقلانية غير مُحدَّدة ما هي , إذن من المتوقع أن تتجسد في عقلانيات عديدة و مختلفة كأن تكون متمثلة في الانسجام الفكري و مراعاة مبادىء المنطق و أن تكون متجسدة في تحقيق المنافع للذات و للآخرين و متجلية أيضاً في المسؤولية الأخلاقية. هكذا لا محددية العقلانية تنجح في التعبير عن تعدد العقلانية و تنوعها و بذلك تكتسب فضيلة معرفية قيمة. و لا محددية العقلانية تحررنا من سجون عقلانية مُحدَّدة سلفاً. لو كانت العقلانية محدَّدة في تعريف معين أو بمبادىء معينة لسجنتنا في هذا التعريف للعقلانية أو في تلك المبادىء. لذا لا محددية العقلانية ضمانة تحررنا من مسلّماتنا المُسبَقة. من هنا , لا محددية العقلانية تضمن حرية الإنسان. بكلام آخر , بما أن العقلانية غير محدَّدة , إذن تحديدها يعتمد علينا فنصبح نحن أسياد العقلانية بدلا ً من عبيد لها. هكذا تحررنا لا محددية العقلانية.

كما تنجح لا محددية العقلانية في ضمان استمرارية البحث المعرفي عن مضامين العقلانية. فبما أن العقلانية غير محدَّدة ما هي , إذن لا بد من البحث المستمر عن صفات العقلانية ما يضمن استمرارية البحث العلمي. و في هذا فضيلة أخرى للا محددية العقلانية لأن استمرارية البحث المعرفي فضيلة في حد ذاتها. كما أن لا محددية العقلانية تقضي على التعصب , و في هذا فضيلة عظمى. فبما أن العقلانية غير محدَّدة ما هي , إذن من الخطأ اعتبار هذا الفرد أو ذاك الشعب غير عقلاني علماً بأنه لا يوجد تعريف للعقلانية أصدق من التعاريف الأخرى بسبب لا محددية العقلانية. من هنا , يزول التعصب ضد الآخرين فنضمن لأنفسنا إنسانية أكبر. العقلانية قرارات مستقبلية لا بد من اتخاذها باستمرار و لذا العقلانية غير مُحدَّدة. العقلانية مشروع مستقبلي لأن العقلانية تعتمد على صياغتنا لها تماماً كما أن العقل مشروع لا بد من إنتاجه.

المراجع
(1)
Ian Ravenscroft : Philosophy of Mind. 2005. Oxford University Press. & Max Tegmark : Our Mathematical Universe. 2014. Knopf. & Michio Kaku : The Future of the Mind. 2014. Doubleday.

(2)
Alfred R. Mele and Piers Rawling ( Editors ): The Oxford Handbook of Rationality. 2004. Oxford University Press.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| إبراهيم أبو عواد : فلسفة التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية.

1      توظيفُ فلسفةِ التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر مُحاولةً لتفسيرِ مَصَادِر المعرفة …

| د. زهير الخويلدي : الفنومينولوجيا من حيث هي علم صارم حسب ادموند هوسرل.

مقدمة درس ادموند هوسرل الرياضيات أولاً، ثم كرس نفسه للفلسفة من أجل التأمل في أسس علمها ومعناها. أول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *