فاطمة خليفة مؤذن : عيسى حسن الياسري .. سَلّةٌ من الثمار (ملف/4)

الشاعر الهولندي رمكو كولبرت وهو يسلم جائزة الكلمة الحرة العالمية للشاعر العراقي عيسى حسن الياسري
الشاعر الهولندي رمكو كولبرت وهو يسلم جائزة الكلمة الحرة العالمية للشاعر العراقي عيسى حسن الياسري

إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.

الدراسة :

” أقول ُ لأصحابي ارفعوني فإنني
يعز لعيني أن ْ سهيل ٌ بدا ليا “

” مالك بن الريب “

أربعة عشر حقلا ً من حقول
عيسى حسن الياسري

تقديم .. فاطمة خليفة مؤذن
” روائية وشاعرة لبنانية تقيم في امريكا ”
……………………

في هذه اللحظة بالذات أكون قد حقّقتُ حلماً كبيراً في حياتي , وحلمي كان منذ سنوات أنْ يقترن اسمي باسم “عيسى حسن الياسري” على صفحات كتاب، أو صفحات رواية، أو صفحة غلاف.. غير مهمّ، المهمّ أن يتّحد إسمانا كغيميتين تظلّلان الكمأ , إنّما لا تحجبان عنه النور..
التقيتُ بصديقي الياسري عام2005 في ندوة أدبية في ” أميركا ” حيث كنتُ أقيم. جمعتْنا الندوة لمدّة تجاوزتْ الساعة بقليلٍ، لكنّها أنعمتْ علينا بصداقة نادرة , تخلّلتها حتى هذه اللحظة مئات الرسائل الإلكترونية* وعشرات الإتصالات الهاتفية. أنا أتحدّث عن صداقة استثنائية وإنسانية بين شاعر وناقد وروائي.. وبيني , أنا التي كنتُ في ذلك الحين مجرّد كاتبة مقالات تنشر هنا وهناك، وكاتبة روايات وقصص قصيرة كنتُ أحتفظُ بها في أدراجي ولم أفكّر بإعلانها إلى النور حتى.. حتى كان لقائي الأسطوري مع عيسى حسن الياسري.
قد أثيرُ تعجّب البعض بما سأكشفه بعد قليل، وقد يتساءل البعض الآخرعن معنى الحقول الأربعة عشر في عنوان هذه المقدمة. لهذا، أعتذرُ مسبقاً من صديقي الشاعر الذي سيكون أوّل المتفاجئين عندما يقرأ في هذه المقدّمة ما لا يتوقّعه منّي أنْ أفعل. يا صديقي، سأعلن في هذه المقدّمة، وللمرّة الأولى، عن فقرات من رسائلكَ لي، فقرات من حقولكَ الرائعة والتي ستساعد بالتأكيد في الكشف عن الأفق الآخر لأفكاركَ , وفهم فلسفتكَ الإنسانية والحياتية.
لا أرغب من أيّ كان أنْ يسألني يوماً عن سبب عدم انتظاري لرحيل أحدٍ منّا على الأقلّ لنشر هذه الرسائل البريدية , كما لن أعتمدْ على قصائد الشاعر المنشورة ولا على تحليلات النقّاد الكثيرة، بل سأكشف عن أجزاءٍ من هذه الرسائل في هذه المقدّمة الطويلة نسبياً , لأسحب القارئ معي في رحلة “متحفيّة” نحو البيئة التي حضنتْ طفولة الياسري، فندخل معاً إلى الكوخ الذي عاش فيه، ثمّ نذهب إلى النهرالذي سبح فيه، ونلتقي بوالده المتواضع ونسلّم على أمّه الحنونة، ونستمع إلى جاراته الراويات للأساطير الغريبة. كما سيصعد القارئ معي على متنِ طائرة خيالية لنلحق بالشاعر في منفاه، ونتعرّف على نمطِ حياته بين الكتابة والذهاب إلى المكتبة العامة وبين رياضته الصباحية تحت شمس مونتريال أو ثلجها القارس . ستلاحظون معي، خلال هذه الرحلة، أنّ فلسفة الياسري المنفتحة على الحياة والوطن والمرأة والحبّ تقابلها تجارب عائلية وإنسانية أليمة، لكنْ تبقى قناعاته وفلسفته هي الغالبة كما وصفها لي: ” قصائدي .. بسيطة وصادقة ومقتطعة من القلب، إنّها صورة مصغّرة لحياتي الصغيرة والبسيطة والهائلة الألم في الوقت نفسه”.
صديقي الياسري .. أرجو أنْ تتقبّل منّي هذه المبادرة في كشف رسائلنا، ربّما هي مبادرة مبكّرة بالفعل وجريئة , ولم تفعلها أيّ من صديقاتك َ الكثيرات , اللواتي تبادلن معك الرسائل لتعلقهن بتقاليد لا تنسجم وعفوية المبدع وحميميته ، لكنْ.. ألستَ أنتَ منْ شجّعني دائماً على الجرأة والإختلاف؟ ألستَ أنتَ من كتبَ لي مرّة؟ :” المبدع هو الذي يدون تاريخ المحبة البشرية , وهذا ما تصنعينه أنت ِ وأنا وكل ّ المبدعين , شرط أن يكونوا مختلفين” … ؟ .

1- تواضع وتشجيع :
سأتحدّث للمرّة الأخيرة، في هذه المقدّمة، عن لقائي القصير بالياسري , والذي أثرى حياتي الأدبية والمعنوية بلحظات نادرة، وهوالذي قال عن هذا اللقاء:” أرجو أن يكون لقاؤنا النقيّ كقلوب الملائكة رافد إبداع جديد لكليْنا”. بالنسبة لي كان لقائي بالياسري محطّة استثنائية في حياتي. تعرّفتُ في شخصه على الشجاعة والتواضع وحبّ الآخر قبل الذات. ففي حين قوبلتْ روايتي الأولى، في البداية، برفضٍ قاطع من قِبل الكثير من دور النشر اللبنانية، كما وقوبلتْ أيضاً بالصمت الأبديّ من بعض الأدباء ممّن طلبتُ رأيهم فيها، بقي هو مشجعّي الوحيد : ” ليس غريباً أنْ يُربك عملك دار النشر, ويجعلها تقف أمامه بكلّ هذا التشوّش . كوني صبورة وسترين ثمار شجرة إبداعك قريباً ” .
وكتب لي في وقتٍ لاحقٍ : ” أتمنى من القلب أنْ أعيش اللحظة التي يصلني فيها إصدارك الأول، عندها سأرقص فرحا .”
لم يكتفِ الياسري بدعمي وتشجيعي قبل نشر روايتي الأولى وبعد نشرها ، بل هو سألني بعد سنوات طَلَباً جعلني أتأكّد من نقاء نفسيّته البعيدة عن التكبّر، سألني بتواضع جمّ أن أضع اسمي على غلاف كتابه – إعداد فاطمة خليفة – “هذا أمرٌ يسعدني أوّلاً، وثانياً أريد لاسميْنا أنْ يظلا معتنقيْن إلى الأبد وألا يتوقّف عناقهما بتوقّف الرسائل في حالة ارتحلتُ بعيداً بعيداً “عندما أربكني تواضعه، سألتُه: ” كيف لي أنْ أقبل بكتابة إسمي على غلاف كتابك وأنا لم أكن المعدة إلا للقليل من مواده الكثيرة ؟” فردّ عليّ بكلام أكبرتُ فيه مرّة أخرى تواضعه:” أنا جعلتُ من “حلال سكرنا”** مقدّمة للكتاب، كما أدرجتُ فيه قصيدة –”بريد شاعر”***،ومواد اخرى كتبتها أنتِ عني شعرا ً ونثرا ً أمّا إذا أردتِ أن تكوني كريمة مع عيسى (…) فهو يطمع – أنا طمّاع فاطمة – أن تكتبي مقدّمة للكتاب بقلمك المبدع والشجاع “.”وفي رسالة لاحقة كتب لي:” أنا أكيد أنّ مقدّمتك ستكون قطعة شعرية تتهجّد بعلاقة روحية ترقى إلى أكثر الرؤى الصوفية نقاءً وثباتاً “.
أسأل بعد كلّ هذا السرد عمّن يجرؤ على وضع مصير كتابه بين يديّ كاتب مبتدئ كما فعل الياسري معي؟ وأسأل عمّن لديه الشجاعة على الإعتراف بكاتبة ترفضها دور النشر؟ وعمّن يطلب بتواضع جمّ من هذه الكاتبة المرفوضة مقدّمةً لكتابه؟ إنّ تواضع الياسري، الذي حملني إلى عالم ملائكي وساميّ، ما هو إلا رسالة أنقلها إلى كلّ القراء . إنّها رسالةٌ طموحُها السلام الداخليّ الذي به وحده ، نصل إلى السلام الخارجيّ الذي لا بدّ أن نسعى إليه جميعاً:
” لا أطلب من هذا العالم سوى بضع عصافير ٍ
متى أقترب منها لا تهرب فزعة ً” ديوان – أناديك ِ من مكان بعيد – .
2 – عيسى المسيح / عيسى الياسري :
أرى عيسى الياسري في رسائلنا المتبادلة.. كما ” عيسى المسيح ” الذي حمل الصليب فوق ظهره , وهو يدور في المراعي والحقول منادياً بالمحبّة والسلام. يقول في إحدى رسائله: ” أحياناً أتمنى لو أنّني وُلدتُ واحداً من الذين يسيئون لنعمة الحياة حتى لا يتألّم أحد من أجلي”. وفي رسالة أخرى يستخدم الياسري مفردات المسيح في شرحه مفهوم الإساءة والقداسة:” من قراءة قصائدي ستتعرّفين أكثر على هذا الكائن الذي نذر نفسه أنْ يظل بعيداً عن كلّ ما يسيء إلى نقاء هذا العالم وقداسته” .
ويتكرّر أسلوب المسيح ذاته في دعوته للتواضع:” أمّا أولئك الذين يرفعون رؤؤسهم عالياً فهم أشبه بالسنابل الفارغة من الحب” وسأذكر جملة أخرى، وأرجو من القارئ أن يلاحظ الكلمات المسيحية التالية :
” كسرة صغيرة، مجد، محبّة “، يقول عيسى الياسري : ” لقد اعتنق طريقانا من أجل أنْ نترك للعالم ولو كسرة صغيرة تعلّمه مجد المحبة، هو الذي يغرق الآن في محيط من الكراهية ”
يتحدّث الياسري عن الله بالمحبة المطلقة، شرح لي: “الله عندي هو المحبة المطلقة، زوّد لوحته الخالدة التي اسمها الانسان بكلّ ما تحتاج إليه من ألوان مدهشة وانسجام رائع بين مساقط الضوء وتوزيع الكتل وقياس المسافة بين كلّ ضربة فرشاة وأخرى..”.
ويضيف في المقطع ذاته بنبرة امتنان أبوية- بنوية: ” أنا أحبّه – يعني أحب الله – دون أن أواخذه على شيء. كان معي دائماً، يحبني ويرعاني وينزع الأشواك بيديه المباركتيْن عن طرقاتي التي أسلك. لقد منحني كنوزاً لا تقدّر بثمن .. لذا فأنا أحبّه حدّ ان أذوب في محبته..”
أمّا قصيدته الرائعة “الأطفال والغجر” فهي تكشف بقوّة عن المقاربة بين “العيسييْن” في دعوتهما للمحبة وعدم التفرقة بين الطبقات الإجتماعية. أحبّ أن أذكر مقطعاً صغيراً من هذه القصيدة لأهمّيتها مع أنّ ذلك يتعارض مع نيّتي باقتصار الإستعانة على رسائل الياسري الموجّهة لي. إنَّ النفحة العيسوية- الإنسانية في قصيدة “الأطفال والغجر” تكمن في مخاطبة الشاعر للأطفال , ودعوتهم للإقتراب من الغجر المنبوذين والمشرّدين:
“يا أيّها الأطفال ْ
عندما يجيء الغجر المشردّون مرّة أخرى
فلا تختبئوا وراء أمّهاتكم ْ
ورافقوهم ْ..
حيثما تمضي بهم خطاهم التي تجلدها الرّياح ْ
فربما ..
ما زال فوق هذي الأرض شبر دونما جراح ْ ” .
من قصائد مجموعة ” سماء جنوبية 1979 ”
وتصل دعوة المحبّة إلى ذروتها في المقطع التالي، عندما يعترف الطفل لأمّه بحبّه للغجر فتنهره :
” أمي إنّني أحبّهم ..
سيهربون فيك يا صغيريِ
ثم سيصنعون منك لعبة فلا أراك ” .
كم هو جميل عندما لا ننسى أنّ طريقة نظرتنا للآخرين ما هي إلا انعكاس لمدى احترامنا لإنسانيتنا!
3 – غيرة أدبية من ذنب حُرٍّ
تعرّض الياسري للتهميش من قبل السلطة الثقافية , ومن دارالنشر التابعة لها ,والتي طبعت جميع دواوينه الشعرية , لكن عندما نفدت الطبعات لم تبادر إلى إعادة طبعها ثانية , أسوة بما تفعله مع الشعراء المنضوين تحت مظلتها , وعن هذا الأمر يكتب لي بمرارة قائلا ً :”هل تدرين أنّ المكتبة العراقية تخلو من كتبي منذ ما يقرب من خمس عشرة سنة؟ الأجيال الجديدة لا تعرفني .. ليس بمقدوري أنْ أطبع كتبي .. لستُ أحد لصوص الأحزاب أو دجّالي الدّين أو جستابو السلطة. أنا درويش يحمل في زوادة سفره كتاباً ورغيف خبز وقربة ماء …”.
ليست المكتبات وحدها التي خلتْ رفوفُها من كتب الياسري، بل إنّ الجامعات نفسها حاربتْه، كتب لي مرّة معبّراً عن استنكاره: ” إنّ النظام الجامعي السابق قد أجهض رسالتيْ ماجستير قدّمتا عن تجربتي الشعرية لجامعتيْ بغداد والمستنصرية “.
الياسري يعي بالتأكيد سبب محاربته من قِبل السلطة، فهو يأبى أنْ يتحوّل إلى عبدٍ لأيّ نظام سياسي، كتب لي معترفاً بذنبه الحرّ :” أنا أدفع فاتورة كوني ولدتُ حرّاً وعشتُ حرّاً .. ليستْ لي
أيّة أطماع في السلطة أو الثروة، وكان بمقدوري أنْ أحصل عليهما بسهولة.. ثمّ إنّني حتى لا أجيد الدعاية لنفسي ولا أدري كيف تحقّقت لي بعض النجاحات البسيطة ..”.
أمّا عندما سمحت الجامعات أخيراً لباحثة في جامعة القادسية في العراق تقدمت لنيل رسالة الماجستير في شعره،وهي الباحثة ” آلاء محسن ” وكانت تحت عنوان شعر عيسى حسن الياسري- دراسة فنّية ، كتب الياسري بتسامح كليّ لكلّ من رفضه سابقاً: ” إنّني أرى نفسي دائماً أقلّ من الآخرين، لكنّ بعض من يقرأونني بمحبّة يتعصّبون لي بطريقة لا أستحقّها”.
لكنّه يعقّب بعد ذلك بكلام منصف بحقّ أعدائه ومحبّيه : ” وهناك من لا يقرأونني أصلاً ويهاجمونني بطريقة لا أستحقّها أيضاً .. يُقال أنّ هذا يعني النجاح ..أنا لا أعرف .. إنّهم يريدون إلغائي .. لكنّ المحّبين يعملون بشجاعة من أجل ألا أكون موغلاً في الغياب ”
4 – جائزة عالمية وتهميش عربي :
……………………..
حاز الياسري على جائزة ” الكلمة الحرّة العالمية ” في ” هولندا – روتردام “، بينما انشغل بعض أدباء بلده , وحتى الأدباء العرب في التقليل من شأن نجاحه، كتب لي بمرارة : ” عندما حصلتُ على جائزة الكلمة الحرة العالمية كتب أحد حسني النية “إنّ هذه الجوائز المشبوهة تُمنح للذين يساومون على بلدانهم “، فردّ عليه صديق مخلص :” إنّ أحد الذين حصلوا على هذه الجائزة هو شاعر اسبانيا الخالد ” رافائيل ألبرتي ” وهو أحد الثائرين على دكتاتورية فرانكو.. وكان شيوعيا ً وحائزا ً على جائزة لينين ” .
كُرّم عيسى حسن الياسري إذاً، في بلاد أجنبية ,ولم ينل أي تكريم ٍ في بلاده العربية. وكانت الشاعرة والناقدة الإسترالية ” آن فير بيرن ” من هؤلاء المعجبين بنتاج الياسري وواحدة من المهتمّين بشعره، حتى أنّها قالت عنه أنّه ” يوجّه رسائل مشفّرة تحمل السلام والحب والصداقة لكلّ العالم”. أقامتْ هذه الشاعرة ، في منتصف الثمانينات، أمسية شعرية تحيّة للياسري وطلبت من بعض المترجمين التعاون معها بترجمة نتاجه. رُفض طلبها، كما هو متوقّع،ولكن أستاذه الداعم له أبدا ًوالذي يعتبره ابا ً روحيا ً “الاستاذ الدكتور عبد الواحد محمد ” تعاون معها في هذا الأمر ، واعترف الشاعر أنّ العروبة التي تجمعه بأخوته العرب هي سبب تجاهلهم له، فكتب لي متألّما ً:
” انشغلتْ الصحافة العربية والإعلام الثقافي في أحد المهرجانات الشعرية التي أقيمت في بلد عربي بشاعر أجنبي دعي للمهرجان ..وكان حائزا ً على ذات الجائزة التي حصلت أنا عليها (…) وكأنّ “عيسى حسن الياسري” لا يحمل هذه الجائزة فلم توجه له حتى دعوة للحضور ” .
وأنا أقول لعيسى .. نعم أنت لا تحملها ياعيسى .. لأنّك مع الأسف “عربي “.
سأتابع منهجية الإستقامة في تعليقي هنا أيضاً، وأعتذر مسبقاً من غلاظة استقامتي ثمّ أقول: بصراحة، إنّ العرب يفضلّون الصناعة الفكرية الأجنيبة على كلّ صناعة فكرية محلّية. هذه هي الحقيقة التي يعاني مبدعونا من مرارَتِها…
5 – طلاسم الشعر الحديث :
………………..
عبّرتُ للياسري، في عدّة رسائل، عن امتناني له بسبب عودتي لقراءة وكتابة الشعر من خلال اكتشافي لوضوح قصائده. صراحة، كنتُ أكتب الشعر منذ طفولتي، لكنّني توقّفتُ عن كتابته وأنا أقرأ طلاسم الشعر الحديث , فظننتُ أنّني لا أكتب الشعر صحيحاً , وأنّ ما أقرأه من ألغاز في الشعر الحديث هو الصحيح. سألتُه مرّة، عن الفرق بين نوعية قصائده وطلاسم قصائد الآخرين الحديثة، فأجابني عن مفهوم الحداثة من وجهة نظر البعض ومن وجهة نظره : ” أنّ الحداثة لا تعني أبداً أنْ تكون غير مفهوم ٍمن الآخرين وأن تتعكّز على اللعبة اللغوية , وإنّما أنْ يكون نتاجك حيّاً ومعتنقاً مع الحاضر مهما كان النتاج موغلاً في القِدم وهذا لا يتحقّق إلا عبر التكامل الفنيّ والتجربيّ”.
أمّا عن رأيه بالنقّاد، فهو يلوم كلّ ناقد يتعالى عن الموضوعية ويلجأ إلى مبدأ انتقائية اسم الشاعر وهويّته وشهرته قبل تقييم شعره .
ويضيف في مكان آخر متناولاً افتقار بعض النقّاد إلى الموضوعية: ” إنّ تحليلات بعض نقادنا لا تستند مع الأسف إلى كشف ذاتيّ معرفي .. بقدر ما تأخذ من الآخر كشوفاته النقدية .. وتفرضها على إنتاج إبداعي مختلف له قوانينه وحاضنته البيئية والاجتماعية الخاصة “.
6 – الإنتماء للوطن وللأرض :
……………………
الإنتماء ” للعراق ” واضح في نظر الياسري. لا أظنّ أنّ هناك أروع من وصف حالة الشلل النفسيّ التي وصف الشاعر بها نفسه عند سماعه زخّات الرصاص الوحشيّ مع دويّ انفجار السيارات المفخّخة التي تحصد الأبرياء وتستثني البرابرة المحتلّين في العراق : ” تطلبين منّي أن أكتب رواية ثانية؟ في هذه المرحلة تتجمّد الكلمات على الشفة تماماً كما يتجمّد الدعاء حين تحضر لحظة النزع الاخير”، ويكمل لي بمرارة:” أحتاج إلى المزيد من الوقت حتى أستوعب المشهد الأكثر سريالية من الكابوس”.
مع هذا، إنّ الإنتماء الوطني لدى الشاعر ما هو إلا إيمان بالوطن ككلّ.. كتب لي مرّة معبّراً عن تبرّئه من كلّ تعصّب مذهبيّ :” الإنتماء للوطن أكبر عندي من أيّ انتماء دينيّ أو مذهبيّ”.
هذا، وكان قد كتب لي بعد استماعه لبكائي بسبب الحرب في لبنان وتهجير أهلي وضياع أخوتي في طريق هروبهم من منازلهم إلى المجهول : ” لو لم يكنْ لنا نفس الطوفان من المحبّة والعشق الجنونيّ لوطنيْنا لما اشتركنا في هذا الحزن الذي يعصف بآخر كسرة حلمٍ نحاول أنْ نخبّئها ما بين الجفن والجفن حتى لا تنتزعه منّا حرائق الأهل “.
ثمّ في رسالة أخرى كتب عن الأرض وعلاقته المقدّسة بها : ” لقد انتهتْ عبادة الأرض والجمال والمحبة وقداسة الحياة الإنسانية وكلّ القيم النبيلة التي أحرقنا من أجلها أجمل أيام العمر ..”
ويكمل جملته محدّداً هويّات المخرّبين وقتلة القيم الإنسانية :” لقد حلّت محلّها عبادة قتلةٍ بزيّ معمّمين أو جنرالات باعوا شرف بزّاتهم العسكرية للمحتلّين أو لصوص يعتمرون أردية السياسة .. إنّهم يقتلون قداسة الأديان ونقاءها والأحلام التي تحاول صناعة أوطان تليق بعناق العصر..”
ولكنّ انتماء الشاعر لوطنه ما هو إلا جزء صغير من إنتمائه الإنساني بأبعاده الحاضنة لكلّ البشر بمختلف انتماءاتهم القومية والوطنية والإيديولوجية والدينية والطائفية. إنّ عذاب أيّ إنسان في هذا العالم يطاله مباشرة وبشكل آلام مبرحة في كلّ أنحاء جسده :” أنا أنتمي لكلّ أحزان العالم يا فاطمة ..العالم بالنسبة لي مثل جسدي عندما يتألّم جزء منه أشعر أنّ مرارة الألم ترشح من كلّ مساماته..”
إنّ الإنتماء للوطن والأرض لا هوّية لهما. من قال أنّ عصر القديسين قد انتهى؟ بالعكس، يمكن لكلّ واحد منّا أن يسمو بروحه ودينه وإنسانيّته ليصنع من نفسه قدّيساً بشرياً. المهمّ أن نكون صادقين مع أنفسنا أوّلاً …
7 – ذاكرة ممتنّة للماضي :
…………………..
للياسري ذاكرة ممتنة لكلّ الماضي الذي مرّ عليه، وذاكرته قادرة على نقل دقائق تفاصيل هذا الماضي. وما طفولته بين أحضان والديه الحنونيْن في بيئته القروية الوديعة، إلا السبب المباشر في “مناعته المكتسبة” ضدّ ما سيتعرّض له لاحقاً من صعوبات، فالياسري بقي محبّاً للحياة حتى في ذروة قسوتها: “الحياة جميلة وفاتنة وحنونة. الحياة في أكثر حالاتها قسوة تظلّ رحيمة معنا”. ويقول في رسالة أخرى معبّراً عن عشقه للحياة :” كم هي مسكينة الحياة حين ننعتُها بكلّ ما في قواميس لغتنا من صفات رديئة”.
لا يكتفِ الياسري بمواجهة صعوبات الحياة بشجاعة، بل هو يستعدّ لقدوم المنيّة بطمأنينة نادرة. يرى الشاعرُ الموتَ يدنو منه.. لكنّه لا يرتجف ولا يهلع من لحظة اللقاء به : ” والآن ترسو السفينة عند الشاطئ وبكلّ هدوء ومن دون أنْ نرتجف هلعاً ننتظر نداء الربّان ونشر الأشرعة”.
أمّا عن البيئة القروية التي بقيتْ في ذاكرة الياسري، تقابلها اليوم المدنيّة التي لا تشبه الأيّام الماضية بشيء، لا بأبنيتها ولا بسكّانها فيكتب لي متأسّفاً: ” لم يعدْ للقرية وجود إلاّ في مخيّلتنا نحن الذين عشنا أيّام براءتها وعذريتها الأولى.
في العام 1982 حاولتُ العودة إلى قريتي والسكن فيها بعد أن سئمتُ حياة المدينة….، لكنْ وخلال تردّدي على بناء البيت وجدتُ أنّ إنسان قريتي قد انقرض تماماً ، وأنّ الناس الذين كنتُ أعرف طيبتهم وبساطتهم بالأمس لم يتبقّ منهم سوى ملامح لم أتعرّف عليها إلاّ بصعوبة. كنتُ أشعر أنّهم غرباء عنّي وأنا غريب عنهم . لذا ولكي لا أخسر عوالم قريتي الأولى المشكّلة على هيأة حلم طفولي فقد بعتُ البيت بثمن زهيد وعدتُ إلى بغداد”.
8 – الأم .. وطفل لم يبلغ سنّ الرشد :
………………………..
يتذكّر الياسري ” أمّه ” باستمرار، ولا أظنّ أنّ هناك أجمل ممّا كتبه عن أمّه وحنانها، وصوتها وشِعرها :
” أمّي شاعرة فطرية – تمتلك صوتاً لا شبيه لعذوبته – في ليالي الصيف الراكدة الهواء تُمسكُ مروحتها اليدوية المصنوعة من خوص النخيل – وتظلّ تحركها طول الليل لتطرد عنّا الحرّ والبعوض وكانت تردّد ترنيماتها بصوتها الشجيّ”.
ومن فرط تعلّقه بأمّه اكتسب الياسري عاطفتها القويّة :
” لشدّة تعلّقي بوالدتي اكتسبتُ صفات كثيرة أهمّها العاطفة المتطرّفة “.
يتذكّر الياسري حنان أمّه وعطفها، خصوصاً عند مرضه. كتب لي ترنيمة أمّه بلهجتها العراقية ولم ينسَ شرحها لي. يقول الياسري عن أمّه:
” كنتُ عندما أمرض وكثيراً ما أمرض، تردّد هذه الترنيمة وهي تحتضنني :
” سالم يمن خيرك المرتك دير الالم لمك ولختك ْ ” أي إعطِ الألم إلى أمّك وأختك”.
ويتذكّر عبارات أمّه الجميلة والمحرِقة عندما تشتاق إليه وهو بعيد عنها في المنفى :
” بردي اوكصب بيني اوبينك حسدت الطروش اليوصلونك
اوعنت على شوفت اعيونك ْ ” عيسى يمه .
أي أن ّ هناك طريقا ً صعبا ومليئا ً بالبردي والقصب يفصل بيني وبينك لذا فأنا أحسد المسافرين الذين يصلون اليك لصعوبة الطريق .. فقد اشتقت لرؤية عينيك”.
بعد أن كتب لي الياسري قصيدة أمّه هذه اعتذر منّي لبكائه وعدم قدرته على إكمال الرسالة : “فاطمة، كان بودّي أن أكتب لكِ أكثر لكنّني لا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء ..”.
يبدو جلّياً تعلّق الياسري الكبير بوالدته وإنّني أردّ “طفولته المزمنة” إلى هذه العلاقة الطيّبة بأمّه بالرغم من تعاقبْ السنوات على عمره وجسده من دون توقّف، لكنْ أبداً على روحه، فهو طفلٌ في كتاباته ودعاباته ومشاكساته التي سأعود إليها لاحقاً تحت عنوان” فكاهات الياسري”. يقسم لي الياسري بطريقة طفولية مضحكة :” أنا طفل، والله فاطمة أنا طفل، وحتى الآن لم أبلغ سنّ الرشد”، كما وكتب لي في مكان آخر : ” مهما بلغ بنا العمر .. نبقى أطفالاً نحتمي بصدر الأم وعباءة الأب ومشاكسة الأخوة الحنونة “.
وفي مكان آخر من رسائل لاحقة يكتب لي الياسري، بطفولة مطلقة، عن نفسه وهو صغير عندما كان يركض بين الحقول والمراعي تحت المطر: ” حين كنت صغيراً أعدو فوق مخمل الحقول والمراعي، تداهمني عاصفة محمّلة بالريح والمطر سيّما في فصل الربيع – الأطفال الذين معي كانوا يخبّئون أنفسهم بين السواقي أو يحتمون برفوف السنابل العالية – وحدي من يحاول أن يركض بمواجهة العاصفة وكثيراً ما كانت الريح تدفعني للوراء – أو تسقطني في غدير من الماء – وعندما تحضر أمّي باحثة عنّي أكون قد ابتللتُ وتلوّثتْ ثيابي بالطين فتعنّفني وهي تضمّني تحت عباءتها الصوفية قائلة :
” أيّة جنّية تلبّستك وجعلتْك تحبّ كلّ ما يؤذيك؟ “.
9 – الجدّة .. مسلسل من الحكايا :
………………………..
أمّا جدّة الياسري فتحتل أيضاً مكاناً خاصاً في ذاكرة الشاعر، فهي من دون شكّ مصدر من مصادر جموح خياله:
” كنتُ أنام إلى جانب جدّتي لوالدي، على سرير خشبي في الشتاء وأطلبُ منها أنْ تحكي لي واحدة من قصصها الخرافية. أمّا في الصيف فننام خارج الأكواخ على سرير من الطين نسمّيه- منام – وكالعادة فإنّها لا تنام إلا بعد أنْ تسمعني عدداً من حكاياتها التي لا تنضب”.
ولا ينسى الشاعر أن يسرد لي تفاصيل حكايات جدّته :
“كانت قصصها تتحدّث عن الجنّيات والنساء الساحرات، والصبايا اللواتي يختطفهنّ النسرُ ويضعهنّ في قصر من البلور بأبواب مغلقة. أو تحدّثني عن الحيوانات والأشجار التي تتكلّم، كانت تقول لي أنّ كلّ شيء كان يتكلّم في الماضي حتى الحجارة، وكنت أصدّق هذا… كانتْ جدتي تقول لي أنّ الأشجار تتألّم عندما نكسر أحد أغصانها مثلنا وتظل تئنّ وتبكي حتى يحضر من يعالج لها جراحها. وتحدّثني عن الشجرة التي تزوّجت النهر وهي حكاية تحمل شفرة ترميزية مدهشة…”
ما هو مصير الشاعر الصغير بعد انتهاء جدّته من سرد حكاياتها؟:” بعد أن تنتهي ( الجدّة) من قصصها في ليالي الشتاء وتستسلم إلى النعاس أظلّ أنا مستيقظاً أصغي إلى صوت الريح. أو المطر. أو صوت الساقية التي تحمل الماء إلى الحقول”.
10- نساء القرية راويات أيضاً :
……………………….
والضيفات الزائرات لهنّ أيضاً منزلة مهمّة في ذاكرة الشاعر مع قصصهنَّ عن عالم الجنّ والعفاريت والقصص العجيبة والتي بالتأكيد أثّرتْ وأثْرتْ في تكوين مواضيع قصائده. كتب الياسري عن هؤلاء الضيفات بطريقة مرِحة :
” كانت لنا قريبات مسنّات كثيرات يحللنَ ضيفات علينا في موسم حصاد القمح، وبعد أن يتناولن العشاء في الباحة التي يحيط بها كوخ أبي وجدّتي وكوخا عميّ, وهي باحة واسعة ومفتوحة للرياح , ومن فوقها يتلألأ حقل من النجوم , وربما قمر مكتمل، أطلب منهنّ أن يروين لي حكايات ضاحكة , أو قصصا ً خيالية , وكنّ يتفنّن في تلبية طلباتي – كنت طفلاً مدلّلاً – لكنْهن يشترطن عليّ أن أشتري لهنّ تبغاً من العطّار الذي نقايضه بالقمح أو الشعير ”

أيّ سعادة هذه التي عشتَها أيّها الشاعر في أحضان الطبيعة وحنان الأم واهتمام القريبات؟ إنّ أولادنا اليوم لا يعرفون إلا متع الشاشات والألعاب الإلكترونية في غرف صغيرة وإضاءات اصطناعية. هل يحقّ لي أن أدعو من هنا، إلى عودتنا نحو أحضان الطبيعة , حتى نتطبّع بعناصرها الطيّبة فنكتسب صفات التراب والماء والهواء والنار , وتتّزن شخصياتنا باكتمال هذه العناصر فينا؟.
11- صورة الأب في جيب الإبن :
………………………………
يتذكّر الياسري والده، العالِم الجليل، بعاطفة لا تقلّ عن عاطفته تجاه أمّه. يسرد في إحدى رسائله أنّ والده تيتّم وهو في الثالثة من عمره بعد أن اغتيل والده فرعاه جدّه , وأرسله إلى النجف الأشرف حتى وصل إلى درجة الإجتهاد، كتب الياسري لي عن والده: ( رفض والدي أن يضع العمامة على رأسه .. وكان يردّد دائماً بيت الشعر الذي يقول :
” ولكنّ دينا قد أردت ُ صلاحه مخافة أن تقضي عليه العمائمُ ”
ينظر الياسري إلى والده بعين الوفاء، كما ويتحدّث عنه بنفحة الرثاء :
” في العام 1987 رحل أستاذي وصديقي والشجرة التي أستظل بها كلّما اشتدت الظهيرة. رحل والدي تاركاً لي كما هائلاً من اليتم ما زلتُ أحمله حتى اللحظة”.
وفي رسالة متأخّرة كتب لي الياسري عن وفاة والده بتفاصيل أدقّ: ” آخر عيد ضحكتُ فيه عيد العام ١٩٨٧، صبيحة عيد رمضان٢٩-٥- ١٩٨٧ دخلتُ بيت أستاذي وأبي وصديقي – حسن الياسري – وجدتُه يمسك وكعادته كلّ صباح مبكر بأنبوب المطّاط ويرشّ أشجار الإجاص وغيرها من الأشجار المزهرة في حديقة الدار وهو يردّد بيت الشعر التالي:
وإذا المنيّة أنشبتْ أظفارها ألفيتَ كلّ تميمة لا تنفع ُ
قبّلت وجهه ويده وهنّأتُه بالعيد , وسألته عن سبب ترديده لهذا البيت الشعري الحزين في يوم العيد فأجابني أنه جاء عفو الخاطر. بدأتْ العائلة تتوافد على البيت الكبير، بيت أبي، كعادتها لتهنئته ولتناول طعام الغداء معاً. بعد الغداء بدأ الكثير بالإنصراف، كان أبي يحتسي الشاي فرأيتُ يده وقد بدأتْ ترتجف، تناولتُ منه قدح الشاي , ثم أخذ جسده كلّه يهتزّ وعيناه تدوران، وبسرعة حملناه في سيارة أخي إلى المستشفى وعند الفجر غادر الحياة”.
وعن العيد بعد رحيل والده، كتب الشاعر بصوتٍ حزين :
” منذ رحيله حتى اللحظة أفتتح يوم العيد بالبكاء، وفي الأيام العادية لا أنام إلا بعد أن أقف أمام صورته وأقول له تصبح على خير يا أبتي، وعندما أستيقظ أصبّحه بالخير كما لو كان حياً – لقد إنطفأ فرح العيد – إنّ رحيل الكبار يحدث شرخاً لا سبيل إلى إصلاحه”.
يحمل الياسري صورة والده أينما ترحّل كطفل لن يخرج من يتمه أبداً:
“أقف أمام صورته التي أحملها معي دائماً…”
أمّا عيد هذي الأيام فصار من دون رونق بعيداً عن رفقة والده، لهذا يعود الياسري مضطراً بذاكرته إلى طفولته ليجدّد أجواء الأعياد في حاضره:
” كلّ عيد أعود إلى طفولتي. أنا مازلتُ … أعيش العيد بالعودة إلى الطفولة”.
في تلك الطفولة يرى الياسري نفسه طفلاً صغيراً على صهوة فرس والده :
” في الأيام التالية يأخذني والدي معه على فرسه – الصقلاوية – لنردّ زيارة المهنئين”.
ومن الجميل أن أسرد أجواء العيد المميّزة في الماضي :
” كنتُ أطيل النظر إلى كفيّ المضمّختيْن بالحناء، وحتى اللحظة أتمنى لو أنّني أضع فيهما الحناء، كما كنتُ أملأ جيوبي بالمعمول ونسميه – الكليجة – والذي تصنعه كفا أمّي المباركتان ويتم إنضاجه في نار التنّور “.
12 – قمْ للمعلّم وَفِهِ التبجيلا
يوجّه الياسري عرفان الجميل إلى معلمّيه في المدرسة وأساتذته في العمل لاحقاً :
” لبعض الأساتذة فضل علينا يمتدّ إلى آخر العمر، ويتحوّلون إلى آباء روحيين فعلاً “.
يذكر الياسري اعترافه بفضل أستاذ مادة اللغة العربية في الصف الأوّل متوسط:” أذكر أنّني كنتُ في الصفّ الأوّل المتوسط، كنّا في بداية العام الدراسي .. أعطانا أستاذ اللغة العربية واسمه – وداد جمال – موضوعاً في الإنشاء عنوانُه – كيف قضيتَ العطلة الصيفية ؟ – كان موضوعاً تقليدياً عادياً ولكنّني حوّلته إلى نصّ أقرب إلى الشعر منه إلى النثر وقد أعطاني الأستاذ درجة كاملة وكتب لي ملاحظة يقول فيها ” كتابتك تبشّر بمستقبل أدبي باهر إقرأ كثيراً تستفدّ ” لقد دفعتْني هذه الملاحظة إلى مضاعفة قراءاتي ..وشجّعتني على الكتابة .. .
يتابع الشاعر بتواضعٍ كبير:”صحيح أنّني لم أحقّق كلّ ما حلم به أستاذي لي إلا أنّني لم أخذله تماماً , فربما حقّقت شيئاً متواضعاً ممّا حلم به لي ذلك الأستاذ الجليل …”.
ويكمل الشاعر في رسالته: “ولكنّ الأستاذ الأكثر رعاية لي في دار المعلمّين هو مدرّس اللغة الإنكليزية وهو الأستاذ الدكتور ” عبد الواحد محمد ” الذي شجّعني كثيراً عندما أصبح أستاذاً للغة الانكليزية في كلّية اللغات .. عندها عدتُ لأجلس على رحلته ثانية حيث تعاون مع الشاعرة الاسترالية ( آن فير بيرن ) في ترجمة أكثر من ثلاثين قصيدة لي إلى اللغة الإنكليزية… وكذلك رعاني مدرس اللغة العربية في الدار الأستاذ – عزيز ياسين – ” .
ويخصّ الشاعر الراحل ” غازي القصيبي ” بالذكر: “غازي القصيبي، كان هذا الأستاذ رحمه الله صديقاً لي . وقد عرفته بعد ان اخبرتني ” آن ” أنه هو الذي رشح قصيدتي – نوقظك الليلة بالورد – للترجمة حيث تعاون مع الشاعرة – آن فيربيرن – في ترجمتها وظهرت في موسوعة – الريشات والأفق – وكتب عن ديواني – صمت الأكواخ – مقالة مؤثرة مع الأسف لم أحصل عليها , وقد استشهد الدكتور محمد جاسم العبودي بمقطع منها في موضوع نشره في جريدة الزمان اللندنية بعنوان – قلائد على صدر مدينة منسية – ” .
أيّها الصديق النادر بوفائه، إنّك التلميذ الوفيّ الذي أصبح أستاذاً للكثيرين ليس بمدرستك الشعرية فحسب، وإنّما أيضاً بأخلاقك وروحك النبيلة، واعترافك بجميل من أحسنوا إليكَ. علّك تكون عبرة لكلّ مغرور يظنّ أنّ لا ماضي قبله ولا مستقبل بعده.
13 – جميلات الشاعر :
……………………
للغزل أمكنة وزوايا مشرقة في رسائل الياسري , وهو يتحدّث عن نساء كندا الجميلات. ومن يمجّد الجسد هو بالتأكيد مقدّر لجمال حديقة الجسد: “أنا مثلكِ .. أمجّد الجسد، إنّه حديقة الروح، فعلى أيّ زهرة تحطّ الروح عندما تذوي أزهار حديقتها …؟ ”
والتغزّل بالجميلات هواية لدى الشاعر كما هي ممارسة القراءة والكتابة والرياضة :
” رغم كلّ شيء أواصل القراءة والكتابة ورياضتي الصباحية ومغازلة النساء الجميلات وإلا كيف تريدينني أن أواصل الحياة بدون هواياتي الجميلة هذه…؟ ”
وكنتُ قد سألته مازحة في رسالة سابقة عن ذنب القبيحات بعدم تغزلّه بهنّ، فردّ عليّ معرّفاً نظرته للمرأة وجمالها :
” عندما أقول النساء الجميلات لا أقصد الجميلات جسداً .. تماثيل النساء الإغريقيات هنّ الأكثر جمالاً , ولكنّه جمال من الرخام , قد يدهشنا قليلاً ثم ينتهي كلّ شيء ..لا توجد امرأة قبيحة. لكلّ امرأة تكوينها الجمالي المدهش الذي لا نكتشفه إلا عندما نتأمّله بقلوبنا. أليس كذلك …؟ ” .
14- فكاهات الياسري :
………………….
أحبّ أن أختم هذه الحقول بحقل يتّسع لأمثلة مرِحة تعكسْ روح الدعابة لدى صديقي الطفل الكبير الذي ما عاد صغيراً ولم يكبر بعد.
في إحدى رسائله لي، كتب الياسري عن طقس مونتريال البارد في فصل شتائها القارس، وسأترك النكتة مفاجأة بين السطور :
” منذ ثلاثة أيام لم أغادر البيت لتكدّس الثلوج في الطرقات , وغلق الكثير من الشوارع – منذ شهر لم نرَ الشمس – ذات يوم كنت أجلس خلف شابتيْن جميلتيْن في الباص كانتا تشكوان عدم إشراقة الشمس على مونتريال كلّ هذا الوقت – وضعتُ رأسي بينهما وقلتُ لهما – مونتريال ليست بحاجة إلى الشمس – أنتما شمس مونتريال – صاحتا بأعلى صوتيْهما – أوه شكراً أنتَ تتكلّم الشعر – أنا مرّات أكون وكيح .. هههه..”
وفي رسالة أخرى كتب لي: ” هههه – هل أخبركِ لماذا تأخّرت عن متعة الكتابة لكِ؟ اعتدتُ كلّ يوم وفي الواحدة ظهراً أن أذهب سيراً على الأقدام إلى مكتبة ” الكودنج مقابل سوق البلازا “. بعد تكدّس الثلوج في الشوارع طلبتْ منّي ابنتاي أنْ أستقلّ الباص عندما أذهب إلى المكتبة خوفاً عليّ من الإنزلاق – التزمتُ بالتعليمات يوميْن أو ثلاثة – وكعادتي في المشاكسة – خرجتُ مستغلاًّ غيابهما… ومضيتُ إلى المكتبة سيراً – وفي منتصف الطريق وجدتُني أرتفع عالياً لأعود وأجلس متربّعاً على الأرض. وكانت أوّل يد تمتدّ لي وتنهضني يد امرأة – سألتني إنْ كنتُ بخير أو تطلب لي الإسعاف، شكرتُها – وقلتُ لها ممازحاً – أنّني بخير.. وأودّ أنْ أنزلق يومياً شرط أنْ تنهضيني أنتِ – ضحكتْ وتمنّت لي السلامة ” .
**
مضطرة، هنا، للتوقّف عن حديثي المتعلّق بصديقي عيسى حسن الياسري. بودّي لو أتحدّث عن حقول أخرى رسمها الشاعر في بريدي وما زال يزرع فيها شتلات افكاره، لكنّني أعلم أنّ أصدقاءً آخرين ينتظرون دورهم للكتابة .. وعليّ الآن أن أتنحّى جانباً وأكمل معكم قراءة بقيّة هذا الكتاب.
——————————————————————————————–

هوامش :

* بدأتْ مراسلاتنا منذ 8 كانون الأول 2005 حتى تاريخ كتابة هذه السطور في 20 – 10 – 2011. وما زالت مستمرة .
** “حلال سكرنا” مقالة شعرية كتبتُها مباشرة بعد لقائنا الوحيد خلال الندوة الأدبية التي ذكرتُها آنفاً .
*** قصيدة “بريد شاعر” هي قصيدة كتبتُها للياسري في 25 تشرين الأول 2006 بعد انقطاع رسائله عنّي فجأة وقبل أن يرسل لي رسالة خطيّة يشرح لي فيها أن ّ تعطّل حاسوبه،كان السبب في توقّف رسائله.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *