عصام القدسي : كيف حالك يا جدي ؟

osam-alkudsi1أولئك الذين مضوا وخلفوا وراءهم حكايات دافئة،نسمعها،ونحن صغار،ترويها لنا جداتنا وأمهاتنا بأصوات مرتعشة في الليالي المقمرة،تظل تفترش ركنا حانيا من ذاكرتنا ما حيينا ،ونحلم لو نخترم الماضي ونعود إلى ذلك الزمن البعيد لنشهد بأم أعيننا ونسمع ما جرى، ولكن حلمنا يصطدم بحقيقة إن الزمن الذي مضى لا يمكن له العودة ثانية…ترى هل حقا إن الماضي لا يعود..؟

ساعات وأنا أجول تحت الشمس الملتهبة في (سوق الهرج)، المزدحم ببيع وشراء الملابس العتيقة،والأثاث الانتيكة،والأشياء الخردة،وقد اقتربت الظهيرة،والتعب اخذ ينال مني،دون أن اعثر على ما يناسبني فغادرته بخطوات متأرجحة،وقطرات العرق تتصبب مني .اتجهت سائرا بمحاذاة أعمدة شارع الرشيد،تحت بناياته القديمة العالية،،على امتداد دكاكين بيع الكتب،والملابس وغيرها ،وهبت موجة من الهواء البارد،استقبلتها بانشراح لكن صداعا دق في صدغي،واصلت السير وأنا مطأطئ الهامة ثم انعطفت يمينا،باتجاه “جسر الشهداء” الحاني فوق النهر،رفعت رأسي،ففاجأتني بناية ” المتحف البغدادي” الشاهقة كقلعة قديمة،تشمخ أمامي وكنت قد نسيت وجودها.وجذبتني واجهتها المحفورة حجارتها بأشكال هندسية إسلامية وشعرت ببابها الكبير ذي النقوش العتيقة، يفتح ذراعيه يدعوني للدخول،ومازال الصداع ينتابني فانتهزتها فرصة،لأسترد أنفاسي .قطعت تذكرة عند الباب وحين أصبحت في الداخل أحسست بشيء من الارتياح وخف الصداع، وقد امتلأت رئتي بروائح الزمن الغابر،وغمرتني رطوبة المكان وعتمة زواياه أغمضت عيني ثواني ثم فتحتهما،ورحت أجول عبر ممراته،مستكشفا قاعاته،المتلألئة بأضواء ساطعة أطيل النظر عند كل قاعة، فأرى ديكوراتها ومقتنياتها وتماثيل الجبس بملابسها الشعبية،قد نفخت بروح بغداد القديمة،فنهضت حية،حتى كدت اسمع صخب أهلها،وباعتها وأطفالها وهم يلعبون في الزقاق،واشم روائح الطبيخ ذا النكهة الأخاذة،واشهد المقهى وروادها وعاملها الذي يدور بدورق الماء النحاسي،ومازلت أجول حتى قضيت وقتا ممتعا وهممت بالمغادرة، لولا ذلك الصوت الذي راح يطرق سمعي قادما من قاعة مـنـزوية في نهاية الممرات كنت قد غفلت عن مشاهدتها توجهت نحوها فاستقبلتني فوق بابها، لافتة صغيرة كتب عليها ” مهنة الحدادة ” دخلت فطالعني دكان الحداد أيام زمان خلا :رفوف عتيقة تتكدس عليها ،حدوات ،قطع حديد مختلفة كما تتدلى من السقف سلاسل متباينة الطول والمتانة، وفي الوسط كورة نار ورجل يرتدي ملابس بالية ملطخة ببقع كبيرة سود،صارم الوجه،مشدود العضلات يرفع مطرقة ضخمة،ليهوي بها على قطعة حديد متوهجة السخونة، فوق سندان من الحديد،بينما وقف إلى جانبه صبي يحمل دلو ماء معدني،وقد فغر فاه كما لو يكلمه. وقفز إلى ذاكرتي وجه جدي،ودكان حدادته العتيق وكيف كنت قبل عقود خلت وأخي الكبير نذهب إليه فيفتح صرة نقوده ويخرج منها قطعا معدنية يدسها بأيدينا ويأمرنا بالعودة،دون تلكؤ الى البيت.فنغادره فرحين نشتري في طريق عودتنا ما يلذ لنا من حلوى،كنت أحب جدي إذ طالما لامس شغاف قلبي حنوه الذي يغلفه بقسوة يتكلفها،وراحت أمامي هذه اللحظة مسافات شاسعة،تطوى،وشعرت بعقارب الزمن تدور بسرعة الضوء الى الوراء،وقد عاودني الصداع مشوبا هذه المرة بدوار فأغمضت عيني لوقت لم استطع حسابه،وفتحتها فرأيت جدي يقف أمامي حيا يرزق هتفت دهشة: جدي ..!!.. كيف حالك يا جدي.؟
لم يلتفت إلي،وتناول دلو الماء من يد الصبي وسكب على قطعة الحديد لتبرد ودفع بها بمطرقته الى الأرض وراح يغتسل،وأمر الصبي بصوت رخيم أن يغلق الدكان،وهو يردد:
_ إذن.. عاد الغريب ثانية.
_ ومعه اثنان..
قال وهو يمسح وجهه وذراعيه بمنشفة معلقة بشماعة، على الحائط:
_لم يتعظ من درس الأمس.!!
_ إستادي..خذ الحذر،فقد رأيتهم يخبئون شيئا،خلف ظهورهم.
غمغم جدي متوعدا وشرع على عجل يستبدل ملابسه فخلع ما عليه،وانتزع من الشماعة، صايته وعباءته المطرزة بخيوط ذهبية،ولبسهما وارتدى طاقية في رأسه ومضى يلف حولها كوفية مطرزة بخيوط سود،بينما انشغل الصبي،يرشق النار في قعر الحفرة ،بيده الغضة بما تبقى من ماء الدلو، ويعيد عدة الشغل المبعثرة الى مكانها،ثم راح يسحب ضلفتي الباب الخشبية،كان جدي يقف،متوترا،يصلح من شأن ملابسه،بعصبية ولما انتهيا، قفز جدي بحركة رشيقة من فوق حبال سور المشهد،والصبي خلفه وخرج من القاعة وانطلق،بخطوات متوثبة تولتني الدهشة وأنا اتبعهما،وجعلت اردد مع نفسي هذه الحكاية طالما سمعتها من جدتي حين كنت طفلا،عبرنا ممرات المتحف،ومرقنا من أمام الحارسين،دون أن يعلقا بشيء وكان أحدهما يتثاءب على كرسي متداع والآخر يرنو الى الفراغ بضجر،أما قاطع التذاكر فقد ندت عنه آهة ونداء،لم يكن يعنينا بهما،وحين أصبحنا في الخارج اتجه جدي صوب الجسر والصبي يتبعه وأنا أسير على مبعدة وراءهما،وشرعنا بعبوره وبدا لنا جامع ” الوزير” التاريخي،يربض جانبا،عند بدايته،مشرفا بمنارته الأثرية على ضفة النهر، ووقت العصر لم يحن بعد ..وسط الجسر هبت نسمات باردة تصافح وجوهنا ومياه النهر قد انخفضت حتى انكشفت بقع من قاعه،،وبعض النوارس تحلق فوقه بكسل،وانحدرنا كانت دكاكين بائعي السمك قد أقفلت،سوى واحد أو اثنين. اتجه جدي يسارا وسار بمحاذاة النهر، زوارق تغفو على الشاطئ وأنقاض سفن صغيرة اعتلاها الصدأ تجثم منذ عقود،وأكوام أزبال هنا وهناك،والى اليمين،كانت ثمة بيوت هرمة،انكمش أهلها الى داخلها هربا من سخونة الجو،انعطف جدي نحوها ونحن نتبعه.ودخل أحد أزقتها، كان الزقاق خاليا من المارة إلا طفل جلس عند عتبة بابهم،وأطلت امرأة برأسها ما لبثت أن انسحبت الى الداخل..ورأيناهم عند منحنى الزقاق،كانوا ثلاثة طوال القامة نحافا صلبي العود بجلابيب بيض،يتلفتون حذرا.لاذ الصبي خائفا بجدار،ووقفت مكاني مشدوها وقد ارتفعت سخونتي واشتد بي الدوار،واتجه جدي نحوهم بخطوات واسعة،ووقف أمامهم وجها لوجه،كانت ثمة فتاة،تسترق النظر من شباك فوقنا،حاولت اقتناص ملامحها. غمغم جدي ثم بلمحة من البصر هوى بكفه على وجه غريمه الأول،وعلت عصي في الفضاء ودارت معركة، وانتزع جدي عصا من يد أحدهم وراح يضرب يمينا وشمالا ،وتهدلت عباءته على كتفيه،ثم انحلت عقدة كوفيته المحبوكة حول رأسه وعلا الصراخ،ومضى الوقت عصيبا،قبل آن يكتشف أهل الزقاق،ما يجري، واندسوا بين الفريقين محاولين فك الاشتباك،وانطلق صوت أذان العصر مدويا، وبدأ العراك يتراخى وتتباعد الخصوم وكادت المعركة تنتهي، لولا في لحظة غفلة هوت عصا على رأس جدي فسقط على الأرض مضرجا ولاذ الغرباء بالفرار،وذابوا في الطريق،هرع الجميع لمساعدة جدي،كان الدم يسيل من جبهته، تقدمت منه شاقا كتلة الأجساد المتحلقة حوله وقفت أمامه وقد تملكني شعور بالفخر والأسى معا،وأخرجت منديلي،وقربته من الجرح،تفرس بوجهي ثم دفع بيدي بعيدا ونهض من الأرض،وشرع يصلح من شأن ملابسه وهو ينطلق مبتعدا كالنمر،والصبي يجري وراءه محاولا اللحاق به،ثم لم يلبثا أن اختفيا في عمق الزقاق..في البيت سقطت أياما في الفراش،وأنا أهذي،وحين تماثلت للشفاء استرجعت في مخيلتي ما شهدته ذلك النهار وانتابتني حالة من الضحك وأنا أتصور إن ما رأيته كان بفعل الحمى التي ألمت بي.. بعد أيام عدت لزيارة المتحف ووقفت أتأمل (تمثال جدي) وذهلت،حين رأيت جرحا طريا على جبهته،وابتسامة خفية،ترتسم على ملامحه .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *