د. حسين سرمك حسن : عيسى حسن الياسري (كشجاع صرعته الحرب وتركه المنسحبون وحيدا ..) (ملف/1)

hussein 5إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تحتفي بالشاعر الكبير “عيسى حسن الياسري” بهذا الملف الذي – على عادة الموقع – سوف يستمر لحلقات كثيرة لأن الإبداع الفذّ لا يحدّه زمن . لقد وضع عيسى الياسري بصمته الشعرية الفريدة على خارطة الشعر العربي والعالمي . نتمنى على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراء هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تحتفي بمنجز هذا المبدع الفذّ وتوثّق حياته الشخصية والشعرية الحافلة بالمنجزات والتحوّلات الإبداعية الثرة.

المقالة* : 
( ربّيت يا أم عيسى مثل من حملت
في كفها الماء
أو في عينها الإبرُ
تسرّب الماء إن فكت أصابعها
وإن تحرّك جفناها
شكا البصرُ ……… )
( عيسى حسن الياسري )

( إستطلاع تمهيدي )

( في باحتها الواسعة يتمدّد جذع هرم كشجاع صرعته الحرب ونساه المنسحبون وحيدا ) .
( عيسى حسن الياسري )

وأنا ماض في استكمال مخطوطة كتابي : ” أدب الغربة والاغتراب في الشعر العراقي المعاصر ” والتي تتضخم يوما بعد آخر ، حصلت على المجموعة الشعرية الأخيرة للشاعر العراقي المبدع ” عيسى حسن الياسري ” : ” أناديكِ من مكان بعيد ” – دار سنابل – القاهرة – 2008 – . ومن العنوان تتسيّد موضوعة الغربة حيث يطلق الشاعر نداءاته الشعرية الملتهبة من مكان ناء .. مكان المنافي البعيدة حيث انخلع الياسري من تربة ” أبو بشوت ” في العمارة ورمي بعيدا .. بعيدا في آخر الدنيا حيث الوحدة والوحشة والعذابات واستحالة اللقاء المادية بالأحبة المخذولين إلا بنداءات الروح الممزقة التي يطلقها من ” هناك ” .. aisa hasan alyasiri” هناك ” الخيبة ليتكفل بها مركب الشعر السحري القادر على طي مسافات الأزمان وخرق حركة الأكوان . والخطاب – في العنوان – موجّه إلى أنثى غير محدّدة الهوية ، وفي العادة تشتعل انفعالات الرغبة في العودة إلى الفردوس الأول / الرحم الأمومي ( راجع القصيدة الخلاصة : يا أمّ عيسى – ص 89 ) .. إلى هناءاته وسعاداته رائعة الصيت ، وتكمن هذه الرغبة بمكر في أحشاء حتى النداءات الموجهة إلى الحبيبة أو الأخت مثلا وكما سنرى ذلك . إن الغربة تمثل في حقيقتها انخلاعا من تربة الوطن الأم ( ولاحظ وصف الأم ) ، و بدءا لمحاولة جحيمية في نسج شبكة علاقات مع أم جديدة .. دخيلة بطابعها .. قسرية المحبة مهما حاولنا عقلنة مسببات الولاء الجديد وحيثياته ، ودوافع الإنهجار من الوطن القديم (مثلا وطني لم يقدم لي خمس ما قدمته لي السويد كما يقول بعض المهاجرين الذين ينطبق عليهم الشعار الشعري الرائع الذي رفعه الراحل “محمد الماغوط ” : وطني جيوبي ، ومدينتي حذائي ) . الياسري خلاف هؤلاء ، يستقر في منفى يوفر له كل شيء فتنهض من رماد أعماقه عنقاء الحنين المتجددة المميتة ( راجع مثلا قصائد : ذاكرة ما كان التي هي من أمهات القصائد في هذا المجال ، ربيع أبو ابشوت ، زيارة الخالة حليمة ، القبّرات ، أمطار أولى ، أطفال بلادي .. وغيرها ) . وهذه العنقاء كلما تجددت في حركة شوق عاصف ، كلما سبّبت للشاعر نوبة فناء كاسحة ، فمقابل انطلاقة عنقاء الأشواق المتجددة هناك موت الشاعر المتكرر . ولا يظنن أحد أن في ميتات الشاعر منفعة خلودية عضوية ، هناك نهوض لآليات نفسية دفاعية تتكفل بها ألعاب الشعر الورقية تحاول مداراة انجراحات الشاعر في كونه ليس عصيا عن الفناء ، ولكن في الواقع الفعلي فإن وجود الشاعر المادي ، صحته وسلامة أعصابه وتماسكه النفسي وسنوات عمره ، تتآكل مع كل قصيدة تشتعل بنوبات الحنين . وهكذا تهالكت صحة عيسى حسن الياسري كما نعلم ، وقرضت قواه أسنان الغربة اللبنية لكن المسمومة رغم أن المنفى وفّر له ما عجز أن يقدمه له أبو بشوت أو العمارة أو العراق عموما ، هو – أي عيسى – كاتب العرائض الذي كنا نراه أمام محكمة الأعظمية محاطا بالنساء المثكولات اللائي لن يجدن مثيلا له في التعبير عن محنهن وفواجعهن التي لا نهاية لها .. والشعراء يتبعهم المثكولون ، وأمام أبواب المحاكم يهيمون : غلاف عيسى الياسري( للسماء التي ما عادت زرقاء وصافية .. لكتّاب – العرائض – .. وهم يختصمون .. وسريعا ما تغمرهم الإلفة .. كأطفال لطفاء .. لطاولته .. بقوائمها المرتعشة كأصابع شيخ – مفلوج – .. وللكرسي الذي جعله هرما .. ومحني الظهر – قصيدة مدّخرات – ص 98 ) . وحين قلت أن خطاب العنوان ” أناديكِ … ” موجّه إلى الأنثى الأصل : الأم ، ومرجعيتها المختزنة في لاشعور كل منا ، حتى لو كان النداء موجها إلى الأخت أو الحبيبة أو البنت ، لأن مشاعر الإنقاذ لا تتحق – كما ترسخت في لاوعينا منذ طفولتنا المبكرة – إلا علي يدي الأم الحانيتين – والأم العشتارية هي الإله المنقذ أسطوريا وليس دموزي – . وفي حياة المنافي يوضع اللاجيء أو المنفي أو المهاجر في وضع نكوص نفسي صارخ وكأنه طفل صغير يتعلم المشي ، حيث يعود إلى تعلم حتى اللغة من جديد ، ويكون عاريا في مواجهة ضغوط الحياة الجديدة ، ولا تحضر هنا سوى صورة الأم الحامية المنقذة مقابل الأم الميدوزية الخاصية أو الملتهمة . ولذلك تتشكل المضامين الدفينة في نداءات استغاثة الشاعر على أساس الإنقاذ والحماية والمسرات التي يقدمها الرحم الفردوسي الأول والأخير . يتأكد ذلك في قصيدة الإهداء الموجهة إلى ابنت الشاعر ” جمان ” : ( الآن يا ابنتي : وقد ابتعد كل الذين أحبهم .. الآن .. وأنا بلا نسيم أو موقد نار .. الآن .. وأنا على وشك أن أنحدر كورقة خريفية .. تمسكين بي .. وتجعلين كلّ ما هو غائب .. وناء .. وبعيد .. حاضرا وقريبا – ص 5 ) . صحيح أن من اليسير على البنت أن تكون دليلا أمينا وعونا بدنيا وعكازا نفسيا لأبيها في سنوات الذبول الخريفية من عمره ، إلا أن الأفعال ” السحرية ” التي تجعل كل ما هو ناء وبعيد وغائب حاضرا وقريبا بطريقة مقاربة لـ “منطق” وأفعال اللاشعور التي تقوم على أساس مبدأ ” كن فيكون ” . إن الطيف الأمومي الغائب والضامر ينسرب في طيّات الجسد الفتي الحي . هذا المركب البشري الشعري الذي يقع في إطار التمنيات يرتقى به الشاعر من خلال الرغبة في تصميم صورة أنموذجية لابنته هي في واقعها تشكيل من سمات ” تؤمثل ” البنت فتمنحها – وقد تغربت الآن – اشتراطات الطبيعة الإنقاذية المرتبطة بالأم حصرا : ( أنا أكيد يا ابنتي .. وأنت معي .. حتى موتي سيكون سعيدا .. لذا أريدك .. أكثر صلابة من شجرة السنديان .. وأكثر انتصارا على الألم من .. قلب قديس – ص 6 ) .kh hussein aisa ويبلغ هذا التمويه الآسر ذروته في التصعيد الدرامي لدور الإبنة المنتظر في لحظات رحيل الأب / الإبن ، لحظة حضور المثكل التي يضفي عليها الشاعر ملامح أسطورية تليق بسعة حضور مخلّص : ( أريد أن يحدث هذا .. في اللحظة التي تحضر فيها العاصفة .. العاصفة الموكلة بانتزاع .. ورقتي الأخيرة .. – ص 6 ) . ولو تنبهنا إلى خاتمة هذا النص الافتتاحي / الإهدائي لوجدنا الشاعر يستهله بشكوى الغربة التي تتصاعد لتمر برثاء الذات وتستقر عند سفح الرحيل النهائي ، وهنا نمسك بسمة مهمة في هذه المجموعة نابعة أصلا من طبيعة حاسمة في الهجرة والاغتراب يلخصها القول المأثور : ” إن الرحيل يعني قليلا من الموت ” . وفي الهجرة المتطاولة يتراكم هذا ” القليل ” ليخلق شعورا عميقا بقرب الفناء ، وبمضاعفة القابلية على الإنجراح ، تلك القابلية المرادفة لقلق الموت المشتعل الذي كان يُطفأ جانب منه في أحضان الوطن الأم من خلال الإحساس المطمئن لدى الشاعر بأنه قريب من الرحم الحامي .. محاط بإخوة وأقرباء وأحبة .. يفهم لغتهم .. وتعبيرات ملامحهم .. وأنه ليس دخيلا على الأرض المشتركة التي تجمعهم .. وأنه حين تأتي العاصفة التي تسمى المنية .. والموكل إليها انتزاع ورقته الأخيرة .. فإن هذه الورقة الأخيرة سوف تسقط بهدوء – مهما كان عتو عاصفة المنية – لتتلقفها أذرع الأرض التي تشكل من أديمها .. وسارت في عروقه مياهها .. وهي عودة قصوى إلى الرحم الأول .. ولهذا نجد أن هاجس الموت يستولي على قصائد المجموعة بأكملها مستثارا وملتحما بضغوط الغربة العاتية . وهاجس الموت الأسود هذا يتمظهر في أشكال خلاقة مختلفة ؛ منها ، وأهمها نفسيا رثاء الذات ، وكأن الشاعر في حالة طوارىء من انتظار قدوم المثكل في أية لحظة ، إنه ميت في الحياة ، هو في إجازة من العالم الأسفل ، وفي بعض المواقف يصور ذاته وكأنه الـ ” زومبي ” الخارج من مملكة الموت ، يتحرك ولكن لا يتكلم ولا يشعر ولا يتحكم في مقدراته . ورثاء الذات يمكن أن يُنظر إليه كلعبة دفاعية أيضا ، فمادمت قادرا على رثاء ذاتي فإنني منفصل عن جثمان ذات أخرى ، يمكن أن أموت حيا إذا جاز التعبير . ورثائي لذاتي هو – من وجه آخر – حركة استباقية وإجهاضية لطعنة المثكل المنتظرة . فالشاعر ” يموت ” بـ ” تقديره ” وليس بتقدير قوة متعسفة خارجية ، ويلتقط الفرصة لنعي ذاته في الوقت الذي يقف فيه المثكل منخذلا أمام مشهد الموت المصنّع ( راجع مثلا قصائد : أوراق ، في الاماسي الباردة ، شتاءات متأخرة ، الذي تخرب منا .. وغيرها ) . أما الشكل الآخر لتمظهر هاجس الموت في مجموعة الياسري فهو رثاء ” الآخر ” من شعراء وأحبة وأصدقاء ، وفي ذلك أيضا يكمن اللعب المصلحي النفسي ، والمداورة التخديرية للذات الهشة ، فما دمت قادرا على رثاء الآخرين الراحلين فمعنى ذلك أنني – وبطريقة سحرية – سأتحصن بالحيواة المرثية ( راجع مثلا قصائد : نوقظك الليلة بالورد ، دار السيّاب ، سنبلة الحقول الخجلى ، مرثاة إلى عبد الوهاب البياتي ) . ويلحق هذا تمظهر آخر لا يقل أهمية ويتمثل في رثاء الأماكن .. رثاء المكان ” مؤنسنا ” ومفعما بقداسة مهيبة ( قصائد مثل : ربيع أبو بشوت ، مدّخرات ، أحلم ) . وفي رثاء المكان يدرك الشاعر بانتباهته الحادة ، وبأمانته التاريخية كشاهد عصر أنه لا يمكن أن يغض طرفه الشعري المحمر عن الغولة التي خربت مكان حياته الفردوسي وطردته إلى المنافي ولحست قدمي وطنه : الحرب ، فيقدم الياسري الكبير نصّا يمكن أن يوضع في مصاف النصوص العالمية التي كتبت عن لعنة الحرب ( قصيدة : الحرب – ص 107 ) ، والتي ترتبط بها عضويا النتائج المدمّرة لهذه الغولة التي أحرقت زرع وطن الشاعر وجففت ضرع مستقبله ، تلك النتائج التي لا يوجد في الدنيا ما يعبر عنها أبلغ تعبير مثل حال أطفال بلاده المضيّعين المشردين ( قصيدة أطفال بلادي – ص 84 ) . وفي ظل هذه الخسارات الجسيمة ، والإحباطات الباهضة ، في ظل عالم شبحي يضمحل ولا يتردد فيه سوى نعيق الغربان والبوم المشؤوم .. قد يصبح مبرّرا أن يغيّب الشاعر الوعي الملعون بالمحنة ( راجع قصيدة هذي الكأس – ص 64 ، وقصيدة ناي حطّاب إدهيم – ص 37 مثلا ) . وبعد هذا الاستطلاع التمهيدي ، وعلى هذه المحاور سنمضي مع عيسى حسن الياسري بعيدا بعيدا بعيدا .. محلقّين في سماوات مجموعته الشعرية الفذة هذه ليتقابل الخطابان حيث يهتف الشاعر : أناديك من مكان بعيد .. فيرد الناقد : أفهمك من مكان قريب .. ولكنني وجدت أن دراسة هذه المجموعة مستقلة عن كامل المسار الشعري للياسري الذي يمتد لأكثر من نصف قرن ، هو موقف نقدي تجزيئي سيشوه الصورة الكلية لإبداع الشاعر ، ويجعلنا نقتطع رأس النتائج عن جسد مقدماتها ، فقد أصدر عيسى – قبل هذه المجموعة – ست مجموعات شعرية هي :
– العبور إلى مدن الفرح – بغداد – 1973
– فصول من رحلة طائر الجنوب – بغداد – 1976
– سماء جنوبية – بغداد – 1979
– المرأة مملكتي – بغداد – 1982
– شتاء المراعي – بغداد – 1992
– صمت الأكواخ – بغداد – 1996
أي أن المجموعة التي بين أيدينا هي المجموعة السابعة التي – وفق معطيات المنهج الذي نشتغل عليه – ترتبط حتما ، وبوشائج قوية – مبنى ومعنى – بالمجموعات السابقة . وعند مراجعة وتحليل المجموعات الست السابقة تفصيليا ، وعبر جهد مضن لاحقت فيه أدق مكونات تجربة الياسري ، وجدت أن المحاور التي أشرت إليها كركائز لقراءة نصوص مجموعة الياسري الأخيرة ، قد بذر نواها في تربة إبداعه الشعري منذ نصوصه الأولى ، ثم استوت على سوقها عبر عقود من الممارسة الخلاقة القائمة على تجربة حياتية مريرة ، والمسلحة بثقافة شعرية ، وعامة واسعة ، والمدعمة بنظرة فريدة إلى دور الشعر في الحياة والوجود والكون ، وموقف المبدع من متغيرات مجتمعه العاصفة ، وعذابات الإنسان المسحوق فيه ، لتصبح غابة أشجار متميزة ومستقلة في التجربة الشعرية العراقية والعربية اسمها عيسى حسن الياسري ، عيسى بتمامه : شاعرا وإنسانا . ويشتغل هذا الكتاب على استكشاف خصائص هذه الغابة ، غابة التجربة الياسرية الشعرية ، وفق منهج نفسي تحليلي كلي لا يشتغل على النص من ” خارجه ” كما يوصف عادة ، ولكن من داخله ، مع رفض كلي لأطروحة عزل المبدع عن نصه أو ” موته ” ، أو فصله عن مجتمعه ومكونات ثقافته وتحولات الحياة فيه . فلنمضي معا .

*مقدّمة كتاب “شتاء دافىء – دراسة تحليلية أسلوبية في شعر المبدع ” عيسى حسن الياسري ” للكاتب. (صدرت طبعة ثانية من الكتاب بعنوان : عيسى حسن الياسري شاعر قرية أم شاعر إنسانية؟”.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *