محمّد خضيّر : محاورات حديقة زينب (1) (ملف/1)

mohammad khdier 4إشارة :
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ بنشر هذا الملف عن المبدع الكبير القاص والروائي المجدّد “جمعة اللامي”، الذي طبع بصمته السردية الفريدة على الخارطة السردية العربية من خلال منجزه السردي الفذّ. تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتّاب والقرّاء كافة للمساهمة في هذا الملف، بما يتوفر لديهم من دراسات ومقالات ووثائق وصور وغيرها، بما يُثري الملف ويُغنيه. تحية للمبدع الكبير جمعة اللامي.

النصّ : 

( بين ميسان والسماء
عرف الفتى الأسماء .
صار هو الأسماء )
ج.ل

(1)
مجنون زينب
في زيارتي الثانية لدولة الإمارات المتحدة , مايس/مايو 2006 , أقمتُ بشقة جمعة اللامي أسبوعاً , وبات تسجيل أحاديثي مع الروائي العراقي المقيم في الشارقة شاغلاً يؤرق ليالي قربي من كائن سردي باعدت بيني وبينه الأهواء والمصادفات , وشدتني إليه رغبة البوح والمسارّة , فإذا بهذا الانشداد ينتهي بفراق عسير انتزع معه براعم المحاورة التي ما كادت تنمو حتى سقطت في نهاية اللقاء القصير .
اقتنيتُ جهاز تسجيل حديثاً , صغير الحجم , وخرجنا في نزهات ليلية إلى حديقة قريبة من الشقة , نستبق حوارنا المأمول بحديث تتخاطر فيه الأفكار والذكريات ,خلال مشينا حول محيط الحديقة الدائري . إلا أننا لم نسجل كلمة واحدة من هذه الأحاديث التي بدأت تتقدم وتتراجع وتتسابق , لكنها لا تتطامن وتقترب وتنمو نمو العشب في الحديقة الدائرية الهادئة , حديقة زينب , كما فاجأني جمعة بتسميتها .
طفنا حول مركز البوح الذاتي مرات, متسابقين إلى قطب الرحى نلهمه حصيد أفكارنا , ثم نرتد عنه خائبين . كان شقّانا القريبان جداً من بعضينا يأبيان أن ينفصلا إلى طرفين متحاورين متقابلين وجهاً لوجه , حتى تسرب التعب إلى قطبينا , ودارت رحى الليالي الستّ خاوية من طحيننا . jumaa
كنت أخشى أن يتصاعد صوت الطحن الدائري فيهصر هدوء الكائنات المستلقية في أحضان حديقة زينب , بل تراءت لي طلعة البتول في أكثر من وجه دائر عكس دوراننا , ثم استسلمتُ لسكون الحديقة في غبش الليل , وقررت أن أستأنف حوار شقيّ الرحى المتلاصقين في حديقة خاطري المقابلة لحديقة زينب عندما أعود إلى البصرة . وبينما خرقت رصاصات طائشات عباءة الليل العراقي , استمر في سريرتي حديث الليل البعيد هاباً من جهات الشارقة المبسوطة على بحر الطمأنينة والسلام .
كان جمعة اللامي واقفـاً مني موقف القرب , فتحتم أن أتلـو على مسامعه نص النفري : (( أوقفني في القرب وقال لي: ما منّي شيء أبعد من شيء , ولا منّي شيء أقرب من شيء , إلا على حكم إثباتي له في القرب والبُعد . وقال لي : لا بُعدي عرفت , ولا قربي عرفت , ولا وصفي كما وصفي عرفت . وقال لي : قربك لا هو بُعدك , وبُعدك لا هو قربك , وأنا القريب البعيد , قرباً هو البُعد , وبُعداً هو القرب . وقال لي : القرب الذي تعرفه مسافة , والبُعد الذي تعرفه مسافة , وأنا القريب البعيد بلا مسافة )) .
ثم فتحتُ باب الحديث , وقلت :
ـ حياتك أبواب : باب السكر , وباب السجن , وباب المنفى , وباب التوبة . أين أدركتَ زينب ؟
ـ حملتُ زينب تميمة وعبرت هذه الأبواب . كانت ظلاً وحساً ورؤيا , ثم صارت مرآة في صحفي أرى فيها نفسي . لقد نسيتَ في تعدادك باب الحرف . حروف اسمي دخلت في حروف اسمها كما تدخل الصورة في المرآة . فنحن متعادلان بعدد الحروف وواحدنا يعكس اسم الثاني ويتلبس حروفه .
ـ حديقتنا محيط أخضر بقلب أبيض , وجوهر بسيط ساكن في صدفة العالم , ونحن ندور حوله ونتحاور في هذا الشطر من الليل . قل لي لِمَ قطّعتَ نصوصك إلى أجزاء , وشققتَ رؤياك إلى شقوق ؟
ـ أبدأ من ذيل سؤالك . إنها المشقة يا صديقي , مشقة السفر والفقر والحصر , شقّت نصوصي وعسّرت ولادتها . ولولا رحمة الله وإلهام نورانيته لما خرجتُ بشقّ واحد من مشقتي يصلح للقراءة . إذ بعد سيري وجرياني في نصوص الثلاثيات العراقية , عدتُ طفلاً أتلمس طريقي في نصوص المقامات اللامية والحدائق الزينبية والرؤى الحجازية . صرتً مثل نغمة كلما خرجت من مقام (( العراق )) وجهتها آلة النغم إلى مقام (( الحجاز )) كما يقول الشاعر (جامي ) .kh jumaa allami 3
ـ ويقول الشاعر ( كبير ) إن الخليقة بأجمعها موسيقى , فأنّى وقفت جرفتك نغمة العشق إلى قلب الخليقة . هل تتساوى نغمة الخليقة مع عشق النص ؟
ـ نعم , ودليلك على ذلك كتاب (زينب) . كل أشطاره نغمات عشق صادرة من قلب يخفق بحب الخليقة ورب الخليقة , وما نغمة الخليقة إلا مجاز يؤدي إلى نص الحديقة . فسبحان من وحد النغمات, وآلف بين قلوب العشاق, وألهمنا كتابة الجزء في محبة الكل .
ـ وماذا تتذكر من طور ( اللامي ) في نغمات نصوصك ؟
ـ اللامي طور ولدت منه نصوصي الأولى , ولن أبدل به طوراً آخر حتى تتبين النغمة الجهيرة من النغمة المستترة في عود الخليقة . فهو دليلي إلى شجن مملكتي العمارية , إيشان ولادتي ورغيف أمي وخنجر أبي . ذلك قبل أن تطلقني نغمات الخليقة في متاهات العالم الكبرى . حين أنصت اليوم لا أسمع إلا صدى بعيداً من قصبات ذلك الطور , فأنتشي بمقام البعد وهو قريب .
ـ وهل أنت المجنون ؟
ـ أنا ((مجنون الزمان)) يقتبس ناراً من موقد مهجته , ويصبها كلمات على قرطاس محبته وعشقه . أنا مجنون بحب (( الباز )) الذي أخذ من ( زاي ) زينب تاجاً لرأسه , ومن (بائها) ريشة لجناحه , وترك لي حرف (الياء) أتخذ منه قلماً أسـطّر به جنون عشـقي على قرطاس ( النون ) . أنا مجنون الحروف .
ـ بدأت أصدّق أنك مجنون اللغة . إنك مثل صوفي ينشد رفع الحجاب عن سر الكلمات , وهو يستبيحها من حيث يعتقد أنه يصون طهرانيتها . ألا تعتقد أن للغة الروائية الحق في أن تعيش وراء حجاب ؟
ـ بلى وأيم الحق . ولكن من أين اصطباري وكتابتي لا ترتوي من دلاء القواميس وحكايات الأسلاف ؟ كلما استبحتُ حجاباً من حجب الرواية ازداد ظمأ لغتي إلى أغوار شعريتها . فالاستباحة على قدر الإباحة, وما يُخرق من طهرانية اللغة يقابله القارئ بالغفران . كتابة الرواية تجربة مؤلمة , ولا بد للتجربة من أن تُثخن بالجراح كي يصلب عودها .
ـ في قسم من ( مجنون زينب ) يأخذك شيخ من يثرب إلى حوش فيه غرف سبع , وبعد موت الشيخ الأول تلتقي شيخاً غيره في الغرفة السابعة , يأمرك باقتبال الجدار ومحو نفسك . كم قيّدتَ من أطوار وأحوال , وهل بلغتَ مرحلة المحو في كتابتك ؟
ـ لم أمح شيئاً , إنما علّقته على أسمائي , واقتبلتُ نصوص المحو بطهارة الوضوء والعرفان . هذا قانوني في الكتابة , المراوحة بين جدل قيد الماضي ومحو أخطائه وآثامه . ولكي لا أتردى في هاوية النسيان , وهو المرحلة الأخيرة من مراحل المحو , قيّدتُ أحوالي وأطواري بقيد أسمائي , فهي دلائل حقيقتي , وعنوانات كتابتي .
ولما أتممنا بهذا الجزء من أحاديث حديقة زينب طواف الليلة الأولى , أسفر الصباح فأشار لنا طائر ( الباز) بالانسحاب والخلود إلى النوم .

يتبع

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *