د. زكي الجابر :الفساد كما هو! ‹¹› (ملف/36)

zeki aljaber 3إشارة :

يهم أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف عن الشاعر المبدع والإعلامي الكبير الدكتور زكي الجابر بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيله حيث غادر عالمنا في الغربة يوم 29/كانون الثاني/2012 . وتهيب أسرة الموقع بجميع الأحبة الكتّاب والقرّاء المساهمة في هذا الملف بما يملكونه من مقالات أو دراسات ووثائق وصور ومعلومات وذكريات عن الراحل . وسيكون الملف – على عادة الموقع – مفتوحاً من الناحية الزمنيّة . ومازالت الناقدة الدكتورة حياة جاسم محمد ترفد الملف بنصوص وصور مهمة للراحل الكبير فشكراً لها.

(1)

المقالة : 

الفساد كما هو!(1)

د. زكي الجابر

على مدى ما في الأرض العربية من اتساع في العرض والطول لم يعد الحديث عنه همسا وتناقلا شفاهيا، ولم يعد رغبة في نشر الفضائح، فقد انتقل به الأمر إلى تقارير مؤسسات دولية، وصار هما ثقيلا من هموم الناس وموضوعا من موضوعات الإعلام. إنه الفساد، الفساد في التصريف والتصرف بالمال العام، وتفريغ المصلحة العامة في المصلحة الخاصة، والخلل في التسيير الإداري، والتلاعب في أحكام القضاء، والغش في الدواء، والتواطؤ حتى في لعبة كرة القدم. وفوق ذلك وقبل ذلك الفساد السياسي، وتزوير الصوت الانتخابي، وانتحال شعارات الديمقراطية، وخداع الرأي العام العربي والإعرابي.
لقد اتخذ صندوق النقد الدولي قراره حول اقتران التمويل بالجهد المبذول في مقاومة الفساد، وشرع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بالتأكيد على أهمية ’’نظام الحكم الجيد‘‘، وارتأى برنامج الأمم المتحدة للتنمية ضرورة ’’الإدارة السليمة‘‘ أداة ناجعة من أجل أن تستدام التنمية في الدول النامية وتستديم. وقبل أشهر نشر تقرير منظمة ترانسبيرنسي انترناشنال (ت. آي) (Transparency International)،التي تتخذ من برلين مقرا لها، المتضمن كشفا بدول العالم الأكثر فسادا، داعيا الأمم المتحدة إلى تشكيل قوة دولية خاصة تتولى شؤون حرب الفساد في العالم. ولقد ذهب التقرير إلى القول بأن الشركات العالمية الكبرى تساهم في إفساد العالم النامي من خلال تقديمها الرشاوي إلى من بأيديهم الحل والعقد في تسيير مشاريعها وتدبيرها. إن عولمة الاقتصاد قد تنتهي إلى عولمة الفساد.
إن المطلعين على شؤون العلاقات العامة والترويج في الشركات الكبرى يدركون النسبة الضخمة التي تقررها هذه الشركات، علنا وسرا، تحت غطاء تلك الشؤون لتصرف كرشاوٍ لشراء الذمم وكسب الصفقات والتغاضي عن الفساد في تطبيق المواصفات.
وإذا كان الفساد سيئا، بكل ما يحمله ’’السوء‘‘ من معنى، فإن أسوأ السوء أن ينتقل الأمر بالفساد من كونه اختراقا لقيم المجتمع وللنظام الاجتماعي إلى اعتباره معيارا من المعايير الاجتماعية على نحو اتخاذ محترفي الإجرام شطارتهم في ارتكاب الجرائم معيارا. إنهم يتبارون في مدى قسوتهم واصطناعهم الأحاييل في الإيقاع بمن يريدون أن ينزلوا بهم ما يرونه عقابا مشروعا! وعندهم يتحول إلى سعي حلال كسب الأموال المشبوهة عن طريق الرشوة أو الاختلاس أو الاغتصاب. إن مثل هذا المعيار يصبح شائع التطبيق مع شيوع الفساد وانحسار مصطلحات ’’نظافة اليد‘‘ و ’’نقاوة الضمير‘‘ و ’’سلامة الذمة‘‘ و ’’أداء الأمانة‘‘. إن بقعة الماء النظيفة لا تستطيع الحفاظ على طهارتها إذا ما أخذت مياه البحيرة الملتفة حولها والمتداخلة معها بالتلوث! ومن أوليات الدرس الاجتماعي أن الضغط الاجتماعي يؤثر على السلوك إلى درجة يمكن فيها عقاب السلوك الإيجابي ومكافأة السلوك السلبي.
إن الحديث عن الفساد يبحر بنا حتما إلى موضوع الأخلاق، وهو موضوع من مشمولات الفلسفة، وكثيرا ما تكون مراجعته ودراسته تحت فلسفة الأخلاق، كما أنه موضوع من موضوعات التربية والتهذيب، وأسمى وصف للرسول الكريم جاء في التنزيل المبين ’’وإنك لعلى خلق عظيم‘‘. ومن مأثور الشعر:
وما الحسن في وجه الفتى شرفا
                                           ولكنه في فعله والخلائق
إنه موضوع يعنى بالعمل السليم والخير الذي يجب أن يفعل في معترك العلاقات القائمة والمتجددة بين الفرد والفرد والفرد والمجتمع، وهو صفة تتجسد في إنسان، وقد يفتقدها آخر ’’لا خلاق له‘‘، وهو فعل يتعلمه الإنسان في مواجهته المشاكل التي تعترض سيرورة الحياة، وهو إشكالية من إشكاليات السلطة وممارسات الدولة وإنتاج الثروة وتوزيعها وموقع الدين ومجمل القيم الإنسانية في معترك عيش الناس وتطلعاتهم.
والأخلاق بعد ذلك وعي اجتماعي تتجدد أبعاده تحت تأثيرات النظام الاقتصادي والاجتماعي. إن العوامل التي تحبط هذا الوعي، وتشوه انتظام العلاقات بين الناس، وتؤخر مسيرة النمو، وتساعد على عرقلة جهود ردم الشرخ الاجتماعي وفعل الانتصار على القهر، إنما هي عوامل تحتمي تحت مظلة الفساد وترتبط به.
وقد يبدو تشكيل ’’انتربول‘‘ لمكافحة الفساد من باب الأحلام الطيبة، ذلك أن ’’مافيات‘‘ الفساد تأخذ أشكالا وتتلبس ألبسة تتجاوز قدرة بوليس يخضع لنظام دولي، كما أنه يشكل إضافة جديدة إلى الأعباء التي تثقل كاهل الأمم المتحدة ومنظماتها. وأهم التساؤلات التي تطرح في هذا المجال: من يمول هذه القوة؟ وممن تتشكل؟ وكيف نحميها لئلا تشكو من الداء الذي هو موطن الشكوى؟
وهنا يصبح من حقنا الالتفات إلى المجتمع المدني وضرورة تنشيط مؤسساته. لِمَ لا تكون هناك هيئات منظمة لمتابعة أنشطة الفساد والتعرف على مساربه؟ وقد لا نبتعد عن الصواب إذا ما طالبنا بمثل هذه الهيئات إلى جوار هيئات أخرى تعمل في مجالات حقوق الإنسان وتنظيم الأسرة ومكافحة التشرد ومكافحة الإدمان.
كما يبدو من حقنا الالتفات إلى التشريع، ففي غياب القانون العام والقواعد الزاجرة يقترب الإنسان من حياة الغاب وحياة الغش والقهر والإرغام والقتل. وقد يكون من باب الأهمية الإشارة إلى أن القوانين المُحَبرَّة والقوانين المُسَطَّرة لا تحقق غاياتها ما دامت فاقدة لإرادة التنفيذ، فاقدة لمتابعة هيئات المجتمع المدني.
وبعد، فهذا هو الفساد، علامة تخلف وعامل يقود إلى التخلف على اختلاف ضروبه، من افتقار ومرض وتفشي الجريمة وتفضيل المصلحة الفردية على المصلحة العامة واعتبار كسب الأموال المشبوهة بطولة وقيمة اجتماعية.
لقد قلت كلمتي ولا أريد أن أمشي، فقضية الفساد في صميمها قضية تربية واقتصاد ونظام اجتماعي وأخلاق.

(1) نشرت في صحيفة العَلَم (المغرب)
10-10-1999

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *