ما الرؤية؟! ولماذا يشدد الفنانون عليها باختلاف تخصصاتهم الفنية وتوجهاتهم المعرفية والاسلوبية؟ وهل ان الرؤية ملزمة للحد الذي، يفترض بالفنان امتلاك ناصيتها، ويحسن التعبير عنها بقوة وجدارة وصرامة؟
منذ عقود والفكرة تشغل البال، وسؤال عن الرؤية، طالما تكرر، وتوزع على خارطة الفنون جمعاء. فلماذا الرؤية ملزمة الى هذا الحد في التعبير عن روح الفن والفنان على حد سواء؟
ان كانت الرؤية هي زاوية النظر للفنان وكيفية تلقي الفنان للكون والعالم والحياة، فانها تعني الزاوية التي يطل من خلالها على ما يقع خارجا، ويشكل محورا جوهريا للفنان، ويمكن أن نبسط المسألة ونقول: ان الرؤية هي بمثابة وجهة النظرالتي ينظر من خلالها الفنان الى الحياة، بكلمة أخرى، انها المنظور الأستراتيجي لخط الفنان، ومن دونه يصعب فهم الفنان وكيفية اشتغاله على مر السنين، كما انها تدقيق بفنه ونوعية الابتكار والتجديد الذي يتناوله فيحدث أثرا غير مألوف، وأحيانا صعب الفهم، أو قد يكون مدهشا، الا انه معبر عن دبيب الحياة وما ينتاب الانسان من ارهاصات وهواجس وأفكار وتطلعات وأحلام.
وهنا ينبثق سؤال مفاده: كيف لنا ان نتلمس رؤية الفنان في عمله الفني؟!
ان العمل الفني، كل لا يتجزأ، والشكل الفني فيه يتداخل في صميم العمل ذاته، وما تفكيك العمل الفني، الا محاولة فهمه بصورة دقيقة، فالتفكيك امر غير صحيح، لأنه ببساطة لايعود هناك عمل نرجع اليه ، فعندما نفكر على سبيل المثال فصل الفكرة من النص مثلا، فما الذي يتبقى في النص؟ أو ان قمنا بتفكيك الشخصيات البطلة وعزلها عن محاورها في النص. فماذا بقي في النص أصلا؟!
المسألة، أن وحدة النص تكون بتلاحم الأجزاء المكونة له. وعلى وفق هذا المنظور فاننا نجتهد ان نستوعب النص بتفكيكه من جهة، وفهمه من جهة أخرى، بوصفه كل لا يقبل التجزأة.
وهنا السؤال المهم المتعلق بكيفية تجلى الرؤية في العمل الفني ؟ هل يمكن ان تكون الرؤية بمعزل عن العمل؟! ام ان العمل الفني يحمل في طياته وضمن ثناياه الرؤية!
وكيف نستطيع تلمس تلك الرؤية ؟؟ أهي في بنية الشكل الفني أم المضمون ؟ مهما كان هذا الشكل، وأيُ فن من الفنون.
لنتناول النص المسرحي على سبيل المثال لا الحصر، اذ تتجلى الرؤية، بعملية التركيب لبنية النص، أي الكيفية التي يحرص عليها المؤلف لأظهار نصه فيها. مع ذلك فان المسألة غامضة، فما أن نقرأ النص فأننا نتقصى قصته ، أي نتابع أحداثها، لكن البنية ستُظهر الرؤية الكلية التي يتبناها المؤلف في نصه، تلك المعبرة عن كيفية تشربه للمفهوم الكوني. وتكون أسا فاعلا في البنية الدرامية للنص.
ففي النص الشكسبيري يجري بناء الأحداث على وفق مبدأ استماتة البطل من أجل تحقيق أهدافه وان كلفه الأمر حياته أو مستقبله، فلم تزل الذاكرة متقدة بما كان يطمح اليه هاملت في نص هاملت، وسعيه المتواصل والمتصل لبلوغ ما يريده وان كلفه حبه وحياته ومستقبله. أما روميو في نص روميو وجوليت، الذي عشق جوليت حد الوله، لم يمنعه الصراع بين العائلتين ان يتقرب منها، ويؤسر قلبها، وتتحمل الكثير من اجل هذا الحب، وفي نص ماكبث، كانت الليدي ماكبث المرأة الحديدية الارادة، التي دفعت ماكبث للانقضاض على الملك ليتوج من بعدها ملكا، لتصبح بدورها سيدة القصر والمملكة.
من خلال ماتقدم ما الذي يمكن ان نفهمه، والشخصيات متماسكة، قوية، لها أبعادها المحددة التي تعرف بها، وتشكل صورتها السلوكية، فالابطال مثلما وصفهم (ملتون ماركس) في كتابه (المسرحية كيف ندرسها ونتذوقها)، يتسموا بالكفاءة والقدرة واللياقة، مما يساهم ببلورة الصورة لهم وهم يجتازوا العقبات والصدمات الواحدة بعد الأخرى. ان الرؤية هاهنا لحيويات الابطال، تشكل انعكاسا فعليا لعلاقة الأبطال بالعالم – الواقع/البيئة. تلك العلاقة المتبادلة بين ما يحدث للأبطال وما يمكن حدوثه بالواقع فعليا.وعليه فان الرؤية للمؤلف هي معالجة السلوك الفعلي للأبطال وهم يحيون الصراع مع اشتداد وتائره ونغماته المتنوعه، وكأننا نرى البداية والوسط والنهاية، فالعالم الذي يحاكي برؤية فنية يرى العالم متماسكا وان كان داميا أو متسخا أو ضاجا بالحروب والخيانات. فالرؤية بالمفهوم الذي تم التطرق أليه، صلبة، متماسكة، تكاد ان تكون قطعة كونكريتية للعالم، وببناء الأبطال.
ان انهيار الأبطال أمام المحن والظروف، والضربات الماحقة التي يتلقونها الواحدة بعد الأخرى، لا يلغي ضعفهم وانهيارهم كما هو حال الملك لير في نص(الملك لير)، أوفيليا، أو الليدي ماكبث…الخ، يبقى البطل مقاوما، ولا أبالغ ان قلت ما قاله: اليخاندرو كاسونا عندما أطلق عنوانا لمسرحيته، للدلالة على الأبطال ومايؤلوا اليه بعنوان (الأشجار تموت واقفة) وبالمعنى ذاته أقول : يموت الأبطال واقفون. فالموت كاد أن يكون أمرا طبيعيا، لا يثلم مكانه البطل بل يجعله متجليا برقي.
ماالذي يلاحظ في ضوء تراص الأفعال وتعاقب الأحداث للأبطال، الذين يساقون الى مصيرهم الذي تحتمه خارطة الحدث الدرامي؟
ان الرؤية الفنية تتجلى في ذلك النحت الصلب للأبطال، وكأنه انعكاس لطبيعة العالم المتجذر والثابت، فالرؤية تقر بوجود هكذا عالم صلب، قوي، متماسك وان توالت الضربات بشكل مستمر على البطل أو الأبطال.
وهنا يتشكل سؤال غاية في الأهمية يقول :هل منظور الرؤية ثابت أم هو عرضة للتغيير؟!
ان الشواهد الدرامية في التعبير عن رؤية المؤلف متغيرة وأكاد أقول :ان كل اتجاه أدبي يحمل جنينيا بذور التغيير في الكتابة الدرامية، وهذا لايعني أن الأجناس الأدبية الأخرى غير معنية، فالكتابة بالاتجاه الطبيعي تختلف عن التعبيرية وعن اللامعقول، في الشعر والرواية والدراما، أي أن الرؤية تشكل خط استراتيجي عام لمنظور الثقافة.
وفي ضوء ما تقدم، سنتطرق الى الواقعية النقدية التي اشتغل عليها تشيخوف، القاص والأديب والمؤلف الدرامي، متناولين رؤيته للكون والعالم والحياة.
اذ يعد تشيخوف صاحب رؤية متفردة للأبطال ونحته لهم، وهم في حالة نكوص دائم، عن القيام بالفعل وأتمامه، حالة العجز، وفقدان القدرة، وعدم اكتمال النهاية المتوقعة التي ينبغي يقاد البطل أليها، لكنه، وفي اللحظة الحاسمة يتراجع، وينهار، ويعود القهقري الى ما كان عليه، غير قادر على أحداث التغيير اللازم، وانما يطاله الخوف ان أقدم على الأمر، فيتراجع صاغرا.
ان رؤية المؤلف، النافذة الى داخل البطل، تكشفه وتعريه وتفضحه، وبالتالي، فان البطل يكون مليئا بالثقوب التي تتخلل جسده الروحي والنفسي والفكري، ثقوب تزداد سعه كلما تقدم الحدث تدريجيا، فيتعرى بعجزه ويكون عري البطل وعدم قدرته، مصدر الرؤية الفذة للمؤلف.
.ان الانكسار والتهشم والقنوط والخوف من التقدم باتجاه الصراع الأكثر حدة بين الأبطال كما هو ديدن الدراما المعروف عند عمالقة الكتابة لدرامية: سوفوكليس، شكسبير وغيرهم، الا أن المؤلف الدرامي تشيخوف يجعل من الانكسار والأحباط والتراجع والعجز، بمثابة انثيال لرؤيته الدافقة، لا باتجاه الأبطال حسب، وانما باتجاه الواقع الذي كان يحياه، زمن روسيا القيصرية، ولا أبالغ أن قلت وللأزمنة اللاحقة لها. فالخال فانيا في نص (الخال فانيا) الذي يعشق زوجة البروفيسور، ويكره في الوقت ذاته حد المقت، ما ان يثور عليه، بقصد قتله والتخلص من استغلاله للخال طيلة السنوات التي مرت، فيشهر المسدس للقضاء عليه ، ووسط المخاوف من ثورة الخال وأذا به يطلق النار على البروفيسور، الا ان الطلقات لاتصيبه، وأنما تمرق من جانبه، فينهار الخال، ويأسف لثورته، التي لم يحقق منها شيئا الا الندم على ما جرى، وتنتهي الأحداث بعودة الخال من جديد لخدمة البروفيسور وكأن شيئا لم يحدث، وبقى الوضع على ماهو عليه.
ان الفورات العاصفة التي يمر بها الأبطال، تعبير عن رؤية بمنظور واسع لطبيعة لحياة التي كان المؤلف يتأملها بعمق، وعدم ايمانه بالانسان الذي يدعي الثورة، ويحدث ضجيجا ، لكنها في الحقيقة فورة، سرعان ما تتلاشى وتنتهي وتعود الحياة المألوفة، وكأن شيئا لم يحدث.
ان تحطم البطل، انما هو تحطم من جراء رؤيتة لنفسه، فقد تعرى البطل امام نفسه المغلفة بالايمان والقوة الكاذبة، لأنه في الاصل اكذوبة وصدقت نفسها.
يلاحظ اختلاف كلا الرؤيتين الشكسبيرية والتشيخوفية، للابطال، ولبناء الحدث والحركة التي ينهضوا بها.
لكن الرؤية باتت بعدسة اكبر عندما نطالع النصوص التي كتبها عدد من كتاب اللامعقول بدءا من نص(في انتظار كودوت) لمؤلفها بيكيت، حتى اخر النصوص، ما الذي نجده؟ وما الرؤية الفنية التي تشكلت في عقول كتاب هذا الاتجاه؟ هل كانوا ينظرون الى العالم بوصفه متماسكا ام مليء بالثقوب ؟ الم يرونه هشا، ضائعا، وكأن العالم عبارة عن رمال متحركة، فما من شيء واضح وثابت ومفهوم ومعقول، العالم يتراقص، يدور، دون فهم، بمرارة، والكل يدور بعجلة الحياة غير آبه لما يمكن ان يحدث او الذي لايحدث، فالعالم بحالة من الخوار والعبثية واللاجدوى.
ان الرؤية الفنية والفكرية لمؤلفو هذا النوع من النصوص انما جسدوا مفاهيمهم من خلال مثيولوجيا الأساطير التي كشفت عن قهر الأنسان الذي يجبر على دفع صخرة الى قمة جبل وقبل ان يبلغ النهاية تتدحرج الصخرة من جديد، فيعاود الكرة من جديد الى ما لانهاية
لقد حكم على البشرية هذا العذاب، قصرا، دون أرادة من الانسان، الذي سيبقى خانعا مذلا لأرادة غيرية تفوقه.
ان الرؤية الفنية الفكرية، انما تعبر عن درجة الوعي لهذا العالم العاج بالحركة، الغريب فعلاقاته وتفكيره وتسيده للمفاهيم التي وضعت الانسان، في اضيق نفق وما من ضوء في نهاية النفق. ففي نص اميدية التي كتبها يوجين يونسكو، جثة تنمو في حمام شقة وتكبر لدرجة تزاحم الزوجين ولايجدا مخرجا الا الهرب، وفي المستأجر الجديد قطع الاثاث تزاحم الانسان لدرجة لايجد لنفسه مكانا وانما يضيع وسط قطع الاثاث التي يزدحم بها المكان. وفي نص الخرتيت، يتحول البشر الى حيوانات الا البطل الذي يبقى يقاوم لكنه يطارد. وفي قصة حديقة الحيوان التي كتبها ادورد اولبي، شخصان يلتقيان صدفة في متنزه، ويختلفان على المقعد، وكل منهما يريد الجلوس عليه، وينتهي الامر ان يقتل احدهما الاخر.
اليس العالم كابوسيا، جاثما على الصدور؟! اليست محنة عويصة يحياها البشر في كل مكان؟ اليس من مخرج لهذا الوضع المزري؟
من هنا انبثقت الرؤية الكونية لكتاب اللامعقول، فالعالم والحياة انما هما محنة الوجود البشري، ولامخرج للانسان، في ظل وضع هالك ومهلك.
ان منظور الرؤية الفني، فكري في جوهره، وما المرتكزات الجمالية التي يتبناها من تقطيع الحوار، وتقطيع الحدث، والأعادة أحيانا، والغرائبية في الصورة، والأدهاش.
وعلى وفق ماتقدم، فان الصور المدهشة، السمعية، البصرية والحركية، تشكل استفزازا واستثارة، لشق عقل المتلقي والتغلغل فيه، أملا أن ينتبه للفجيعة ولمرارة الحياة، والانتباه للانحطاط الذي بلغ أوجه.
ان منظور الرؤية للمؤلف وللفنان يعد أمرا أساسيا في بناء العالم المتخيل.