عصام القدسي : ربما..لا أدري

osam-alkudsi1توقفت سيارة النجدة ، أمام منزل الحاج ابو محمود . ترجل منها ضابط شرطة برتبة ملازم ثان ، بينما ظل السائق وشرطيان في داخل السيارة ينتظران. تجمع أنفار من سكان الزقاق يراقبون ما يجري ، باندهاش . طرق الضابط الباب ، فتحت زوجته العجوز تبادلا كلمات قليلة ، وأفسحت له الطريق فدخل .وقبل أن ترد الباب ، أشارت على أحد الصبية ، أن يهرع إلى المقهى القريب ويبلغ الحاج بالحضور. في هذه الأثناء تجمهر مزيد من الأشخاص أمام السيارة ، متسائلين بحيرة عن الأمر. وعندما لم يجدوا جوابا انفضوا ، ينقلون ما شاهدوه. فانتقل الخبر من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع ومن دكان إلى دكان ، حتى شاع في المحلة جميعا بسرعة البرق وانتقل إلى المحلات المجاورة.
كان الحاج محمود يجلس في المقهى مع بعض الأصدقاء حين دخل الصبي وأعلمه بتفاصيل الخبر ، فانتفض كالملسوع…
قال له أحد جلسائه :
– تظن ما السبب .؟
– لا أدري.
قال ثان :
– لا تقلق .. اذهب واستعلم الأمر.
قال آخر:
– خير ، إن شاء الله ..
هب الأول واقفا وقال بحزم :
ـ- سآتي معك .
لكنه أمسك به وغمغم قائلا :
ـ- بل أذهب وحدي ..
خرج الحاج محمود من المقهى مترنحا ، وسار في السوق التي تقع فيها المقهى وتجسدت أمامه كشبح مخيف ، القضية التي واجهته قبل سنوات وخضع فيها للتحقيق المرير مرات ومرات ومضى يسترجع في ذهنه أدق تفاصيلها ، وكيف انتهت ببراءته .. فقد كان يعمل في شركة بناء حكومية، واكتشف مصادفة ، أن هناك اختلاسات تجري أمام عينيه دون أن ينتبه ، وأوراقا وصكوكا تزور. فثارت حميته ولجأ إلى المدير العام فطمأنه بأنه سيتصرف بمعرفته ، ثم تبين له أن مدير الشركة وراء الفساد مما اضطره إلى رفع الأمر إلى الجهات العليا .استجيب طلبه ، واستدعي أول الأمر كشاهد في القضية ،ثم وجد نفسه متهما فيها. وكادت مجريات الأمور تنتهي به إلى السجن لولا عناية الله ولطفه . كانت أفكاره تتوالى مع وقع خطواته . ثم توقف بسيره لحظات أمام السؤال التالي ” ترى هل فتح التحقيق فيها ثانية بعد كل تلك السنين .؟ “. تحامل على نفسه ومضى يسخر من هواجسه ،وعاد يفكر بالمرات التي دخل فيها مخفرا والمرات التي استدعي إليه ، فوجدها تكاد لا تذكر. وما زال تائها مع أفكاره حين سمع من ورائه صوتا جهوريا كان صديقه أبا سرحان” بائع التبغ يهتف به من داخل دكانه الضيق : – يا حاج .. ما هذا الذي نسمعه.!!
رد عليه من دون أن يلتفت :
– والله لا أدري ..
– أيكون محمود ..لا سمح الله … ؟
فأجابه وهو يبتعد:
– محمود التحق بعمله في الكوت منذ مدة.. وليس في البيت إلا أم محمود وسمير وهو فتى طيب كما تعلم ..
هتف الصوت الجهوري متسائلا:
– إذن .. لابد من سبب .
– ربما .. لا أدري .
انتهى من السوق ، وأصبح بمواجهة الشارع .وتذكر هذه اللحظة المرة التي استدعاه ضابط المخفر ببلاغ رسمي وحين ذهب تبين أن الاستدعاء كان سببه تشابها في الأسماء ليس إلا ، كان ذلك منذ زمن بعيد . وكاد يبتسم ولكنه تذكر ما هو فيه من ورطة الآن ، فعادت ملامحه إلى التجهم .عبر الشارع ، مهموما على غير ما عرف به من طيب مزاج وانشراح. واستوقفه جار له ، واستفسر منه عن الأمر فأجابه بأنه لا يدري ، لكنه ألح عليه بالسؤال :
– أ يكون مالك البيت ..عاد يطالبك بإخلائه.؟
– الأسبوع الماضي حللنا الخلاف وأعطيته زيادة على الإيجار.
– ربما تراجع عن الذي اتفقتم عليه، وقدم ضدك شكوى .؟
أجابه الحاج بنبرة واهنة :
– ربما ..لا أدري .
عبر الشارع شارد الذهن ، ومضى يقطع الزقاق . يا سبحان الله كان مترددا هذا الصباح في الخروج من البيت ، كما لو أن قلبه يعلمه بما سيجري . وسمع من فوقه صوتا متحشرجا يخاطبه قائلا :
– لا أحد يرغب بإلحاق الأذى بك سوى ذلك النذل .
رفع رأسه إلى الأعلى ، كانت ” أم نادرة ” تطل برأسها من المشبك الخشبي لشناشيل منزلها العتيق. و”أم نادرة ” هذه المعمرة الوحيدة في الزقاق والتي تحفظ تأريخ المحلة ظهرا عن قلب وتشهد له بحسن السيرة والسلوك سألها وهو يتأنى بخطوه : – من تقصدين .؟
قالت بعصبية مفتعلة :
– إسماعيل زوج ابنتك نهى .. ومن غيره .
ودون أن يتوقف عن سيره قال لها :
– إسماعيل أخذ زوجته قبل يومين ومضى .. بعدما رتب أموره واستأجر لها دارا ، بعيدا عن أهله .
لاحقه صوتها :
– إذن من يكون .؟
أجابها ـ لا أدري .. لا أدري .
وصل الحاج بيته . توقف أمام سيارة الشرطة ذاهلا ، يمعن النظر داخلها وسأل أحدهم لكنه لم يتلق جوابا. وجد الباب مواربة ، دفعها ودخل . تلقته زوجته عند المطبخ الذي يقع في الممر. فأخبرته ،بأن ثمة ضابط شرطة في الداخل ينتظره. سألها بقلق:
– عرفت السبب .؟
قالت وهي تكتم أمرا :
– ستعرف منه السبب .
دخل الحاج ابو محمود غرفة المعيشة ، فوقع بصره على الضابط كان شابا متين البدن يجلس باعتداد على حافة الأريكة وإلى جانبه ابنه الفتى سمير. ما أن وطئت قدما الحاج ابو محمود أرض الغرفة حتى هب الضابط الشاب واندفع نحوه ، ومد يده مصافحا ، تراجع الحاج قليلا إلى الوراء ، أمام المفاجأة . هتف الضابط بغبطة وهو يعانقه:
– كيف حالك يا خال!!
فرد مرتبكا: ـ مـ .. مـ .. من .؟
– أنا أحمد يا خال .. الطفل الصغير الذي رأيته قبل أكثر من عشرين سنة .
– أحمد من .؟
قال وهو يعود إلى مجلسه ـ ابن صفية .. ألا تذكرني .؟
عاد يسأله بذهول : ـ صفية من .؟
فردت الحاجة ام محمود التي كانت تقف عند الباب :
– أختك ياحاج..
جلس الحاج ولبث يستجمع أفكاره :
– آه ..صفية . كيف هي . ؟
فأجابه وهو يبتسم:
– بخير ..الجميع بخير .
وراح الضابط الشاب ينهال عليه بالأخبار ويسأله والحاج يجيب لا على التعيين .فيصيب مرة ويخطئ مرات. وظلا على ذي الحال وهما في حديث سجال .. وهب الضيف مستأذنا بالانصراف وأمام تشبث الحاج به ، تذرع بزحمة مشاغله واعدا بزيارة ثانية وثالثة ورابعة ، مادام قد عين في العاصمة، ومقر عمله أصبح قريبا من هنا .. بعدما غادر الضيف التفت الحاج محمود إلى زوجته وسألها مستغربا :
– ألم تمت صفية .. قبل سنوات .!!

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

| عبدالقادر رالة : زّوجي .

    أبصرهُ مستلقياَ فوق الأريكة يُتابع أخبار المساء باهتمام…      إنه زّوجي، وحبيبي..     زّوجي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *