إن الانطلاق بمفهومهِ العام – البدء – التحرك أو التحليق وفق أمكنة محددة من الأرض أو الفضاء ، حيث التحديد له قبل الشروع بهِ لحالة حصرية يراد منها؛ كـ دالة ، فالبداية معلومة من مثابة ثابتة ، لكن النهاية مجهولة ، فهذا يتطلب معرفتها أولاً حتى ومن باب التقدير .
المهمة محددة بأبعادها من حيث المسافة وقياساتها بوحدة متعارف عليها ،فكيف إذن يتجانس البعد على ضوء أغنية يترنم بها المرء وقت شدة الحزن ، هذا مانلمسهُ جلياً في ترانيم الشاعر فؤاد قادر أحمد في مجموعتهِ الشعرية “أغنيات لنهر القلب “الصادرة عن مطبعة – آرابخا – في كركوك -2007 ، والتي نأخذ منها قصيدته – أغنيات لنهر القلب ،والتي تحمل العنوان ذاتهِ- كـ ثريا للمجموعة والتي هي زبدة هذه الثيمة ، والذي رصع بها تأوهاتهِ الباذخة باحتراقه اللحن المُستعر كونهُ محترقُ أصلاً بوجدهِ ، ليطفئ بهِ ذاك الحزن المستديم، بأُغنياتٍ ؛ سواءً كانت شعراً أم نثراً ملحناً يتوافق بهما الصوت الموسيقي المصاحب لهما .
فالأغلب طابعها محاكاة للمواجع ،للأفراح معاً ، هذا الترصيع الجمالي من تأوهاتهِ وفق خطوط أعدّها ،أنسجها لدائرتي –الألم – الفرح \ العمق والتسطيح –المعلن والمخفي – العلية والسفلية \ العمودي والأُفقي . هذا يمزجهُ باليومي المعاصر عبر هذا المتن الغائر برمزيتهِ ومفارقاتهِ في التوظيف ،فالمكان دالة ومثابة في عمق الفكرة ،ركيزة وثيمة أساسية تناسلت منهما فضاءاتٍ ورؤى معمقة وكما في مخيلتهِ التي تكاد أن تنطق من مكانها، ألا وهي – المقهى – بكل نكهتهِ المعتادة والتي إنطلق منها بدالة إشارية يقول :
بمحاذاة نهر القلب الممتد من رأس الحزن لأخمص الغربة
ثمة مقهى أبعد من ضوء الروح
فيهِ شاعرٌ يطلقُ من مكامنِ وحشتهِ
ومع رحيل أواخر ذيول قرص الشمس
أسراباً من النوارس التي ثملت بعشبة الخلود
كما أسلفنا من أن الشاعر قد قاس أبعاد مخيلتهِ ومداها الصوتي الذي يصل إلى متلقيهِ عبر إستحضارات ذهنية لم يطلقها بعد ، وذاك عبر كوة من مثابة أوجدها لنفسهِ ، كأن يسميها بـ زاوية ، ركن ، قبو – فثمة مقهى – هناك مقهى يدمنُ الجلوس فيهِ ،لكن بصيغة نكرة لايود أن يطلع عليها سواهُ ، كي يستلهم لوحدهِ الرسوخ والعمق الاستدلالي لمعرفة ما يلوح بخاطرهِ من متخيلات بعيدة – كامنة في الروح ،ألا وهو – القلب – الذي إنطلق منهُ مردداً بترانيم يصل صداها لمن يستلذ بنغمة
سيالة منغمة ، وهو يمثل الغور – فالمقهى – مثابة ودالة مكانية وربما من توقيت روادها وإعتيادهم أضحت دالة زمانية؛ لكثر مايتردد عليها الزبائن بموعدٍ محددٍ مضبوط ،لذا أمست ركناً أساسياً بالتوظيف المعنوي لها وأنسنتها حتى كادت أن تميز وجوه الجلساء فيها ،كونها أيضاً مثابة إنطلاق تخيلي ،فأبعادها القياسية الممتدة – هي – محاذاة – الممتد – أي القلب – من رأس الحزن لأخمص الغربة – تخريج جميل في سطوة الضائقة والألم – فجاءت نصوصهِ كما أوصفها الأديب” فاروق مصطفى ” يستطيع الناظر في شعر فؤاد قادر أن ينزل نصوصهِ في دالتين أثنين ،دالة النصوص التي تتحدث عن أحلامهِ ، ودالة النصوص التي تتناجى مع قصائدهِ فهو يؤنسن قصائدهِ يلبسها ثياب المودة ويهندمها بهندام قامة الصباح ”
نعم فالشاعر ناور في دالتين ضمن مفرداتهِ المؤنسنة الناطقة ، وكما في توظيفهِ لهما – مرة جاءت بشكل عمودي – أي الناحية العليا من تحديد الجهة ، لذا تبقى محلقة والمتمثلة بالظرف المكاني ” فوق ” منها- السمو – الرفعة – العلو – الفضاء ، ومنها المفردات التي تثقل هذا النص المختصر مثل –رأس – ضوء – شمس – سرب – قوارب – شوارع – نوارس – وغيرها من ترصيعات لأُطر الصور المضيئة في متن فقرتهِ الأولى ، فالنوارس المتمثلة بصوتها المغرد كـ ترانيم ملحنة لنهر القلب بـ أغنيات تغريدية، ثملت بترديدها الطروب من عشبة الخلود الحية .
الشاعر بخميرة روحهِ . يصنع أرغفة
وقوارب للذين تنورسوا فوق نهر القلب
فتمايلوا مع جراحات الشوارع
والتقطوا من قاع المدينة ترانيم عشق
كانت مخبوءة
تحت صرر أحلام الراحلين
حال إستكماله التحضيرات الأولية الذهنية ، إقتعد في أريحية من نتائجهِ التي رصدها عن دراية وهو في مثابتهِ الراسخة عمقاً ” المقهى ” التي يستمد منها عصارة فكرهِ المزدحم بفوضى المكان المالوف – يؤنسن تحليق النوارس في مهبط القلب ، فتراهُ هائماً في باحتهِ المعهودة موزعاً أرغفة للجياع – قوارب للنجاة – للذين مابرحوا يعبرون مع جراحات الشوارع بترانيم عشق ،كل ماتفوه كان مخبوءاً – تحت صرر أحلام الراحلين .
هذا المقطع الغائر بأعماقهِ – مكمن الروح لذا نلمس هذه المفردات بـ ظرف المكان ” تحت ” أيضاً والتي تمثل الناحية السفلى من الجهات كتحديد مكاني ، والتي إنسابت منها المفردات الجوانية – مثل – الروح –القلب – أخمص – ذيول – أواخر – صُرر –أحلام – مخبوءة – ترانيم –عشق – جراحات.
يقول جاستون باشلار”في العلية تمحو تجارب النهار دائماً مخاوف الليل.في القبو تسود الظلمة ليل نهار ،وحتى لو حملنا شمعة فسوف نرى الظلال تتحرك على الجدران القاتمة ” فالبعد الدلالي هو أن الأشياء العلوية مضاءة ومشعة لفظاً ومعنى ورسماً ، أما الأشياء السفلية –التحتية فهي معتمة من رسمها الذي نحن بصدده الآن .
هذه هي إرهاصات الشاعر بنصهِ الإستدلالي المكثف القصير حيث الصور تتوالى تباعاً مؤلفة كماً هائلاً من لقطات ملونة بفرح غامر وأنين مكبوت لهماُ صداهُ العميق والإرتدادي بمكمنهِ الأبدي .
عدنان أبو أندلس : المقهى دالة إشارية وثيمة للمكان؛ الشاعر فؤاد قادر أحمد في قصيدة ” أغنيات لنهر القلب “
تعليقات الفيسبوك