إشارة :
رحل الشاعر العراقي المبدع “وليد جمعة” في المنافي البعيدة من وطنه العراق الذي أحبه وعشقه، وكان قضيته الوحيدة التي التزم بها بخلاف كل الإيحاءات السلوكية “العبثية” التي كوّنها عنه الكثيرون ممن عايشوه. تكريماً لذكراه ولعذاباته ومنجزه الشعري المهم، الذي لم يحظ بالمتابعة النقدية التي يستحقها تطرح أسرة الناقد العراقي هذا الملف عنه، وتدعو الأحبة الكتّأب والقراء إلى رفده بالدراسات والمقالات والصور والوثائق المتوفرة لديهم.
المقالة :
صــديـقـي ولــيد جمـعــة..الشــاعر الإنســان.. وداعــا
برهان شاوي
سبعة أشـخاصٍ يجرونني
(سبعتهم بالرغم مني …رفاق..!)
لكننـي تـعـوزني حــفرة
في أيمـّـا مـقــبرةٍ
فـي الـعـــراق.
من قصيدة للراحل وليد جمعة..
قـرأت قبل قليـل في صفحـات أصــدقائي العراقيين في الدنمــارك نعيـا للصـديق الشاعر وليــد جـمــعــة..!
صحيح أنني لم أتواصل معه منذ سنين لكن لوليد جمعـة مكانـة راسـخة في ذاكرتي الشعرية والإنسانية.. ولا أعتقـد أنني الوحيد الذي يمنحه هذه المكانة في النفس والذاكرة، فكل من عرفه يتذكر مرحة وسخريته المرة، ونقده السياسي والإجتماعي اللاذع والوقاد، ومشاكساته التي تغضب بعضهم أحيانا، وثقافته الواسعة والعميقة. إنه أحد فرسان شعراء الستينيات، ومن الشعراء الذين سخروا من المشهد الشعري العراقي الرسمي، وفضلوا العزلة، لكنهم بقوا في وسط الدوامة، دوامة الشعر العراقي، والثقافة العراقية الأصيلة، وفي دوامة الحياة.
تعرفت على وليد في بداية السبعينات من القرن المنصرم حينما جئت إلى بغداد مغادرا مدينتي الكوت، تعرفت عليه في “مقهى المعقدين” حيث كنا نتحلق، نحن الشعراء الشباب المبتدئين، حول الشاعر المتميز عبدالرحمن طهمازي، كنا حينها نستمع لنكاته وسخريته من (الجبهة الوطنية) بين البعثيين والشيوعيين، برغم ميله الواضح لليسار بشكل عام، وتعاطفه مع ليف تروتسكي (النبي المسلح والنبي القتيل بسحب تسمية أسحق دويتشر)، ومع الثورة العالمية..!
ودارت بنا الحياة دورتها، وحين غادرت العراق بعد اعتقالي مشيا على الأقدام إلى سوريا، ومنها إلى بيروت، ووقفت سيارة الجيب العسكرية أمام مبنى الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين في الفاكهاني، ونزلت منها، التفت لأرى وليد جمعة مع أصدقاء عراقيين آخرين جالسين في المقهى الذي يستكين تحت المبنى..!
وهكذا صرنا نلتقي كل يوم، في مقهى أم نبيل وفي التوليدو، أو نجلس في صالون حلويات أبوعلي، أو في بيت الشاعر مؤيد الراوي وزوجته فخرية صالح، أو في البيت الذي كان يسكنه الفنان قاسم الساعدي وزوجته ومعهم أسماعيل زاير والشهيد ماهر كاظم، وفي بيوتات أخرى..
وكنا كثيرا ما نزور دور السينما لنتابع الأفلام الجديدة، بل أحيانا نذهب سوية في مغامرة إلى منطقة التماس بين بيروت الشرقية والغربية في وسط البلد؛ لنشاهد أفلاما في سينما (التياترو) المهجورة، برغم وجود قناصين من الجهة الشرقية.
كان مغرما بالسينما وعارفا بتفاصيلها وعاشقا لإيليا كازان ومارلون براندو. كانت ثقافته السينمائية مذهلة لم أجدها عند شاعر أو كاتب بمثل ما كانت لديه، كما كان قارئا عجيبا، بل كان أحيانا لا يقرأ الكتاب أو المجموعة الشعرية وإنما يتصفحها، ومن ثم يقول جملته النقدية التي تزن، مثل ميزان الذهب، ذلك الكاتب أو الشاعر أو الكتاب، أو لتخلخل الميزان!
كتب الكثير من الشعر لكنه لم يجمع قصائده في كتاب. نشر في مناسبات قليلة بعض النصوص الشعرية. وكان الكثير منا يحفظ قصيدته الشهيرة (الأعــدقاء)، بل ونتذكر قصيدته الرائعة والغاضبة التي كتبها في الـشهيد (خالد العراقي – عادل وصفي) الذي اغتالته المخابرات العراقية ذات صباح في بيروت حينما كان يذهب بطفلته إلى الروضة القريبة من سكنه..
وحين قرأت نعيه قبل قليل، لم أجد سوى أن أفتش في صناديق ارشيفي لأجد له قصيدة غريبة نشرت في العدد الأول من مجلة (رصيف 81) التي أصدرها الشعراء الصعاليك في بيروت وبرئاسة تحرير الشاعر الشهيد علي فودة.. وكأنه كان يرى موتـه رؤيا.
“الـعـبـئـريـّون” ســيرثـونـنـي
ملثـمٌ بالـمـوت
عنـدي مراسـيم لدفنـي من يـد القابــلة
أقـيـس مـسرى قـدمـي بيـنه
وبيـن جــذب الأرض للـسـابـلة.
أنا الـذي لا أحـذق القهـقهـة
أفـقـأ عـين الـفرح المـشبوه إذ يرتقـي
سـطح مناخـاتي ويعتـادهـا
وعـندما تغـشّني غبطتـي
قـد أفرك الأيام من أذنهــا
أخبــرهــا
– غـبَ إلتقـاء الشـمـس بالمـزولـة :كـوني كمـا أنت.. رداء الـشـجن
وخـطـوة تعبـى عـلى مفـرقٍ مرتطـمٍ بالجنـون
حـذار أن تألفي
وشـوشة المهـد، ففي عصرنا
يتأتأ المولود، يحبو، يرى
سـُرتّه في رحـم المقهى
حيث يحزّ الأرض.. يحتازهـا
في دولة الشـوارب الكثـّة
وبين وقع النرد فوق الخـشب
ونشرة الأخبار والمخبرين
تختزل الأسنان تأريخهـا
وتوقف الضغط على اللثـة
ملثـمٌ بالمـوت
عندي لـه: عـدّته البغيضة الرثـة
زجـاجةُ السمّ ومرثيةٌ
– ملحوظة عن عتعتات الزمن –
شخصٌ سيستجدي نقود الكفن
سبعة أشـخاصٍ يجرونني
(سبعتهم بالرغم مني …رفاق..!)
لكننـي تـعـوزني حــفرة
في أيمـّـا مـقــبرةٍ
فـي الـعـــراق.
وليد جمعة..صديقي.. وداعاً
*عن صحيفة العالم