عصام القدسي : إنّه البرد

osam-alkudsi1قلت لهم لم اكن اقصد ولكنه البرد ..البرد دفعني للقيام بما قمت به ،فلم يصدقوني.. وما فعلته هو ما يفعله الاخرون بظرف اكثر استرخاء واوقات اقل قسوة ورغم ذلك لم اسمع يوما ان احدا تعرض للضرب والاضطهاد والسجن بسبب فعلة كهذه. واذا كنت اعتبرها الفعلة الاكثر خطأ فلسوء تقدير مني ليس الا ،اذ لم احتط للمسألة جيدا وذلك يعود لغفلة تنتابني في اوقات معينة ولكن ما اعرفه ايضا ان العقاب يكون على قدر الذنب وان ما نالني اكبر مما يجب ، بكثير..
كان يوما شتائيا باردا وكانت الظلمة قد بدأت تهبط للتو والغيوم الداكنة ترقب بالافق وكنت اقف على رصيف ساحة واسعة ارضها مفروشة بالعشب الاخضر وتزدحم عليها الاشجار وارفة الاغصان تتوسطها مصابيح عملاقة تنبعث منها اضواء صفر ولم اكن مهتما كثيرا بما حولي خاصة انني كنت تلك الساعة مجرد عابر سبيل القتني المصادفة في ذلك المكان وكان كل ما اسعى اليه ايقاف عربة تقلني الى بيتي الذي يقع في الطرف الآخر من المدينة .. واحسست بمثانتي تمتلئ وجاهدت على ان احتمل ولكن الطبيعة كانت تناديني وتلح علي بالنداء فلم اجد بدا من أن الوذ بشجرة وأقف في وضع الانحناء وحانت. مني التفاتة فرأيت على بعد امتار ذلك التمثال البرونزي يرتفع في الهواء على قاعدة رخامية عالية لـ “فارس البلدة ” كما كتب تحته ببزته الحربية يلوح بيده فوق حصانه الذي بدا واجما وهو يحمله ،كان يطالعني من الاعلى وقد القت عليه الاضواء الصفر تعابير غريبة رأيته يتطلع الي بعينين طافحتين بالوعيد جفلت ، لحظة اكتشفت وجوده ، والظلمة تتكثف شيئا فشيئا وارعدت الغيوم فشعرت بنظرته يرتسم عليها الخوف كما لو احس بصاعقة تنزل عليه من السماء ثم رأيتهم ، شياطين الظلام يطلعون بغتة من بين الاشجار بوجوههم الكالحة . اقترب احدهم مني ، تفرس بوجهي ثم راح يهزني من كتفي ودفعني بعيدا عنه ساخرا:
ـ ستدعي انك لاتعرف اين تقف .
وقال آخر وهو يلطمني على وجهي :
ـ او انك رجل لايؤخذ بتصرفه.
ـ أي انك معتوه..
أما كبيرهم وهو ماتدل عليه نبرة صوته فقد قال يخاطب الثلاثة :
ـ ولم لايكون مدفوعا من قبل جهة معادية.؟
وسكت ثم اكمل بلهجة قاطعة :
ـ على اية حال ليس هناك ما يعفوه من العقاب .
انهالوا علي ضربا وانا استغيث :
ـ قلت لكم انه البرد ..البرد حاصرني و..
كانت الظلمة والاضواء الصفر يتداخلان بظلالهما من حولي . وبدأت قطرات المطر تنزل ولم اشعر بالدقائق وهي تمر سريعة وانا تحت مطارق القبضات ثم سقطت تحت الاقدام الغليظة تتوالى، تسحق رأسي قرب قاعدة التمثال كان دمي يسيل ساخنا على الارض ليختلط بحبات المطر فتنحدر عن وجهي مشكلة بركة داكنة .. في غرفة التحقيق استرجعت صورة الدم وهي تطرق الارض قطرة فقطرة وتكبر في مخيلتي وتكبر حتى تخيلتها تغرق الغرفة . وتحسست الكدمات في وجهي وتلمست اذني كان ثمة دم تخثر في صيوانها قلت لنفسي لافائدة من المحاولة لذا لن أأخذ الامر بجدية .. سألني المحقق وهو يحاول ان يبدو مهذبا :
ـ مااسمك ..؟
قلت متظاهرا بالصمم :
ـ انه البرد ..
واعاد علي السؤال اكثر من مرة وانا اجيبه بنفس الجواب عندها أشار بيده الى احدهم فسار بي عبر دهاليز حلزونية معتمة ثم دلف بي الى غرفة تفوح منها رائحة العفن ليضعني امام وجوه مقنعة بالصفيح والآت عجيبة لم ار شبيها لها من قبل ليعود بي في الآخر وانا بحالة يرثى لها .
ـ اقول لك مااسمك .؟
قلت له بنبرة لاتخلو من السخرية: انه البرد .. البرد.
فاعادوني الى تلك الغرفة العفنة.. وهكذا دواليك . والعجيب في الامر انني رغم وهن جسدي فقد اكتشفت انني في كل مرة ازداد قوة وعنادا حتى يئسوا مني ولم يطل بي الحال اذ اقتدت عبر سلالم ترتكس الى الاسفل وادخلت بما يشبه جرة سوداء مدفونة تحت الارض..ودارت المدينة حول نفسها ودار الزمان دورته ايضا ولكن عكس دورتها الرتيبة القاتلة وسقط التمثال وتهدم الجدار الاسود الذي كان يقف بمواجهتي او كنت اقف بمواجهته لسنين لم اكن احصيها .وها انا اتنسم هواء الحرية من جديد..
حين اصبحت طليقا ،اول ما تبادر الى ذهني ان ازور المكان الذي حصل فيه ما حصل ذلك المساء المشؤوم ، فمضيت كان التمثال محطما والمصابيح العملاقة التي كانت تحيط به مهشمة كعيون مفقوءة لحيوانات منقرضة ولم ار اثرا لبركة الدم الذي سال مني تلك الليلة ولكني وجدت مكانها شجرة خضراء بطول قامتي،،اخذت فيما بعد اتردد عليها واستظل بظلها وانا اردد :
ـ هذه شجرتي .. فمن دمي طلعت ومنه ارتوت ومدت جذورها في الارض لتستطيل وتزهر ..وغدا سأجني ثمرها.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

| عبدالقادر رالة : زّوجي .

    أبصرهُ مستلقياَ فوق الأريكة يُتابع أخبار المساء باهتمام…      إنه زّوجي، وحبيبي..     زّوجي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *