خضر عواد الخزاعي : رواية “طشاري” … انعام كجه جي والعزف على وجع الذاكرة

khudr awad 3حكاية الدكتورة أو العمة وردية ذات الثمانين عاماً في رواية”طشاري” للكاتبة والاعلامية العراقية انعام كجه جي الصادرة عن دار الجديد في بيروت 2013 لا تشبه حكايات جدتي التي طالما استمتعنا بها ونحن نلوذ بأحضان أمهاتنا، فجدتي عندما كانت تقص علينا حكاياتها كان الجميع يجلس حولها، وينصت الى حكاياتها، ولم يكن أطلس العراق حينذاك قد تجاوز بخطوطه ومنحنياته وألوانه، الشطرة، وزرباطية، والشامية، وعين كاوة، وتلكيف، وبرطلةـ ولم تكن هناك في قاموس الآباء والاجداد، باريس، وتورينتو، وهاييتي؛ وكان معظم أبطال حكايات جدتي، هم من الجان، والطناطل، والعفاريت، والوحوش الضارية، وحيوانات الغاب والامراء والسلاطين، لم تكن هنالك قرابين ولا دماء، ولا حروب، ولا حكام مؤلهين.
في رواية “طشاري” تحاول الكاتبة انعام كجه جي متابعة الهجرات الجماعية للعراقيين في بلاد الغربة، من خلال نص سردي أرادت منه أن يكون سيرة ذاتية لواحدة من نساء العراق اللواتي خدمن بجد ووطنية لتجد نفسها بعد ثمانية عقود مجبرة على مغادرة بلدها ومفارقة احبتها، في هذا النص ليس هناك استدرار للدموع، ولا تجييش للعواطف، رغم المحايثة التي يستشعرها القاريء وهو يتصفح الاوراق، ويغوص في تلافيف السطور المورقة بالألم العراقي الطازج، لم يكن هناك غير تحشيد للوعي مقابل محنة الاغتراب والهجرة القسرية، لأجيال من العراقيين، كانت نتاج لعهود من السياسات المقامرة التي وضعت مصائر ملايين العراقيين بين فكي كماشة البطش أو الهجرة، كما حدث مع وردية” “كأن جزاراً تناول ساطوره وحكم على على اشلائها أن تتفرق في كل تلك الأماكن،رمى الكبد الى الشمال الامريكي وطوح بالرئتين صوب الكاريبي وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج، أما القلب فقد أخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة ، تلك المخصصة للعمليات الدقيقة، وحزّ بها القلب رافعاً إياه باحتراس، من متكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج ايفل وهو يقهقه زهواً بما اقترفت يداه. ص17”
“طشاري”نص شفاهي وبامتياز منقول عن امرأة تسرد حكاية ثمانين عام من الحياة الاستثنائية، بالرغم من اسلوب التقطيع CUT الذي استخدمته الروائية بين فصول ومتون النص، لتبعد النص عن حالات الرتابة، التي قد يستشعرها القاريء وهو يتابع فصول الرواية الأربعين، كما في الفصول: السادس والسابع والثامن، حيث الانتقالات الحادة من ذكريات مستشفى الديوانية في سنة وردية الأولى في المستشفى، الى باريس حيث شقة ابنة أخت وردية وجانب من حياة الأسرة وحياة ولدهم اسكندر، ثم عودة أخرى لسيرة حياة وردية في مستشفى الديوانية. أو المحافظة على استمرارية روح السرد The continuity of the narrative . enaam kajaji 5خصوصاً في المراسلات التي تتم بين الدكتورة وردية وبناتها ياسمين وهندة. كما في الفصل التاسع والعاشر والحادي عشر، والثاني عشر، وفي انتقالات تاريخية في غاية الخطورة والالتباس، لامرأة أخرى، تقوم الكاتبة بدور السارد العليم، بطريقة أقرب ماتكون الى التدوين النقلي، لكنها كتبت بأسلوب نستقرأ منه درسا بليغاً في كتابة النص السردي، حيث يتحول النص السردي من انعكاس للواقع، الى حالة من السكون والتأمل، تُقتطع من فوضى يومياتنا المزدحمة بالتفاصيل واللهاث المر، لحظات استجلاء للواقع كما هو، بلغته، وزمانه ومكاناته، وأجوائه المفعمة بالحس الانساني؛ ليست هنالك من قواعد، غير وعي الكاتبة وتجربتها الخصبة والفذة في تناول الواقعة، فيكاد القاريء لايشعر بتلك المسافة الشفافة بين المدوّن والسارد”تاليها ياابنة أخي الحبابة، ألم تضجري من ثرثرتي؟ لقد رويت لك كل تلك السوالف والترهات لكي أقول لك فكرة وحيدة، إن السفر لم يكن قدري لكنني سرت اليه مثل المنومة.ص23″. وفي موضع آخر تقول الساردة للمدونة وهي تسرد لها سيرتها الطويلة”ديري بالك يعيني وانت تكتبين وتشطبين وتراجعين وتستفسرين وتفركين جبهتك تاملاً، أو ربما مللاً من صداع الحكاية، ديري بالك لأن هذا ياقوت عمري.ص24″. لتبدا حكايتها منذ انتقالهم من الموصل الى بغداد لتكون الاسرة قرب الابن سليمان لاكمال دراسته في كلية الحقوق، ثم انتقالها في يوم الرابع عشر من تموز 1959 للعمل كطبيبة مقيمة في مستشفى الديوانية التي استمرت لأكثر من ربع قرن لتغادرها وهي في سن الكهولة، في لغة حرصت الساردة على المحافظة على روحيتها العراقية وطريقة أدائها، كما في” طلعت روحي، وعابت هالجهرة،وشلون نمونة، والعن ابليسك، وملصتك من بطني، شالو الجتري وعلكو، قوبجتني، عينان داكنتان وكفشة من شعر مموج طويل، ساتحول بدوري الى مشخوطة، ام دميعة”.
في “طشاري” نلمس ذلك الوخز الذي يعاني منه المهاجر أو المغترب العراقي، وهو يبحث عن المبررات والتطمينات الروحية لمعظلة الهجرة، عن الوطن، حينما يتبادل الابناء والوطن العقوق”لم أكن بارّة به لأني أفلتّ من فكيه، المفترستين باكرا،ومضيت بدون رجعة، وكان الوطن عاقا بها، نبذها وهي في آخر العمر ولم يشملها بخيمة حمايته”.ص189.وهيّ حكاية شعب”قُدَّ من تمر وأشعار وابوذيات”. كما تصفها الساردة، حكاية شعب حطّ على سطوحه طير “اليباديد المنفلت من كتب الاساطير” ليبعثرهم ويفرقهم في بلاد الله الواسعة. أو بلاد قُدر لها أن تكون مدسوسة بين فكي الشيطان، لتبدأ من هناك رحلة عظيمة مع وجع من لون آخر. لن يكون فيه التهديد والخوف من سلطة غاشمة، أو عصابة مسلحة، هو المسيطر، لكنه خوف آخر، ممزوج بالقلق والانتظار، والتحدي في الاستمرار، والتواصل مع الآخر، الذي لم تعد من واسطة اتصال معه، غير شاشات النات واجهزة النقال، ورسائل البريد،”هيّ غير سعيدة ولن تكون، في أيّ يوم، سعيدة تماماً، ثمة مرارة ما تحت اللسان، هناك غبن سيبقى كامناً في موضع ما، من تاريخها الحميم، لأن يداً سلختها عن حياة سابقة، وزلزلت ركائزها.ص230″.ليستمر هذا النزف البشري العراقي بالتدفق صوب القارات البعيدة، باحثاً عن فرصة تعويضية في النجاة، والبقاء، حاملاً معه هذا الكنز الخصب والوفير، من متاع لايمكن له أن ينضب، من ذاكرة الوجع العراقي، الذي حملت الدكتورة ورديّة جزءاً كبيراً منه وهيّ تتعكز على سنيّها الثمانين، التي عاشتها، ابنة وفيّة لأسرتها وبلدها، لتتحول في النهاية الى حقيبة كبيرة،” حقائبهم كبيرة وعريضة يطوون فيها بيوتا، لايتغاضون عن الاحذية والمعاطف والبطانيات والشراشف وأكياس الشاي والبهارات والجريش والادوية والاستكانات والبومات الصور والوثائق الرسمية والاسطوانات وأشرطة الفديو”ص195 .
“طشاري” سيمفونية عراقية، عزفتها الكاتبة الفذّة انعام كجه جي بكل الوان الوجع العراقي المهاجر، لتعبر بها ضفاف الرافدين الى تخومٍ لم تحلم قدم عراقية أن تطئها ذات يوم.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *