مأساة القطار،التي شاع ذكرها يوما، لا تفارق مخيلته كما لو إنها حصلت بالأمس. كانت بالنسبة له صدمة كبيرة ، ورغم أنها حصلت بسببه ، يحسب انه حكم عليه بالسجن ظلما . وملخص ما حدث انه تسبب بسقوط مسافر بين العجلات حين نسي أن يغلق احد الأبواب،وهو ينتقل عبر عربات القطار مدققا بتذاكر المسافرين .ومنذ ذلك الوقت صار ينسى أمورا مهمة تتعلق بحياته ، فعلى سبيل المثال هو لا يتذكر من أمر بإعادته الى الخدمة التي صرف منها بعد الحادث، ومتى سلمت له هذه الحجرة التي تقوم وسط عراء لا يرى من نافذتها سوى عدد قليل من بيوت خاملة تقع عبر شارع ترابي.فقد أوكل له مراقبة سارية قديمة تقوم على مبعدة أمتار من الحجرة،يمر من أمامها كما ذكروا له قطار حمل قديم محمل بالفوسفات يجيء من مناجم تقع الى الشمال لينحدر الى الجنوب . يومها رضي بعمله الجديد ورأى فيه فرصة للهرب من قسوة من أحبهم ،وتخلوا عنه ساعة محنته ولم يحاولوا أن يجدوا له عذرا. وهاهي الأيام تفر من بين يديه وهو لا يفعل شيئا ،سوى أن يشنف آذانه في الفضاء والإصغاء لصوت صفارة القطار الذي كان من المفترض أن يمر من هنا،مرتين في الأسبوع على اقل تقدير ،ليهرع الى السارية فينزلها..وقد طال انتظاره،وتشوق لرؤية قطار الحمل هذا كي يتمكن من ممارسة عمله فهو يريد أن يحس بان لوجوده في هذه الحجرة الموحشة معنى . وكيف لا وقد أصبح السأم حبلا يلتف حول رقبته.. وحن لعمله السابق، إذ كان يجوب العربات ليلا وأثناء النهار،فيرى الدنيا بجموع المسافرين بأفراحهم وعذاباتهم ومرحهم وسعادتهم،وبقلوبهم الموزعة بين الشوق للقاء وحرقة الفراق ،تنطق بها وجوههم وأحاديثهم وابتساماتهم ودموعهم في بعض الأحيان..كان يومها يخطر ببذلته الزرقاء المزينة بالأشرطة الملونة ،فقد كان يحرص على أن تكون نظيفة مرت عليها المكواة لتبدو أنيقة فيحس بالزهو وهو يرى نفسه بهيئته هذه محط أنظار الجميع أينما توجه وموضع احترام زملاء المهنة وخاصة من هم اقل درجة منه.إذ كانوا يرونه طائرا مهاجرا يطير مع عربات القطارات المحلقة في الآفاق لا تثقل جناحيه الأعباء حتى بات زاهدا بعمله عن متع الحياة،ومنها حلم راوده يوما ما، بان يتزوج وتكون له أسرة ،وكان يرى زملاءه من المتزوجين تحاصرهم الهموم فيضحك ويرجئ حلمه الى حين آخر،حتى فات الأوان. ورغم ذلك فهو لا يدري كيف بكى ذات ليلة حين شم عطرا نسائيا مميزا يفوح من أعطاف امرأة رقيقة كسحابة ،رآها في إحدى جولاته بالقطار، كانت على مقعدها تغفو بسكينة واطمئنان كملكة من ملكات حضارة قديمة. ليلتها لم ينم وراح يبحث عن امرأة تشبهها أنوثة،ثم نسي الأمر .حتى رأى ذات يوم من حجرته من ظنها هي ،شاهدها تطل من احد تلك البيوت في الناحية الأخرى من الشارع تقف عند عتبة منزلها ترش أشجار الحديقة وأزهارها بخرطوم الماء المتدفق ورسمها له ظمأه بيضاء مضيئة وقد الصق الهواء الذي يهب ثوبها بجسد مكتنز،لتبرز انحناءاته وتكوراته وراحت صورتها تسكن خيالاته ،ثم اخذ يراها كثيرا تقف وقفتها تلك،وتمناها مثلما تمنى أن يجيء القطار فيهرع لاستقباله ليبوح له بوجده وهيامه،لاشك انه سيكون هناك متسعا من الوقت ليقف لحظات ويصغي له،ما دام يمر كسولا متراخيا . ثم توالت الأيام ولم يأت القطار فبات متيقنا انه ينتظر الذي لا يجيء.وكاد يتمرد لولا طيفها الى جانبه ،يصبره.. وكم ظن عبثا إن القطار ضاع في البراري أو سرق ،ثم عاد يستخف بأفكاره تلك.وخيل له ذات ليلة ،وهو يغفو في سريره انه يسمع نقرا على باب غرفته وحين خرج رآها تقف على عتبتها،وهي تحمل الطعام إليه والبدر يلقي بنوره على قسمات وجهها فيشع بهاء ،بُهِت ولم يصدق عينيه وساوره الشك بما يرى ثم شاهدها تمرق الى الداخل ،وتضع الطعام جانبا وتجلس على حافة فراشه،وكادا يهمان بأمر ما حين سمع القطار يشق صوت صفارته أرجاء المكان، وعجلاته تزلزل الأرض من تحته..وفز من نومه فوجد ضوء الشمس يملأ الغرفة ،اطل برأسه من النافذة الصغيرة كان الصمت والسكون يخيم على الأرجاء وراح يسترجع ما حلم به بالأمس ثم قرر أن يذهب الى دائرته ليستعلم عن أمر القطار الذي لا يأتي…
عصام القدسي : قطار الحمل ..
تعليقات الفيسبوك