عصام القدسي : لاشكّ في ذلك ..

osam alkodsi 2لست ادري كيف انكشف السر. وشاع بسرعة سريان النار في الهشيم . بعدها تبين لي أن الأمر بات معروفاً ليس للداني والقاصي فحسب ،بل أصبح خبرا يشغل كل من على سطح الأرض . تتناقله قنوات التلفزة الفضائية بمبالغة كبيرة . وتسرده الصحف والمجلات بعناوين بارزة ( رجل يسرق كمية كبيرة من الذهب). وتتحدث فيه المجتمعات المتحضرة في محافلها الفخمة ، والنامية بمجالسها الفقيرة ، وقت السمر.وتحوك حوله القصص الغريبة.وما شاع ليس صحيحا حقا . كما هو ليس كذبا تماما ..
أنا شخصيا لا أنكر ذلك. إنني حقا عثرت على كنز ولكنه كنز متواضع احتفظ به في بيتي ، والكنز عبارة عن ثلاث سبائك ذهب ، من النوع الذي تدخره البنوك الكبيرة في خزائن متينة عملاقة ، لاتصل إليها يد اللصوص مهما ملكت من قوة . فذات يوم، دارت فيه الأتربة ونفخت في مسالكه الريح الصفراء. يوم من أيام الغضب الذي تدخره البلدة أثناء سنوات القهر والكبت ، وتنفجر به في الوقت المناسب . كنت عائدا إلى البيت ، وأجاهد أن أسلك درباً نائياً ، يبتعد بي عن وسط المدينة التي تغلي فتحرق أوراقها ، وتكسر أصنامها وتحطم كل شيء تصل إليه يدها، وتلفظ مدخراتها من النفائس والبشر. أحداث قتل وانفجارات ومراسلون من كل أصقاع الدنيا، وكاميرات توثق الأحداث ودمار وفوضى وانفلات وصخب ، والعالم يتفرج من خلال شاشات التلفاز . كانت المدينة تغسل شوارعها ومبانيها بالدم والنار، من اجل أن تتطهر من رجس كبير علق بها زمنا طويلا ، حينما عثرت على كنزي ، الغارق بالضوء ، المتلألئ كالشمس. كنت ساعتها أخوض في بركة من المياه الآسنة ثم أتسلق أكواما من الأنقاض عندما اصطدم بصري ببقعة كبيرة من الدم ، جعلتني انتبه فزعا . وقادني انتباهي إلى التبحر والإمعان بما حولي ، حينما رأيت السبائك بين الأنقاض . وبشيء من الجرأة والأقدام ، حملت سبائك الذهب. وانسحبت من المكان بحذر وكتمان شديدين. لاشك أن لصوصا قاموا بسرقة الكثير منها. وقد يكون خلافا دب بينهم فتناحروا وتفرقوا مدحورين مثخنين بالجراح. أو أُكتشف أمرهم فتركوا بعضها ولاذوا بالفرار هكذا فسرت الأمر. وبقليل من الصبر والتدبير، كنت في بيتي أخبئ السبائك في مكان أمين ، وأعود أداري ارتباكي فأُحدث زوجتي بكل ما حصل ، بعيدا عن أبنائي، وأحذرها من أن تتفوه بكلمة ولو لأقرب الناس إلينا..
ثم أكلمها عن آمالنا التي ستتحقق وبحبوحة العيش التي سنتمرغ بها بعد فقر وبؤس . كانت تجلس قبالتي تتطلع إلي بنظرات ذاهلة وتبتسم ابتسامة غريبة وهي تردد : اجل .. اجل .لاشك في ذلك.
عشت محروما ، مهزوما ، مقهورا، بسبب فقري المدقع ، مما جعل الجميع ينأى عني ، ويعزف عن زيارتي أو السؤال عني .وهاهي الفرصة تشد يدي لأصفع كل من ازدراني أو وعدني بأن يمد لي يده وماطل ثم خذلني ووقف جانبا يسخر مني…
أسلمت جسدي للاسترخاء والكسل .آن لي أن احلم وامضي قدما بما احلم لتحقيقه. سأمتلك كل شيء ..كل شيء وسأمدّ لساني للجميع وسأسخر ممن يطلب مساعدتي..
زارني الشيخ حسن كعادته ، وهو صديق قديم لأبي، رحمه الله . وجعل يتحدث عما يجري بألم وحسرة : لقد جن الناس فما عادوا يميزون بين الحق والباطل ،والحلال والحرام ، جن الناس ، وتساءل: ـ إنها من علامات الساعة ..أليس كذلك.؟ . بقيت واجما والخوف يراود قلبي وكدت اخبره بأمر الكنز .وعاد الرجل يقول:
ـ اجل إنها من علامات الساعة . وظل يردد ذلك حتى قام وانصرف. شعرت بكلام الشيخ يقوض عزمي ويملأ نفسي وحشة لذا دعوت زوجتي وأحببت أن استأنس برأيها. فرحت ارسم مشاريع وخططا. وهي تحدجني بنظرة غريبة واسألها فتردد كالببغاء : ـ ستفعل .. ستفعل.. لاشك في ذلك .
في المساء ، كان التلفاز يواصل بث ما يجري من جنون متفجر، وجميع من في البيت مشدود إليه. كنت اجلس أمامه شارد البال ، حينما لمحت صورتي على الشاشة وأنا امرق من أمام الكاميرا. قفزت كما لو لسعتني عقرب . مشاهد متفرقة لأماكن مختلفة في المدينة التي تفور كالبركان وترمي حممها . وفي زاوية من المشهد العريض كنت أمر احمل السبائك ثم اخبأها تحت ثيابي ، وأتوقف لحظات ، أمام الكاميرا ، قبل أن أواصل سيري..تصوروا ، دون أن ادري . وأُسقط في يدي ، وأحسست بالدوار يشدني إلى الأرض. أيعقل هذا .؟ و مرت لحظات . حمدا ًلله لم يعلق ، احد من أبنائي بشيء . إذن هم لم ينتبهوا .وجعلت ابعد الوساوس عن نفسي بشدة : لن ينكشف الأمر.. لن ينكشف. .أرجو ذلك.
في الصباح التقيت جاري عند بابه . حييته ، هتف يرد تحيتي :
ـ بالأمس ظهرت في التلفزيون( ثم ) ما كان يجدر بك أن تكون هناك. حمدا لله على سلامتك .
مددت خطوي وأنا أغمغم بما لا يفهمه . في الطريق ، سمعت اثنين يتحدثان عما يحصل . وما أن وصلت قريبا منهم حتى قالا :
ـ هناك من سرق كل شيء..كل شيء.
ترى هل كان حديثهم مصادفة .؟
في البيت وقت العصر زارني أخي وحدثني بأمور كثيرة ، وأبدى ـ على غير عادته ـ استعداده لمساعدتي إذا ما احتجت للمال ، مما أثار حفيظتي وشكي .
بعدها طُرقت الباب ، كانت أختي. ما أن جلست حتى راحت تحدثني عن مصيبة ستحل ببيتها بسبب الخسارة التي لحقت بتجارة زوجها
ـ ليس لي علم بماهية تجارة زوجها، فهي تتكتم على أمورهم المالية . ـ وطلبت أن أجد لها من يعينهم على الخروج من الأزمة . ظللت في حضرتها صامتا فانصرفت بسرعة.
عند منتصف الليل استيقظت ، على صوت يأتي من صوب الشارع ، يغني بصوت عال (( لو عادلوني بالذهب ما أبيع محبوبي)) . وتساءلت عن معنى ما يحصل . ثم بعد طول تفكير جعلت اسخر من الصوت والأغنية. بعدها سمعت أزيز سيارات كبيرة تقف أمام البيت وأصوات رجال وقعقعة سلاح. وجعلت انتظر أن يُطرق الباب ، فلم يطرق . ثم أدركت أنني بدأت أصاب بالهلوسة ، شيئا فشيئا.
ساعات من الأرق ثم نمت . وحلمت أنني أسير ليلا في المدينة فأرى الناس تشير إليّ أينما ذهبت بإعجاب منقطع النظير ، ثم رأيت السماء التي تشعلها أضواء بيض ، تظلم شيئا فشيئا . انتبهت من نومي مذعورا، ثم بعدها عاودت النوم..
في الصباح كان المذيع يثرثر بمواضيع الساعة .ويتنقل في الشوارع والساحات ، يحدث المارة ويسألهم عما يجري من شغب ، وعاد يتكلم عن المصارف التي نهبت والذهب الذي سرق ، ويستطلع آراءهم . كانت آراؤهم قاسية ، مرة كالعلقم . وظننت أن المذيع كان يعنيني حينما راح يسوق حديثه عن هذه المسألة دون غيرها ، فيكر عليها ليعود عنها ، ثم يعيد الكرة ، من جديد. صرخت متهكما :
ـ صدعت رأسي.
وخيل لي يقول: ـ أراك في السجن.
وتساءلت مع نفسي أيعقل أن وصل بي الأمر حد أن أتخيل أشياء ليس لها وجود ؟ أم أنني في طريقي إلى الجنون .؟ في المساء عرض التلفاز مشاهد الصخب السابقة أكثر من مرة . ووضحت الرؤية أمام الجميع وباتت صورتي تعرض كنجم من نجوم الأحداث . وتهامس الأولاد ثم مضوا يجاهرون بما في نفوسهم.وشبت بي رغبة بقوة الجبل أن أجوب الشوارع و اصرخ : ـ إنني أجن .. أجن .. أجن.
في جوف الليل كنت قد اتخذت قرارا حازما . وفي صباح اليوم التالي وأنا أشاهد التلفاز والفوضى العارمة في المدينة ، أخرجت السبائك من مخبئها سرا وضعتها في كيس وانسللت من البيت دون أن يشعر بي احد، ركبت سيارة تاكسي إلى المصرف الكبير .هناك طلبت مقابلة المدير فأرشدوني إليه . دخلت غرفته ، وضعت كيس الذهب أمامه على المنضدة لهجت ببضع كلمات ثم استدرت ، وانصرفت أمام دهشته واستغرابه …
عند المساء وقبل أن نستسلم للنوم كانت زوجتي تحدثني عن أحلامها التي ستتحقق، كانت تحدثني، بلهجة واثقة. وتعود تسألني موافقتي . كنت أتطلع إليها بطريقة مختلفة ، وابتسم ابتسامة غريبة لن تفهم مغزاها وأنا اردد : ـ اجل ..اجل .لاشك في ذلك.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *