إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر هذا الملف عن المبدع الكبير القاص والروائي المجدّد “جمعة اللامي”، الذي طبع بصمته السردية الفريدة على الخارطة السردية العربية من خلال منجزه السردي الفذّ. تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتّاب والقرّاء كافة للمساهمة في هذا الملف، بما يتوفر لديهم من دراسات ومقالات ووثائق وصور وغيرها، بما يُثري الملف ويُغنيه. تحية للمبدع الكبير جمعة اللامي.
المقالة :
كائن متعدد الأسماء
في الليلة الثانية من ليالي إقامتي في شقة جمعة اللامي بالشارقة , مايو 2006 , استقبلتنا (حديقة زينب) اليانعة بآيات التناسق والجمال , ودعانا سكونها ورخاؤها إلى استئناف حديث الطواف حول قطب رحاها , حتى يأذن باز زينب باختتام كتاب المشافهة والانتقال إلى كتاب النوم , على منهاج الليلة السالفة .
امتصت الحديقة سورتنا , وأحاط نظامها الدائري بذاتينا الهائمتين , وما كدنا نتم الدورة العاشرة حتى أفرغنا جعبتنا من مسارات التماثل والاختلاف, ومقابسات الزمن البعيد والقريب. انتبهتُ إلى نماذج الحديقة الحية المرتبطة بفلك مدارنا برباط الاجتماع والألفة , فسألتُ جمعة عن مقدار علاقته بها ومعرفته بأشخاصها , فقال إن أغلب المتنزهين من الجنسيات الآسيوية الوافدة للعمل , يجمعه وإياهم خاطر الخطوة والنظرة لا رابط الهوية والجنس , وسؤال التذكر والاشتياق لمواطن زينب الأولى . فهم يذكرونه بمسافة الهجرة التي طواها منذ خروجه من العراق عام 1979 حتى استقراره على أرض الشارقة عام 1980 .
قلت له : حديقتنا مثال كوني لحدائق البستانيين العظام أمثال الشيرازيين حافظ وسعدي , وطاغور والمعري وجبران خليل جبران . فبمن يرتبط بستاني حديقة زينب , ومن معارفه بين وجوه الحديقة ؟
قال : المعرفة تقتل الألفة . أعرف متنزهي الحديقة بسماتهم ولا أحفظ أسماءهم , وأحاورهم وأخالطهم لكن بخاطري وإنسانيتي وألفتي . إنهم يعرفونني أكثر مما أعرفهم .
وروى لي حكاية الكلب الذي اعترض سبيله وطالعه ببوز وسخ وعينين ذليلتين وهز ذيله طالباً رفقته ومؤالفته . ظهر هذا الكائن المطارد من أدغال الأمس وجهاً كان ثاوياً خلف سياج البيت القديم في (الماجدية) , ثم تبعه لعنةً صاحية تطارد السكارى في حانات بغداد , وأطل من ربى السجن المنخفض في صحراء (السماوة) وخاطبه بلغة الإشارات بين المنبوذين والمرتدين , ثم أقبل وانحشر بين الوجوه المنفية وراء حدود العشق والوفاء , بل كان هو الوفاء نفسـه الذي رآه جمعة في عينيه ينتظره كل مسـاء بباب الحديقة يبادله إحسـاناً بإحسـان .
ـ في (الثلاثية الأولى) قلتَ :(( لأنني وحيد لا أستطيع شيئاً )). أما زلتَ وحيداً ؟
ـ إني كائن أعزل إلا من الشعر . كنتُ كائناً متعدداً فأصبحتُ وحيداً . وحدني الشعر , شـعر العبارة , وشـعر المكان , في حياة مختزلة قانعة , وعبارة قصيرة دالة . لأنني كنتُ (( أتخيل )) صور الماضي تفرقتُ في عالم الماضي , وتغربتُ في مدن الله . ولأنني صرتُ (( أعرف )) عالمي عدتُ إلى مكاني , قرب حديقة الله . صارت هجرتـي من مكاني إلى مكاني , ومن ماضيّ البعيد إلى مستقبلي القريب . الله هو مستقبلي .
ـ لكنك كائن متعدد الأسماء: حكمت الشامي وغريب المتروك وإبراهيم العربي.. أين تستتر حقيقتك؟
ـ هذه أقنعة أحوالي وأطواري , تتقمصني مثل جلدي . حقيقتي مجدولة من لحاء أسمائي المستعارة . غير أن تاريخي يخونني أحياناً فيسلبني أسمائي وأبدو عارياً أمام حقيقتي كشجرة عرّاها الخريف من أوراقها . أحلم أحياناً بشجرة تتدلى منها الأسماء , وأحياناً أصير هذه الشجرة تعطي أكلها لمن تشاء . ليعرّني التاريخ من أسمائي لكن حقيقتي تظل ثابتة في أصل شجرة تتفرع أسماؤها نحو السماء . وهذه هي الحقيقة التي تختمر بها نصوصي .
ـ ماذا تبقى من أسماء ( الديرة ) القديمة , عزيز الموسوي مثلاً ؟
ـ كان عزيز الموسوي أول المنشقين في ديرتنا . كان يؤمن بالله في السماء وماركس على الأرض , فلم يفهم انشقاقه صديق ولا عدو , وأرسله النظام الشمولي الواثق من سيطرته على الرقاب إلى العدم . هل لاحظتَ صورته المعلقة على جدار شقتي ؟ إنها منثورة ببقع حمر حائلة , تذكاراً لصداقة معمدة بالدم . أردتُ أن أتذكره مثل حلاج عصره عندما رشقه الأعداء والأصدقاء بالحجارة . ما أكثر الشخصيات المنشقة على قضايا عصرها , داستها أقدام الجماهير الزاحفة نحو هرم السلطة على وقع المارشات العسكرية .
ـ بعد أن دخل هؤلاء الأشخاص الحقيقيون قصصك صاروا هشيماً . أتحسّ بخطو هؤلاء الأشباح على بساط الحديقة الأخضر , هل تخشى مواجهتهم ؟
ـ كن مطمئناً , لا أخشى عودة شخصياتي إلى الحياة , فهي نماذج لا تنسخ نفسها ولا تتشبّح . هؤلاء الذين دخلوا عالمي ليسوا شخصيات شمعية , وإنما كانوا من لحم ودم , يصارعون أنفسهم ويردونها حتفها . مجاهدة النفس كانت قضيتهم الأولى , وفي هذا الصراع فقدوا أعمارهم القصيرة , وقلما يتذكرهم روائيو اليوم . قد يرغبون في الانبعاث من قبورهم , إلا أن زحف الأقدام تضيق عليهم الخناق . لا تخف يا صديقي ! ألسـنا شـبحين من الماضـي ؟
ـ ولكننا شـبحان سرديان , لا يقويان على الهرب أمام زحف الأقدام . إننا ننصب المسرح , لكننا نخشى تمثيل أي دور على خشبته . أتقوى على المواجهة ؟
ـ نعم . مواجهة النفس . هذه قضيتي . المجموع يشهد صراعي , وينتظر مصرعي , لكني لا أبالي بهذه الفرجة . مسرحيتي وخشبتي في قبضة خالقي . هذا هو درس عزيز الموسوي الذي استخلصه من ماركس , الصراع بلا نهاية أو الوصول إلى يقين .
ـ أحياناً تحدثني نفسي بما تقول . إن خبرة السرد تغرينا بالذهاب إلى نقطة اللاعودة أو اللايقين , إذ يصبح معيار الحقيقة والخيال واحداً . هل بلغت هذه النقطة , وكيف تصف أحوالها ؟
ـ هناك أكثر من حال لهذا البلوغ , فعندما تُفتح أقفال النص السردي , يزول الفارق بين الشعر والنثر , وتدخل الرواية مدخل السيرة الذاتية , وتحلو لعبة استعارة الأسماء , ونزع الصفات عن الموصوفات , وانتحال الأقوال , واستدعاء المواقف , والمرور بخفة بين حواجز عالم الشهود , واختلاس النظر وراء حجب الغيب , واستبدال الظاهر بالباطن والباطن بالظاهر , والاتحاد بذات المحبوب . هذه مزاعم لم أبلغها , ولكنها تعتمل في مختبري اعتمال الأنابيق في مختبر الخيميائي , وتضطرب في صحائفي اضطراب الحروف في صحيفة الصوفيّ .
ـ يختلج في صدري وأنا أشهد قلقك أن معركتك مع نصك لم تبدأ بعد , في حين أن نقطة اللاعودة واللايقين قد لاحت لك يوماً في (الثلاثية الأولى) بتصريح خالد الأمين في الرواية : (( كانت النهايات بدايات باستمرار , ولم أعد أطيق صناعة جحيمي )) . هل يأمرك نصك بخوض صراع أوسع من مجاهدة النفس ؟
ـ وهل أطيق جحيماً مثل تلك ؟ لقد خضنا المعركة الأخيرة في يوم من ماضينا , وخسرنا فيها كل شيء إلا نفوسنا المحطمة التي خرجت بحكمة واحدة بسيطة: ( لا تنظر وراء ظهرك وأنت تصعد من الجحيم ) . إنها حكمة أورفيوس وأولئك الخيميائيين القادرين على فك أقفال النصوص .
كان الليل قد أمعن في انتزاع اعترافاتنا , ولمّا نكد نتمّ طواف عشرة من أشواط نزهتنا , حين تفرستُ في وجه جمعة اللامي المخضل بالندى , وطرحتُ عليه السؤال الأخير :
ـ وهل جنيتَ محصولاً وفيراً من حكمة أورفيوس هذه ؟
ـ لا أزعم أنني خرجتُ من الجحيم . لكنني أختزن محصولا جيداً أكتبه كلما بلغتُ مرحلة من طريق الصعود .
توقف جمعة عن المسير , وظننتُ أنه يصغي لغناء عندليبه , ومَن غير هذا الطائر الرقيق دليل على صدق إحساسه , وفصاحة نطقه , ونهاية رحلته ؟ كان البستاني المطمئن واثقاً من وحي طائره , بينما لساني يبتلع في جوفه ما لم يستوثق من هذر لقالقه . وما عتمنا أن انصرفنا , ولسان حالي يقول : إنه يعرفني أكثر مما أعرفه .
*عن موقع الروائي