المقدمة
بدءاً نتساءل : هل يمكن لمنظـّر أو ناقدٍ أن يرسم خارطة سياحية يهتدي بها من يشاء لتوصله إلى مملكة الشعر ؟ بمعنى آخر هل يمكن لمن شاء أن يبحث عن نظرية تدله على أن يكون شاعرا ؟
لا شك إن كل محاولات تدجين طائر الشعر ووضعه داخل شكل هندسي محسوب الأبعاد قد فشلت ولم تنجح في إيجاد مسار أو تعريف جامع مانع للشعر لذلك بقيت فضاءآته رحبة مفتوحة على آفاقها غير المحدودة وغير المقننة وظل كل ما كتبه النقاد والمنظـّرون عملية ( بعدية ) تعتمد على ما أُنتج في وضع تقنية تنظيرية ، لم يخرج احد عن هذه البديهية ولم ينجح احدهم في نقل تقنياته من مصاف التنظير إلى مصاف اليقين في تحديد آليات الشعر وماهياته وبذلك ظلت الذائقة والمران والتجريب مهيمنات على تأويل الشعر وفك طلاسمه فأزاحت هذه الهيمنة حدود الشعر نحو لا نهائية تأويله والذي اوجد مساحات شاسعة للشاعر في أن يقول ما يريده دون أن يضع نفسه في زاوية حرجة ، هذه التعددية التأويلية ركنت نفسها بجانب ( نسبية نيوتن ) التي ابتكرت تبريرات لا نهائية للقول ومخارج عديدة من محنة الحرج لذلك بقيت كل التأويلات عبارة عن مقاربات لا تلامس فعل اللحظة التي بثها رد فعل الشاعر المُنتج للنص الشعري .
واحسب إن متون هذا الكتاب لم تستطع أن تتجاوز مديات ما أشرتُ له وحسبها محاولات للاقتراب من مملكة الشعر دون الدخول إليها أو كشف حقيقة ماهياتها التي تظل عصية على الجميع والى ما لا نهاية وسيظل كل ما كـُتب عن الشعر هو قراءات تفيد في إضاءة بعض من مهيمنات الشعر والياته ومحاولات للامساك بمقومات نصية ظاهرة وبحث طرائق نصية يقدم الشعر من خلالها دون تعميم يفترض نهائية التأويل أو الوصول إلى منصة الانطلاق الأول للشعر عند الشاعر .
انفتح هذا الكتاب على مقدمة وفصلين وخاتمة ومسرد للمصادر والمراجع ، وقد تضمن الفصل الأول ( في الشعر ) : خمسة مباحث عنيت بالشعر كمنتج متحقق يراد دراسته من خلال تحققه وليس عملية ( قبلية ) تـُلزم الشاعر بما حققته بنفسها ، في المبحث الأول الذي تحدث عن المعنى الاصطلاحي على اعتباره معنى معياري ، ساكن ، محدود التأويل والمعنى الحركي على اعتباره معنى فني ، متحرك نحو التأويل اللامحدود اكتسب حركته من تعدد تأويلاته ، والمبحث الثاني الذي تناول اللحظة الزمنية الهاربة من سطوة الحساب الزمني ، اللحظة الجمالية المنبثقة من لا وعي الزمن للحدث والمنوطة بزمن الخيال الشعري عند الشاعر ، اللحظة التي لا يمكن الإمساك بها عند انبثاقها أو إعادتها مهما اجتهد المتلقي إلا في حالة التوحد التي تحتاج إلى متلقي عبقري يعيد عبقرية هذه اللحظة بجمالها ويكررها على نفسه ، المبحث الثالث الذي أحال صوت الحدث المكتوب إلى صوت حدث مسموع ومرئي يتكرر مع كل قراءة مهما تباعدت أزمانها ويحوّل الصوت من آلية الإيحاء المقروء إلى آليات الواقع المعاد سينمائيا بصورة ناطقة مرئية يمكن مشاهدتها كلما تكررت القراءة ، مبحث ثالث يهدي إلى اقتناص زمن اللحظة الجمالية وخصوصية هذا الزمن أما المبحث الرابع فقد كرسته عن الخطاب الشعري وتجليات تأويلاته التي تحيل المتلقي وتغويه وتستغفله إلى ما لانهاية وتخدع المتلقي بصدق تأويله الذي يحتاج الشاعر وقوف المتلقي المخاطـَب عنده والاكتفاء به ليأتمن الشاعر ضرره ويحتفظ بقصدية تأويله إلى زمان آخر ومتلقي آخر .
الفصل الثاني ( نماذج تطبيقية ) : وفيه عشرة مباحث قرائية لقصائد شعراء أجد فيهم ظاهرة تدعم اختياري لهم وقد حاولت إيجاد مبررات لزعمي على إنهم ظواهر تستحق الإشارة حسبما افترضته فمثلا استفدت في تأييد زعمي إن اغتراب الشاعر عن وطنه لا بد أن يشكل ظاهرة في منتجه الشعري فتناولت الشاعر العراقي ( سعدي يوسف ) على اعتباره من أوائل الشعراء المغتربين واكتشفت التعالقات الشخصانية في شعره الذي ما انفك ارتباطه مع حاضنته الأولى قبل الاغتراب فوجدت المفردة الماضوية تسيطر على تأثيث المشهد الشعري ، الحكاية المثيولوجية الشعبية وتطعيم القصيدة بمفردات مكانية جديدة لا تؤثر كثيرا على طفولة القصيدة ومكان نشأتها مهما حاول الشاعر في إحداث مغايرة مكانية في بناء مشهده الشعري كما نجده في المبحث عند الشاعر المغترب ( باسم فرات ) ، وفي المبحث الثاني تحدثت عن مدى تأثير المقدمات الحكائية أو الاشارية التي تتصدر النص الشعري واستدعائها من خارج المتن لتساهم في إثراءه واعتبرت الشاعر ( خزعل ألماجدي ) أنموذجا لهذا الاستدعاء على اعتباره من أكثر المستخدمين للمقدمات كصدور لنصوصهم مستفيدا من حفرياته وتنقيباته في التراث الإنساني وحددتُ أهمية هذا الاستدعاء وخطورته ـ في الوقت نفسه ـ التي تسوق النص نحو محدودية تأويله لتوقعه في مطبات المعنى المحدود والمنمط في موضوعة المقدمة أو الإهداء وبالتالي تؤدي إلى خصخصة النص الشعري ، وفي المبحثين الثالث والرابع تناولتُ محاولات بعض الشعراء في الاستفادة مما يخزنه العقل الجمعي من مفردات أو دوال أو رموز تحيل إلى حكايات راسخة ومستقرة يحاول الشاعر ( معد الجبوري ) في زحزحتها وتحويلها إلى دوال جديدة يفترض لها معطيات أساطير ثابتة الحكاية ، كذلك الشاعر ( إبراهيم البهرزي ) الذي غلب على شعره الغموض المعرفي المستنبط من ايحاءآت الفلسفة وإحساسه بالاضطهاد والخوف من أن يقول ما يـُفهم تحاشيا للضرر ، وفي المبحث استفدت من دخول الدكتورة ( بشرى البستاني ) الى عالم الشعر من باب النقد وسطوته التي مارستها على غيرها وحاولت الوصول إلى أقصى قدرتها النقدية ومسطرتها القاسية التي تجاهلت هيمنتها على ما تكتبه من شعر لنخلص إلى سؤال : هل يمكن للناقد أن يأتينا بنص شعري محسوب بدقة نقدية إذا ما ذهب إلى مساحات الشعر على وفق ما رسمه نقديا ؟ وفي المبحث وجدت توارد الحواس عند الشاعر ( شيركو بيكه س ) يشكل ظاهرة لاشتغال الشاعر على اللون من خارج معطياته التي استقرت في العقل الجمعي وخرج بها نحو توليد مداليل جديدة لها واجتراح ألوان جديدة خارج ما أنتجته الطبيعة . وفي المبحث الخامس حاولت أن أقف عند بعض التزويقات اللفظية والتلاعب بالألفاظ ومدى نجاحها في صناعة نص شعري كما في ( الكائن مستقبلئذ ) وقراءات أخرى لشعراء بان مبكرا تأثير الوضع الجديد للعراق بعد الاحتلال ومحاولة تمثيله بسرعة كما عند الشاعر أديب أبو نوار في قصيدته التي ظهرت فيها علامات الغربة والعبثية ولا جدوى الحياة . وبعد : إذا ما وددتُ تسجيل شكر وامتنان لأحد فسأسجله إلى عائلتي التي تحملت إضافة إلى قسوة التهجير القسري الذي أبعدها عن دارها وأهلها إنها تحملت ثقل غيابي عنهم لانشغالي مع حاسبتي التي أعاشرها ساعات من كل يوم وتحملت نقرات الكيبورد التي عرفتُ ـ فيما بعد من ابنتي ( لارا ) ـ إنها تنقر في الدماغ إضافة إلى عنائها من سطوع الضوء الذي يستمر لساعات متأخرة من كل ليلة وبقاء فراش الزوجية بوسادة واحدة لهم ولكم محبتي . بلاسم الضاحي / 20 ـ 5 ـ 2008 / خانقين
الفصــــــل الأوّل
في الشعـــر
المبحث الأول : المعنى الاصطلاحي والمعنى الحركي في الشعر
المبحث الثاني : اللحظة الجمالية في الشعر
المبحث الثالث : لا زمنية الانبثاق الشعري
المبحث الرابع : الصوت في الشعر / مقاربة سيميائية
المبحث الخامس : الخطاب الشعري بين خطاب السلطة … وسلطة الخطاب
المبحث السادس : المكان وأثره في تشكيل الذاكرة المبدعة
المبحث الأوّل
المعنى الاصطلاحي
والمعنى الحركي في النظام الشعري
محاولة لفهم الشعر
نتفق على ان النظام الشعري هو نظام فوقي ، متعالٍ ، ساٍم فوق النظم الكلامية الأخر ، يدرك من خلال نظامه الداخلي الذي يعتمد معرفته التجريبية في إحداث التغيير في النظام المتداول للكلام ، ليعطي تطبيقات ونتائج لا حصر لها نحصل عليها من خارج الاقتراحات اللفظية في النظام الكلامي وعلى اعتبار إن المعنى الاصطلاحي : هو معنى وصفي لظاهر الأشياء ، معنى اتفاقي ( اصطلاحي ) جرى عليه العرف وهو كلام غير معجز أما المعنى الحركي : فهو معنى اصلي يظم جميع المعاني في سرائره ويمكن معرفته من خلال عملية الاقتران المتعدد للمفردات مع بعضها لتشكل النظام الشعري ولتتسق في سياقه مع العبارات الأخر اتساقا تاما فهو معنى له شاهد من نفسه ولا شاهد له من غيره ، غير محكوم بالظرف ألزماني والمكاني وبذلك يفترق عن المعنى ألاتفاقي ( الاصطلاحي ) وبذلك يقتضي من المتلقي أن يتعامل مع النظام الشعري لا كما يتعامل مع النظام الاصطلاحي للكلام كما يقتضي العرف بذلك وإنما على وفق اكتشاف مسالكه وطرقه وان يفسره بما فيه من إيحاءات هذا النظام ولا يفسره من تلقاء نفسه فيما يفترض فرضا ما عليه أن يصححه على ضوء ما يكتشف من هذا النظام وألاّ يسقط أفكاره الخاصة على هذا النظام كي لا تختلط عليه الأمور ولم يستطع أن يكتشف شيئا من النظام الشعري على اعتباره نظاما مبيَنا لذاته ، فلو كان غير ذلك لفقد القدرة على تبيَن غيره وهنا تظهر قدرة الشاعر على أن يميز بين ما هو مبهم وما هو مرمز داخل النظام الشعري ليكون معجزا ومميزا عما يجري عليه الكلام العرفي ( الاصطلاحي ) فهو كالضوء الذي يمكنك أن ترى به الأشياء أما هو فمرئي بذاته لا يحتاج إلى وسيلة لرؤيته كذلك النظام الشعري فهو ممتنع عن قبول أية معرفة من خارج نظمه للاستدلال على إدراكه ومعرفته فهو حاكم على المتلقي غير محكوم به .
أية قراءة تؤخذ من خارج النص إنما هي قراءة تجريبية ( اصطلاحية ) تكشف العلاقات الظاهرية لمكونات النص حسب . ولا تلامس الشمول واليقين للظواهر كلها في كل تركيب على انفراد على اعتبار ان الجزء مكون من مكونات النظام الكلي من خلال الاقتران أللفظي المستمر إلى ما لا نهاية من الاحتمالات وعلى اعتباره شاملا للمكان في كل مواقعه من الكون وشاملا للزمان على اعتباره موحدا للرؤية في جميع أدوارها الزمنية وهنا يكمن سر خلود كلكامش والمعلقات والمتنبي والنصوص الخالدة الأخر على سبيل المثال ، ومن هنا جاءت حتمية قراءة أي نص والاستدلال عليه وتفسير الظواهر الأخر من خلاله وليس العكس ، هذا ما جعل الشعر يقع ضمن مساحة الأعجاز وعلى المتلقي المتدبر ان يلاحق المفردة في المواضع والتراكيب التي ترد فيها لأجل اكتشاف قانونها وضرورة وجودها المكرر في السياقات النصية للوصول إلى المعنى الشمولي لتعالقها مع ما جاورها واصطياد مدلولاتها وهذا لا يتأتى من خلال الكلمة المجردة لوحدها والذي لا خلاف عليه ( قاموسيا ) وإنما من خلال توظيفها في نسق الجملة واستعاراتها في بث معانٍ جديدة وفي خليط جديد يؤدي إلى معان جديدة تنتج من خارج المدلول القاموسي لتلك المفردة وما جاورها ( اللفظ ) من داخل الجملة الشعرية ( التركيب ) ومن ذلك يمكن توليد معان وتأويلات جديدة تجدها القراءة الاجتهادية التي تحكم بالضن لا باليقين ومن ذلك تعددت القراءات إلى ما لا نهاية للنص الواحد لحاكميتها بالظن فلو أنها اكتفت باليقين لما تعددت القراءات واختلفت المعاني للنص الواحد ولما وصلتنا نصوص بمعان متعددة تحافظ على خلودها في ذاتها نتيجة لبثها معانٍ ذهنية ظنيَة في التركيب الشعري خارج حدود نظام المفردة الاصطلاحي .
على المتلقي ان يلاحظ قصدية تكرار لفظ ما في سياق النص وظهوره في سياقات أخر في النص الواحد لابد ان يؤشر أو ينبه إلى وجود علاقة بينهما في الموضعين واكتشاف دلائل وتخمينات جديدة غير متناهية غير التي بثها الاستعمال الأول والثاني للفظ الواحد ضمن النص الواحد والأنساق المختلفة لـ ( المركب ) وقد تعدَ هذه القصدية في تكرار اللفظ محورا أساسا في النظام النصي وتوحيد العلاقات بين انساق النص وتوسيع دائرة فهم وتأويل المعاني .
وإذا ما اعتبرنا ان لكل مفردة اداءات متنوعة هي :
1 ـ أداء ذهني : هو المعنى المتبادر والذي ينطوي على استعمالات مجازية .
2 ـ اداءات أصلية : وهي الأجزاء والقطع الدقيقة التي إذا اجتمعت انبثق منها الشئ نفسه .
3 ـ اداءات حركية : وهي وصف حقيقة كل جزء وكل ودقيقة فيه وصفا جوهريا يطابق تكوين الشئ نفسه .
ولما كان الشعر يستعمل كل هذه المعاني فان شرح ألفاظه يعتمد على المعنى المتغيَر للمفردة الواحدة ويدرك عن طريق اقتران هذا المعنى مع غيره في كل موضع على حدة واكتشاف العلائق بين هذه الاقترانات في المواضع المختلفة في النص الواحد .
السؤال الملح هو عن كيفية فهم الشعر
أيفهم بقواعده النحوية والبلاغية واللغوية ؟؟
أم بقواعده الخاصة المستخرجة من نفس نظامه حصرا ؟؟
الشعر :
بداهة : لا يدرك بقواعد وأنظمة وقوانين وشروط تحدد مساحات تحركه كما في العمود الشعري الذي تمردت عليه الحداثة وكسرت قيوده المتمثلة في نظام الوزن والقافية لتحيلها خارج نطاق الخدمة الشعرية واعتمادها فضاءات غير محددة بأنظمة وقوانين غير محسوبة ، معتمدة على خصوبة الخيال الباث والمتلقي في اكتشاف مجاهيله وتحويلها إلى مدركات لأنه غير محدد بجهة وغير ملزم بتوليد معنى يقتصر عليه لأنه غير معني بذلك .
ومن ذلك نستطيع ان نذهب إلى ان المتلقي المتذوق والباحث النبه لا يستطيعان الحصول على المعاني التامة الكلية من أي تركيب شعري ويصلان إلى يقين المعنى أو المعنى اليقيني الجامع المانع مهما اجتهدا .
كون الآلية المنتجة لهذا التركيب لا يمكن إعادتها أو مطابقتها مع آلية الباحث أو المتلقي لاختلاف آلية الباعث وآلية المستقبل واختلاف آلية إنتاج التركيب وإعادته لذلك تعددت التآويل واختلفت القراءات للنص الواحد إلى ما لا نهاية ولاعتماد المنتج الأول ـ الشاعر ـ على المعنى الحركي لا المعنى الاصطلاحي واستفادة المتلقي أو الباحث من المعنى الاصطلاحي وكون الشاعر خالقا والمتلقي والباحث مفسراً لألفاظ الأنساق الشعرية ـ المركبات ـ التي تؤشر خارطة النص الواحد ، لذا يحصل الخلط بين القراءةالاصطلاحية والقراءة الحركية للنص الواحد والذي يؤدي إلى قراءة تفسيرية وقراءة تأويلية منتجة لنص جديد ينتجه المتلقي أو يعيد إنتاجه بنفسه ولذلك بقيت قراءة الشعر بلا مدونات تنظيرية وبلا قوانين تسعف القارئ نحو التدبر والمقاربة بين مرايا النص وما يراه القارئ من خلالها بل عليه أن لا يسير إلى الإطلاق من حيث يتعين عليه التقييد وان لا يسير إلى النص في ضوء تصور حادث بدلا من الإنصات إلى النص لبناء تصور متأت من قراءة تفاعلية بينه وبين المنجز النصي من خلال مجالسة النص والبحث عن شعريته الخاصة التي تبين عن أصالته الإبداعية من عدمها .
وأخيرا … ربّ قائل يقول إن هناك قطيعة ما بين النص الحديث والمتلقي لاشتغال الأول بمعارف وذائقة خارج معارف وذائقة المتلقي ؟ نقول : نعم لكن هذه القطيعة لم تأت من النص شكلا ومضمونا ولم تكن من مسؤولية الناص ، هذه إشكالية حضارية لا تقع مسؤوليتها على النص بقدر ما تقع على المؤسسات الثقافية التي تفرض معارفها للتداول وتنشئ ذائقة قسرية ـ أيدلوجية ـ على العقل الجمعي الذي يفلت من دائرته الشاعر المبدع ليبث معرفته وينشئ ذائقته لوحده وعلى المتلقي أيضا الإفلات من تلك الدائرة واللحاق بالذائقة الإبداعية التي أوجدها له المبدع .
المبحث الثاني
اللحظة الجمالية في الشعر
اللحظة الجمالية بوصفها إحساس أو شعور فإنها قد تنجم عن الجمال الطبيعي كما تنجم عن الجمال الفني لذلك توزع فهمها بين الطبيعة والفن وما يهمنا هنا هو دراسة اللحظة الجمالية في الفن حصرا كونه الوسيط بين المبدع والمتلقي وناتج فردي عند كلاهما على حد سواء وقد حسم هذه المعضلة عالم الجمال ( بومجارتن ) فقصر حدود علم الجمال على الفن الذي يبدعه الإنسان واخرج بذلك علم الجمال الطبيعي من حقول الدرس الجمالي كونه منتج قائم بذاته وبخلقه وأسبابه ، غير قابل للتطوير والانتقال من الثبوت إلى المتحرك على وفق تحرك الذوق البشري لثبوتها المتطور والخاضع للبرهة الزمنية التي لا تخلقها الطبيعة لثبوتها واجتماع الجميل وغير الجميل في الطبيعة إضافة إلى عمر الجميل في الطبيعة قصير اذ سرعان ما يعتريه الذبول والأفول والموت .
لذلك رأى ( هيجل ) إن الجمال الفني ذو قيمة تعلو على الجمال الطبيعي في نظرته الفلسفية للفن فقال ( إن للرائع في الواقع الموضوعي عيوبا تقضي على جماله ولهذا يضطر خيالنا إلى أن يعيد الرائع الموجود في الواقع الموضوعي ليجعله رائعا حقا بعد ان يخلصه من العيوب ) وبذلك فضل الرائع في الفن على الرائع في الواقع الحي / الطبيعة .
عكس ذلك رأى الناقد ( تشرنيشفسكي ) الذي أكد إن الرائع هو الحياة والسامي هو الشئ الأكبر من كل مقاربة أو تشبيه حيث قال ( إن الواقع أسمى من الحلم والمعنى الجوهري أسمى من الادعاءات الخيالية ) للخروج من هذه الخلافات لينصب اهتمام ورقتنا هذه على تحديد اللحظة الجمالية في العمل الفني .
اللحظة الجمالية تنازعها قوتان ، قوة جمال الطبيعة وقوة جمال الفن والذي يهمنا قوة جمال الفن وعناصرها الثلاثة ، 1 ـ الفنان / المبدع / الأديب 2 ـ الموضوع / العمل الفني / 3 ـ المشاهد / المتذوق / القارئ ، المتلقي .
الفن في حقيقة أمره لا يقتصر على الفنان لوحده فهو تجربة يحياها البشر جميعا لأنهم إن أعجزهم الإبداع فلن يعجزهم التذوق واكتشاف اللحظة الجمالية وتمثلها لم تقتصر على المبدع لوحده فهو يعيشها بإبداعه الفني ويعيشها المتلقي بتذوقه لها وإعادة خلقها وتمثلها .
اللحظة الجمالية تسبق لحظة الإبداع فإذا ما حصل الانبثاق الخفي للعمل وحدثت لحظة الكشف أنجز العمل الفني لكن تبقى هناك ثمة مسافة بين العمل المنجز واللحظة الجمالية التي سبقته فإذا استطاع الفنان اقتناص هذه اللحظة وتضمينها عالمه الفني يكون بذلك قد حقق نجاحا فنيا وإذا لم يستطع يظل العمل الفني ناقصا لتلك اللحظة الجمالية الساحرة ويمكن ان نجد اللحظة الجمالية في ثلاثة أماكن
1 ـ لحظة المبدع التي تسبق العمل الفني والتي تكون حافزا لانجازه
2 ـ ما تتركه هذه اللحظة من آثار جمالية في العمل الفني ذاته بعد انجازه
3 ـ ما تلقيه من دهشة ونشوة وشعور بالمتعة على المتلقي والتي تحصل من تفاعل هذا المتلقي بثقافته وذوقه وكفاءته النقدية مع العمل الفني وبذلك تنتقل اللحظة الجمالية بالعدوى من المبدع إلى المتلقي عبر الوسيط ـ العمل الفني ـ فهي لحظة فنية زئبقية لا يمكن اقتناصها بقوانين حسابية فهي لحظة حسب نورث رب فراي
( بمجرد أن يبدأ المرء في التفكير العلمي يكون قد توقف فعلا عن التأمل الجمالي )
وبذلك يكون الإحساس بالجمال أفضل من معرف الطريقة التي تحسه بها ، إن الإحساس بالجمال ينبع من مقدرة طبيعية وكفاءة فطرية في وجدان الإنسان وغريزته تجعله يعيش ذلك بتلقائية يخسرها إذا ما حاول عقلنتها .
المبحث الثالث
لا زمنية الانبثاق الشعري
الزمن هو وحدة حسابية ذات صيرورة فيزيائية دون أن تتدخل قوى خارجية في تكوينه أو ايقافه أو زيادة ايقاعيته أو خفضها ويسمى الزمن الحياتي / الأفقي الذي يسري على الجميع بالتساوي فينتج الفكر ، الفلسفة ، النثر ، السرد الخ .
أما اللحظة الشعرية ( لا زمنية الشعر ) فهي خارج الصيرورات الحسابية للزمن الفيزيائي هي لحظة ميتافيزياء تنتج بطريقة التسامي دون المرور بالتفاعلات الكيميائية التي تشتغل على خلط مواد مختلفة لأنتاج مواد جديدة على وفق الشروط المختبرية انما هي لحظة عرضية غير محسوبة تُنتج لوحدها خارج حسابات المجرب الكيميائي على وفق الحركة الزمنية المولدة لزمن / عمودي يخترق القمة ليتقاطع مع الزمن الأفقي فيوقفه ليقوّض أستمرارية الزمن الأبدية ليخلق علة الصورة من خارج الزمن الحياتي الأفقي المتوقف لدى الشاعر عند اللحظة الشعرية .
زمن لا يتبع القياس ولا تنتظم فيه قياسات الزمن الأفقي ، خروج من الزمن الفيزيائي الى الميتافيزيائي ، مركب ، مذهل يزيح العقل عن هيمنته ليندغم في تناقض وجداني ، محرض ، تنبثق منه اللحظة الشعرية الرافضة للزمن الحياتي الذي يعيد التناقض الوجداني الى سطوة العقل والتزامن المتتابع .
هي لحظة لا زمنية غير منتظمة لايمكن لأحد ان يدعوها فتأتيه ، خارج انظمة الحياة ، تحط عند الشاعر عندما يغيّب الزمن الأفقي ويفك كائنه المقيّد بزمن صيرورة الآخرين ، صيرورة الحياة ويطلقه الى خلق اللحظة الشعرية .
وحسب ( غاستون باشلار ) فان اللحظة الشعرية :
1 – الأعتياد على عدم اسناد زمنه الخاص الى زمن الآخرين / أي تحطيم الأطر الأجتماعية للمدة .
2 – الأعتياد على عدم اسناد زمنه الخاص الى زمن الحياة / أي تحطيم اطر المدة الحيوية .
3 – الأعتياد على عدم اسناد زمنه الخاص الى زمن الأشياء / أي تحطيم اطر المدة الظاهراتية
الزمن لايجري لدى الشاعر في لحظته الشعرية بل ينبثق كي يصنع الصدى قبل الصوت ، قد تنفلت هذه اللحظة من الشاعر أو لايستطيع الأمساك بها أو تتراوح بين الزمن العمودي والزمن الأفقي من ذلك نرى في قصيدة واحدة لحظة شعرية متماسكة ، صافية لاتلبث ان تساقط حجرا في هذا الصفاء لترتج الصورة وتتحطم الأنعكاسات فيسبق الصوت الصدى وتفسد المتعة الشعرية لذلك لاتجد قصيدة فيها تماسك وامساك اللحظة الشعرية إلا عند الشعراء الكبار والموهوبين الذي تنبثق عندهم القصيدة انبثاقا تلقائيا وتنسج نفسها من عقد الى عقد .
الزمن لدى الشاعر :
1 – ارتجاعي / الذي يرتكز بالأساس على خزينه الذاكراتي الذي يتمثله ويعيد خلقه بفضل اللحظة الشعرية .
2 – حاضر / لا يوجد للشعر كمنتج وقت الحظة الشعرية حاضر إلا إذا تحول الى ماضي ذاكراتي ، أو يقفز الشاعر منه نحو آفاق المستقبل غير المدرك عند الآخرين .
3 – مستقبل / الذي يتنبأ به الشاعر ميتا فيزيائيا وعلى وفق منبآته خارج الحواس الحياتية في اللحظة الشعرية .
المبحث الرابع
الصــوت في الشــعر ..
مقاربة سيميائية ( 1 )
لقد غاب النقد الشعري عن تناول ظاهرة سماع الصوت الذي تحدثه الصورة الشعرية الصائتة ببنيته الإيحائية واقتصروا في نقوداتهم على النظر إلى القصيدة من خلال تشكلات بنيتها المرئية واللامرئية والبنية اللغوية والصورية بإسقاط النظريات النقدية الجاهزة وحساب مقاساتها على وفق ما تقتضيه تلك النظريات وبذلك تركت هذه المساحة فارغة دون أن يحاول احد في إشغالها أو الإشارة إليها مع إن النقد التشكيلي تنبه مبكرا إلى هذه الظاهرة ولفت لها الأنظار إذ أعلن ( سيزار ) مرة رغبته في إيصال صوت الصندل على طريق كان يزمع رسمه إضافة إلى عدم اقتصار النقد التشكيلي في النظر إلى اللوحة من خلال تأثيراتها البصرية المباشرة وإنما الذهاب إلى المساحات الصوتية التي تحدثها الحركة في اللوحة والتنظير لها على اعتبارها منجزاً إبداعياً منذ زمن المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي ودراسة النقاد لهذا المنتج الانطباعي كما في لوحة ( إعدامات الثالث من آيار ) للفنان دي غويا ولوحة المسيح في بحيرة الجليل للفنان رامبرانت ولوحة غداء في سفرة الزوارق للفنان رينوار وقوارب المتعة لكلود مونيه وغيرهم .
الصوت باعتباره حركة ( ذبذبات ) يتم التعرف عليها ( سماعيا ) من خلال اهتزاز طبلة الأذن ويدخل الصوت بصفته الفيزيولوجية حيث تتسبب الأمواج التي تحدثها حركة معينة في الوسط الناقل إلى اهتزاز في وسائل القوقعة الداخلية في الأذن البشرية والتي تحفز بدورها مستشعرات خاصة تترجم هذه الاهتزازات إلى ايعازات عصبية .
السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه في هذه المقاربة السيميائية هو :
هل يوجد صوت مكتوب ؟ بمعنى آخر .. هل يوجد صوت إيحائي نسمعه من دون آلة السمع ( الأذن ) وما هذه الآلة التي نسمع بوساطتها ؟
وبمعنى تقريبي آخر .. هل يمكن أن نضرب كلمة بكلمة لأحداث صوت يسمع كما يحدث عندما نضرب حجرا بحجر مثلا ؟
اللغة العربية في عمومها لغة صائتة وكل كلمة فيها تمتلك عنصر الصوت بوصفه الفيزيولجي الذي كوّن منشأها الصوتي وكل مفردة فيها تحمل من مصدرها الصائت صوتا ولا توجد فيها كلمة سواء أكانت اسما أو فعلا أو حرفا إلا وفيها دلالة صوتية على افتراض أن لا صوت بلا حركة وعلى اعتبار علمي أن الصوت بصفته الفيزيولوجية ناتج عن حركة .
والإيحائية أيضا تنتج عن حركة تحدثها الكلمة بفعل مصدر منشئها الصائت مثل الخرير ، الحفيف ، الصعود ، النزول ، ركض ، ذهب ، في ، إلى ، الخ . من هذا نخرج بان الحركة هي مصدر الصوت بكلتا الحالتين ، الصوت / والإيحاء به ، وبما إن آلية إدراك الصوت هي آلية عقلية كون العقل هو مركز الإدراك والتفسير كذلك في الإيحاء فان العقل هو مركز الإدراك والتفسير وهذا يضيف مشتركا أساسيا من مشتركات الصوت بصفته الفيزيولوجية والإيحاء بالصوت بصفته الإيحائية .
ومن الناحية الفيزيولوجية يقتضي سماع الصوت وصول الذبذبات إلى مستوى معين لتتمكن الإذن من الاستجابة كذلك الأمر في الجملة الشعرية إذ يتطلب الأمر هنا الدخول إلى عنصر آخر لإيصال الإيحاء المطلوب وهو قدرة القصيدة على استدعاء الصوت من الذاكرة وهي حالة يساهم فيها المتلقي ويساعد على تحقيقها التصعيد الفني الذي يحدثه النص أو الجملة التي استعانت بكلمة ( مفردة ) أو ( متشكلة ) مع غيرها .
ولنأخذ مثلا كلمة ( ضحكة ) ونقسمها اعتمادا على سرعة إيقاعها إلى ـ ابتسامة ـ ضحكة ـ ضحكة عالية ـ ضحكة صاخبة ـ وفي كل حالاتها تحدث صوتا بوصفه الفيزيولوجي المسموع وبوصفه الإيحائي المسموع وفي كلتا الحالتين يدرك بـ ( العقل ) على اعتباره آلة الإدراك والتفسير ، الأولى أدت مهمتها من خلال آلياتها السمعية والثانية أدت مهمتها من خلال استجابة وعي المتلقي إلى منطقة يستطيع معها أن يصل إلى منطقة يستدعي فيها صوت ( الضحك ) وشدة إيقاعه من الذاكرة ليضع له تصنيفا حسب شدته إلى ـ ابتسامة ـ ضحكة ـ ضحكة عالية ـ ضحكة صاخبة ـ لتكتمل عنده إيحائية الصوت ويسمعه ذهنيا .
وإذا ذهبنا إلى البحث عن نماذج تطبيقية نجد في الأدب العربي ـ وبخاصة الشعر ـ الكثير ، الكثير عبر تعاقبه الزمني بدءا من المعلقات ومرورا بعصوره السالفة وصولا إلى القصيدة الحديثة وقصيدة النثر .
ولنأخذ هذا المقطع من معلقة الشاعر عنترة بن شداد:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
منّي وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبســــــــــم
ولو استعرنا عينا سينمائية لنصور اللقطة بآلية الـ ( كلوز ان ) وبالتحديد على الرماح من انطلاقها وهي تخترق بقوتها الحركية مقاومة الريح لتسمعنا صوت ( الصفير ) حتى ترتطم لتسمعنا صوت الارتطام . والى لقطة أخرى نقرب فيها ( وبيض الهند تقطر من دمي ) نرى بالصورة والصوت قطرات الدم وهي تنساب من على سطح السيف ـ تتحرك ـ لتجد لها منخفضا لتسقط متتالية محدثة صوت تقطيرها ( تك ، تك ، تك ، ) والى لقطة أخرى ( لمعت كبارق ثغرك المبتسم ) اللمعان صورة اقترنت بلمعان الثغر .. متى ؟ عندما يبتسم والابتسامة تقترن بحركة لتحدث ( صوت ) وهذا ماحصل .
الذي حصلنا عليه من هذا( صوت الصفير + صوت الارتطام + صوت قطرات الدم + صوت الابتسامة ) لنذهب بالقول إلى إن هذا يقود وعي المتلقي إلى تمثل هذه الأصوات بتوحد عنصري الصوت بوصفه الفيزيولوجي وبوصفه الإيحائي مع اختلاف زمن الحدث / زمن المعركة / مع زمن الإيحاء / زمن القراءة / ولاشتراكهما بآلية واحدة هي آلية الإدراك والتفسير في مركزها ( العقل ) .
وتأسيسا على ما تقدم نخلص إلى: ـ
إن الصفة الإيحائية التي منحناها في هذا المقال للصوت تلتقي مع الصفة الفيزيولوجية في أمرين مهمين :
الأول:
إن ( الصوت ) في كلا الحالتين الفيزيولوجية والإيحائية ناتج عن ( الحركة ) فعلا في ( الطبيعة ) وإيحاء في ( القصيدة ) .
الثاني:
إن آلية إدراك الصوت وتفسيره هي ـ في النهاية ـ آلية عقلية .
ولإيراد نماذج تطبيقية أخر نحتاج إلى مقام آخر، نكتفي بهذه الإشارة السريعة لجلب الانتباه إلى دراسة هذه الظاهرة الجديرة بالدراسة على أمل العودة التفصيلية في مقال آخر.
هامش: ـ
1 ـ الأمانة تقتضي أن أشير إلى إن هذه الإشارة لم تكن من أمهات أفكاري وانما من وحي مقالة منشورة في جريدة ( الأديب ) العراقية ع 132 في 14 حزيران ـ يونيو ـ 2006 م والموسومة ( الصوت في اللوحة / نحو مقاربة سيميائية جديدة ) ذيلت باسم ( ف . ي ) وقد اقتبست منها ما يفيد مذهبي .
المبحث الخامس
الخطاب الشعري
بين
خطاب السلطة … وسلطة الخطاب
( قراءة ثقافية ) ( 1 )
( الاعتذاريات ) ( 2 )
أنموذجا
مقدمة :
سنتناول هنا اعتذاريتين لشاعرين مهمين يمثلان
عصرين سياسيين مختلفين في الـبنـيـة السـياســية
والاجتمــاعية أنتجا هاتين الرائعتـيـن
الأولى:
اعتذارية النابغة الذبياني التي اعتذر فيها من ( النعمان بن المنذر ) .
الثانية :
اعتذارية كعب بن زهير بن أبي سلمى والتي اعتذر
فيها من الرسول الكريم محمد ( ص ) ولما لهاتين الاعتذاريتين
من مشتركات مهمة في الوسيلة والغاية آليت أن اقرنهما معا
كأنموذج للشعر العربي في زمنيهما وكونيهما :
1 ـ يمثلان عصرين سياسيين مهمين في حياة الشعر العربي .
2 ـ يمثلان عصرين مختلفين، عصر ما قبل الإسلام، وعصر صدر الإسلام .
3 ـ يمثلان أكثر الاعتذاريات شيوعا في العقل الثقافي الجمعي .
وسأقتصر على قراءة ( بيت القصيد ) في كل منهما حسبما أجده مناسبا
لمقام هذا المقال وأحاول استنطاق كل بيت على حدة لأجل الاستدلال
على أن سلطة الخطاب الشعري المضمرة في البنية الشعرية هي الطاغية
على ما هو مرئي ومسموع في القصيدة بـ ( قراءة ثقافية ) لا ترى الأشياء
بعينها المجردة إنما من خلال استحضار المغيّب والمسكوت عنه في البنية النصية .
مدخل :
دراسة المنتج الأدبي لحقبة زمنية محددة ومدونة يقتضي دراسة الإنتاج الجمعي لتلك الممارسات الثقافية وبحث العلاقات بين تلك الممارسات وإعادة قراءتها في ضوء سياقاتها التاريخية وما فرضته عليها الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والنتائج التي ترتبت على ذلك والتي أنتجت خطابا قابلا للتداول وتأشير الحدود الفاصلة بين سلطة الخطاب على المتلقي وبين الخطاب السلطوي بغض النظر عن فنّية هذا الخطاب من عدمها وتحديد الروابط بين النص والقيم النصية من جهة واستعادة القيم الثقافية التي امتصها النص الأدبي في إنتاج خطابه من جهة أخرى لأن النص يتضمن بداخله السياق الذي أُنتج من خلاله .
مما لاشك فيه إن وجود سلطة ـ مهما كانت ـ لها مفاهيم وأشكال ومرجعيات تولّد مفاهيما وأشكالا ومرجعيات أخر تنتج بذاتها خطابا ، قد يكون مطابقا لخطاب السلطة أو معارضا له ، لكنه بالضرورة خطابا له سلطته الواعية التي تكتشفها القراءة الثقافية . وحسب فوكو الذي يقول ( إن السلطة تشكل قوة جوهرية تسيّر كل التجارب الإنسانية في الوقت الذي تتوق فيه إلى فكرة الهيمنة والحكم ) ( 3 ) كون الخطاب ( ذات ) تُؤسس من خلال ضدها ( الآخر ) مثلما الحرية تُؤسس عن طريق السجن ولا يخرج من ذلك الخطاب الواعي لوظيفته والقادر على إعادة وعيه بمحيطه وتشكيل خطابه من موقفه الخاص لذلك على المتلقي هنا أن يشكك ببراءة الخطاب المكتوب ـ أي خطاب ـ ومساءلته مساءلة واعية بفعل الفحص القرائي من خلال أنساقه ومؤسساته الثقافية ومرجعياته التي أفرزته وأنتجته والوقوف عند العلاقة بين هذا الخطاب والمجتمع من بنى النص نفسه واستجواب منظومة القيم والأعراف والمرجعيات السائدة في زمن إنتاج النص وتأسيس سيرورة نسقية تفرز قراءة سليمة تمييز بين قراءة تاريخ الثقافة وثقافة التاريخ لكي يتسنى كشف ممارسات هذا الخطاب ونقدها وبالتالي يتوصل إلى أن هذا الخطاب سلطوي أو خطاب له سلطته الخاصة ، انطلاقا من هذه القراءة تتولد تصورات لطبيعة العلاقة بين الخطاب والسلطة .
من هذا نذهب إلى أن العلاقة بين الخطاب الشعري ـ في مدونات الأدب العربي ـ والسلطة التي هيمنت عليه لا تخضع في كليتها لمفهوم الهيمنة المطلقة للسلطة لعدم قدرة السلطة أن تحول عموم الخطاب الشعري إلى خطاب شعاراتي يروّج لها ويدعّم أركانها أو تحوّل هذا المنتج الثقافي إلى آلية نفعية غايتها الترويج الدعائي للمؤسسة الحاكمة كما هو في قصائد المديح والاعتذار بدء من اعتذاريات النابغة الذبياني ومرورا باعتذارية زهير بن أبي سلمى ومديح المتنبي وصولا إلى آننا الحاضر .
بقراءة متأنية فاحصة وبما أسميناها بـ ( القراءة الثقافية ) للنصوص المدحية والاعتذارية نجد أن صيغها الجمالية التي نظمت فيها ما هي إلا تشكيلات زخرفية خادعة يتبناها الشاعر لتسويق بضاعته وفرض سلطة خطابه من خلال هذه الزخرفة التي تخفي نقدا لممارسات السلطة تستطيع القراءة الثقافية أن تؤشره وتتوصل إلى النسق المضاد الذي يرفض محاولات السلطة في جعله عبدا يوظف قدراته وأدواته الفكرية والإبداعية من اجل تزيين قبحيات السلطة وتجاوزاتها .
بذلك تشكّل صراع بين السلطة السياسية وبين سلطة الشعر التي يمثلها الشاعر بنفسه في الكشف عن العيوب النسقية للنظام الإيديولوجي السلطوي الذي ألجأ الشاعر إلى المدحيات والاعتذاريات هروبا من هاجس الخوف الساكن فيه من السلطة وبما إن الشاعر صيغة نسقية تنم عن ثقافة عالية وواعية في توظيف اللغة الشعرية الجمالية فانه يمتلك القدرة على تمرير أفكاره وخطابه الخاص من خارج المكتوب وسيجد حيلة يمارسها النسق الشعري لإيصال خطابه الذي يرسم شكل السلطة فقول كعــب بن زهير بن أبي سلمى ألاعتذاري مثلا :
نبئت أنّ رســـــــولَ اللهِ أوعــدني
والعفـــو عند رســـول الله مأمــــــولُ
يحتوي على مفردتين مهمتين في النسق الشعري ( أوعدني ، والعفو ) بماذا أوعده ؟ بالموت ، نتيجة لخطابه / قبل الاعتذار ، وماذا يتأمل منه ؟ العفو ، بعد تغيير خطابه باعتذارية أقنعت المعتذر منه لكنها في الوقت نفسه أخبرتنا بان النظام السياسي السلطوي ينذر بالقتل لمن يعارضه وهذا يحيل القراءة الثقافية للنص وبإشارة خفيّة إلى تقييم النظام السياسي في ذلك الوقت ، هذه الاعتذارية أمنت المعتذر من الموت من المعتذر منه قبل الاعتذار وهذا يحيل القراءة الثقافية للنص إلى تقييم النظام السياسي في ذلك الوقت ، وبهذا فقد أتحفنا الشاعر بخطابين الأول دعائي ومقنع للسلطة والثاني افهمنا طبيعة هذا النظام القادرة والمقتدرة على القتل والعفو . ومثله في اعتذارية النابغة الذبياني الذي يقول فيها
فانّكَ كالليـــل الذي هو مـــدركـــــي
وان خلـــتُ أنّ المنتأى عنــكَ واســـــعُ
اُسست الرؤية الشعرية في هذا البيت على ما يسمى بـ ( التشبيه الدائري ) الذي يقوم على المشابهة التي يحدثها الشاعر بين شيئين في تركيب جمالية النسق الشعري ، القتل ، العفو ، الليل ، المنتأى والقراءة الثقافية الناجحة تفرض لأول وهلة ألا نسلّم بصدقية الجانب الجمالي وإيحائه المباشر في هذا التشبيه الذي يُظهر مد سلطة الممدوح وهيمنته على الكرة الأرضية وكأنه الليل الذي يُدرك الجميع لسعته ورهبته ولا مناص لأحد الهروب منه ، هذا ظاهر التشبيه و ما يضمره في طياته من انساق مخاتلة تثبت صورة الصراع والعلاقة المتوترة بين الشاعر والنسق السلطوي بمعنى تبجيل السلطة ومدحها إنما جاء غطاء أو حيلة مارسها النسق الشعري مقابل النسق السلطوي ، النسق الفكري / المادح ، الشاعر ، النسق السلطوي / الممدوح ، السلطة ، وهنا يُمتحن النسق الشعري في مدى فهمه لأساليب النسق السلطوي وقدرته وتمرير أفكاره وخطابه بإرضاء السلطة عنه بالرغم من قمعيتها . وقد تجلت قدرة الشاعر وإخفاء قصديته في فضح ممارسات المؤسسة السياسية الحاكمة من خلال توظيفه الجمالي / ألمدحي وبذلك يتحول النسق الشعري / الفكري إلى مثقف مراوغ يمارس هو الآخر لعبة التمويه والخداع على النظام السياسي / السلطوي الذي يطارده ويؤرقه وبقدرة فعّالة يتحول المدح على وفق قانون المضمر ألنسقي إلى اسلوب مهادنة وآلية ماكرة يبثها الشاعر في نفس السلطة ليعبر من خلالها إلى تأكيد خطابه وتجاوز محنة الخوف التي يعيشها الشاعر ليتحول النسق السلطوي من صورته السلبية / المخيف إلى صورة الإيجاب / المطمئن وليخفي تجاوزات الصوت الشعري وخروقاته ليبث دلالاته إلى القراءة الثقافية بواقع التمويه الذي مارسه النسق الشعري مقابل هيمنة السلطة وقدرتها على احتواء ما هو دونها انطلاقا من طاقة اللغة الشعرية المشحونة دلاليا بمدلولات نامية وانساق ثقافية مضمرة ومخاتلة لا حد لها وبذلك ساهم في تغييب البنية الضدية بحيث ينماز نسق الشعر عن نسق السياسة ويصلنا هذا من الكلام المضمر والمسكوت عنه في النص المقروء ثقافيا الذي ألجأه الشاعر إلى الرمزية ليخلق انساقا مضمرة لا يمكن أن تظهر فاعليتها إلا بفضل قراءة فاحصة للرموز والعلاقات الجدلية المتشابكة في بنية النص العميقة ليكشف النسق الشعري إلى متلقيه صور القيم السالبة في ثقافة السلطة .
في كلا النموذجين محاولة لتضخيم السلطة وجعلها تشعر بالنشوة والامتلاء وهي تسمع صوت النسق الشعري يرضخ لقوتها ويعترف بحقيقة شمولها الزمان والمكان وهي في حقيقة الأمر ليست صورة لخوف النسق الشعري الذي يقدم مدائحه قربانا للتخلص من بطش السلطة ، بل هي اسلوب فني واع يوظفه الشاعر على وفق إمكاناته اللغوية والبلاغية قصد إدانة السلطة وإبراز قبحياتها فالليل لم يشكل عند النابغة زمنا فيزيائيا عاديا أو آنيا ، إنما هو زمن نفسي مفعم بالقلق إزاء نوايا السلطة كذلك عند كعــب بن زهير بن أبي سلمى لم يشكل الوعيد هاجس خوف من الموت وإنما هاجس قلق وترقب واضطراب .
هامــش
1 ـ قراءة تسعى إلى إعادة قراءة النصوص الأدبية في سياقاتها التاريخية والثقافية .
2 ـ لسان العرب لابن منظور ـ بيروت ـ ( قولهم :اعتذر الرجل فعذرته أي احتجز بالقول وغيره مما قذف به من الجناية فعذرته أي جعلت له بقبول ذلك منه حاجزا بينه وبين العقوبة والعتب عليه .
3 ـ عبد الله الغذامي النقد الثقافي ـ قراءة في الأنساق الثقافية العربية ـ المركز الثقافي العربي : بيروت / لبنان ط 2 ص 159
المكان …..
وأثره في تشكيل الذاكرة المبدعة
لحظة استفاقت الروح الطرية مذعورة ، صارخة ، محتجة على بدأ زمنها ، دفاعا عن أولى أمكنتها التي ستنطلق منها مسافات الذاكرة بإيقاعاتها المتنوعة وخرابيشها وطلاسمها .
الذاكرة هذه الحافظة الزجاجية الشفافة التي تمتلئ بعموميات ووهميات تبقى أفضلها وأكثرها وضوحا ( سلة الخوص ) وما سيليها قليل .. لاشئ … فقط لأن الطفولة بداية تشكيل هذه الذاكرة ، بياضات يابسة كيننتها الشمس بآفاقها الشاسعة وجلفها الذي تتخلله بعض لحضات وبعض بقع معشوشبة ، ، بيئة ترسم المكان وتحفر أخاديدها بعمق في طراوة تلك الطفولة فتنشأ الذاكرة كما تشاء أقواس ومنحنيات وسهام منطلقة تضمرها عبر الأزمنة لأمكنة ضيقة تحركت عليها الأحداث والوقائع … فأي مكان ذاك ؟ ؟
المكان المحسوم بمساحاته المحكومة بحسابات رياضية لأبعاد يتحدد حسب مقاساتها ؟ ؟
أم المكان المتخيّل الذي تغرينا مؤسساته المهيمنة على أحلامنا الموغلة في التحليق ؟ ؟
فسحة خارج هيمنة الشمس وجاذبية ( نيوتن )
فسحة ترتب أبنائها حسب قاماتهم وتحتفل بهم قبل أن يحتفلوا…
فسحة ينتجها ( المبدع ) بأصابع لينة تطاوع المخيلة المنتجة لها لتشيئها إلى مرئيات مدهشة ، ملونة ، غير مألوفة قبل أن تباركها عيون المبدعين …
من صيّر ( بويب ) نهرا جميلا لو لم يجر أول مرة عبر مخيلة السياب ويبهر الآخرين بجماله ؟ ؟
من قال أن ( القمر ) جميل .. وأصرّ رغم اكتشافه علميا على انه سلالات من الحجر الميت ؟ ؟ لولا الشعراء.. من قال .. من .. الخ ؟
إن مغامرة اكتشاف جمالية المكان منوطة بالخالق وليس بأهمية المكان إذ أن المكان ليس أثرا فعالا في إنتاج البنية الإبداعية على اعتباره كتلة جغرافية ـ كما قيل ـ إنما هو كتلة أحاسيس وعلاقات تمارس أثرها الفعّال خارج وعي المبدع .
مغامرة اكتشاف جمالية المكان منوطة بالخالق وليس بأهمية المكان كونه فسح غير قادرة على إظهار الطاقة الكامنة لكينونتها لولا عبقرية المبدع وتفعيل تلك الفضاءات والفسح الجمالية التي اجتهد المبدع لأضهارها بالمغامرة والتجربة بعد أن يستفز المكان ويعيد إنتاجه ويحرض عليه لإظهار قيمة جمالية المشهد البصري بقوة إبداعه وليس بقوة المكان لوحده كونه كتلة ثابتة يحركها وينتقل بها ويغيّر أشكالها المبدع لوحده فكم من مكان تحول إلى رمز أو أسطورة ليس بفعله المكاني ( المادي ) وإنما بفعل إزاحته من ثابت إلى متغيّر تتجلى صورته عبر المنتج الذي أمّن فرصة لرؤية هذا المكان خارج مكونه المادي الذي مرت عليه ملايين العيون دون أن تدرك أهميته إلا بعين المبدع الخالق الذي يعيد صياغته التي تشبع فضول الرائي من خلال حشد شبكة من الأفعال التي تعمل بإيقاعات متناغمة تدل على أهمية هذا المكان بدلالات ذهنية متخيّلة ناتجة عن النص الذي ترك أثره الفعّال على المكان فأحاله إلى الرائي بشكل جديد بتلميح أو الفات نظر أو أشارة لمد جسور الذاكرة من نشأتها الأولى إلى ما وراء نقطة بدء اكتشاف هذا المكان وإثارة أسئلة تمثل الأحداث وتحصي خسائرها الضاغطة على المبدع لتضع لمساتها الأخيرة على موت المكان واستحداث أمكنة نصيّة جديدة لذا نجد أمكنة غير مأهولة وغير ملموسة بسطت نفوذها على المنتج النصي كـ ( ما بعد الموت ) على اعتباره مكان غير مجرب لكنه يبقى يشغل حيزا مهما في الذاكرة على انه مكان مأهول بقوة الخيال وبتأثير المنقول غير المرئي .
وقد نجد ألفة حقيقية مع أماكن لم تطأها أقدامنا ، ألفة سريّة تصنعها المخيلة وبذلك نضيف أمكنة جديدة مبتكرة إلى الواقع الحقيقي غير مؤشرة في جغرافيته إلا من خلال العوالم المتخيلة التي تنتج بطاقاتها الخلاقة هذه الأمكنة وتؤشرها بقوة في خرائط الذاكرة المتلقية التي تحولها إلى اثر فعّال في إنتاج النص.
وبذلك يظل المكان ( كتل ) محايدة تعطي منظومة أفعالها من خارج مكوناتها المادية كـ ( أثر )
لإعادة إنتاجها داخل ذاكرة المبدع التي تفتح فعلها الجمالي بمنتج إبداعي بعد أن يدخله في لعبة بصريّة ، نصيّة ، إيحائية من خلال آلية وأدوات المبدع ليس بآلية وأدوات المكان .
من هنا نقول إن المكان كتل تعطّل آلية الإبداع إذا ما اعتمدت كمرتكز أساسي خارج انطلاق الخيال الخلاّق. وإذا ما اعتمدت على كونها أثر فعّال لوحده في العملية الإبداعية .
فعملية ( التمثيل الغذائي ) عند النباتات تعتمد الضوء مكوّنا أساسيا في استمرار حياتها فلا تستطيع أن تتبين تأثيره في إنتاج ثمارها إلا عبر تنامي فعّاليته الصاعدة نحو الإنتاج والاستمرار في الحياة فأدى بذلك ضرورة غير مرئية أفادت في تكوين الثمرة .
من هذه المقدمة أريد تأسيس رؤيتي للمكان ومدى تأثيره في استمرارية العطاء والاستفادة منه على انه معطى من معطيات تكوين الشخصية الإبداعية فعندما استذكر المكان وأعود بشتاتاته التي أسست لبداية تكوين الوعي وتحولت منجزاته إلى بواعث لمنجز ثقافي أجد تأثيره هامشيا وذو فعّالية مختصرة وهذا ما حملني على مخالفة السائد في القول ( إن للمكان اثر فعّال في المنجز الإبداعي ) على عكس ذلك أجد ( إن للمبدع اثر فعّال لأضهار أهمية المكان ) وتحويله من كينونته الجامدة إلى كينونة حيوية فعّالة عند الآخرين عبر الخلق الإبداعي الجديد .
من هنا ندرك المكان بعيون داخلية رقيبة تبحث عن رؤية واكتشاف دواخل الأشياء ومكامن أسرارها ولا تعير أهمية للمتعة الخارجية للألوان إنما تبحث عن أصل تكوينها والإحالة إليها عبر النص المنتج .
الفصل الثاني
نماذج تطبيقية
المبحث الأوّل : ماضوية الشاعر / جدلية الاغتراب
المبحث الثاني : المقدمة واثرها في النص الشعري
المبحث الثالث : اللزن وتراسل الحواس
المبحث الؤابع :
المبحث الاول
ماضويّة الشاعر / جدلية الاغتراب
( المتاهة ) ( 1 ) للشاعر الكبير سعدي يوسف
من أوائل من استولى على السلطة الشعرية في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت ـ على الرغم من ولادة أجيال وتعاقبها بعيدا عن وجوده ـ ظل يشغل حيّزها الذي غادره ( بمرجعيته السياسية ) التي هربته أو حاولت دون جدوى فظلت شاعريته الكبيرة تحفّز تلك الأجيال ـ بعد خروجه جسدا من الوطن ـ فسجلته ضمن مفضلاتها التي تشكل مرجعياتها الشعرية .
وبعيدا عن الخوض في الأبعاد المعرفية والإبداعية التي أنتجتها تجربة الشاعر الكبير سعدي يوسف سأقف على اللحظة الآنية في بنية النص وشؤونها الأيدلوجية والماورائية والعلاماتية ومدى تأثير ماضوية الشاعر على هذه الآنية المنتجة ، وقراءة المناطق الغيبية للنظام النصي لـ ( المتاهة ) كونها نصا حديثا نسبيا حسبما ذيّل في 22 / 12 / 2005 ولكونها أحدثت ( فجيعة ) في ذاتي انبثقت من تحسسي بفجيعة الشاعر التي دبّت نحوي من بياضاتها الفنية والإبداعية ومعالجته الدقيقة عبر تحولاتها الاستذكارية وإعادة ( زمكنة ) الذات عبر الاستغاثة والاستحضار لماضي مخيلة مازالت فتية ، خصبة ، منتجة ، تشيئ ذاتها على إنها كائن آخر بمظهر دلالي للاوعي ذات اقتبست انعكاسات زمنها من خارج نمط الزمن الآني ومحاولة استقدام ذلك الزمن في كل آن بدافع حيوي راع لهذا الاقتباس بفعله الإنساني الضاغط على آلية إنتاج النص وعلى انه مصدر أساسي لمكونات الشاعر المعرفية التي لم تغادره رغم زمانها ومكانها البعيدين فظل وجوده الجديد صدى ذلك الباعث لعمليات المخيلة وتظل ( الذاكرة المسبقة ) تفرض هيمنتها على خيارات الشاعر متحولة إلى أزمة يومية تتسلل إلى انساق النص الجديد حتى لو اختلفت تقنيات الشكل والمضمون فيه .
من هنا نذهب إلى سؤال :
هل الشاعر مستوطنة أزلية لهواجس ( الماضوية ) التي اكتنزت افتراضات أنشأت وعيه وان اختلفت آليات حواضره ؟؟
نجد الشاعر ( سعدي يوسف ) يزاوج بين ما أثثته الطفولة وما لم ترسخ تأثيثه مرحلة الاغتراب بعد ، باستعادة أجواء الكينونة الأولى لاستقبال وبث الحاضر عبر حنينه لمكونات الطفولة وهيمنة استرجاعها مهما كانت قاسية ومرة قياسا بآنه الحالي وكأنها هي الحقيقة الأزلية المقدسة ، تنطلق منها حقائق خطابه الشعري الجديد . وبدءا من افتتاحية النص المتسائلة بضمير المتكلم والحائرة أمام مداهمة الليل ومهبطه بأستخدام الفعلين ( أذهب ) المضارع و ( هبط ) الماضي المتحقق بأداة التحقيق ( قد ) أحدث مفارقة زمانية تخبرنا بتحقق هبوط الليل قبل تساؤله ليس بالمعنى الفيزيائي للزمن وانما بترميز الليل على انه زمن مطلق ، قبلي ، وبعدي ، بدلالة زمنية الفعل المضارع التي تفيد الحاضر والمستقبل وبدلالة زمنية الفعل الماضي الماضوية وبتوكيد الأستفهام اعطى استمرارية زمانية وكثافة شعرية منحت الليل مذاقا محبطا ونقلت صورة عيانية لماضوية الليل كرمز على انه واقع متجسد في الحال والأستمرار :
أين أذهب في مهبط الليل ؟
قد هبط الليل :
ولكن أي ليل ذاك الذي هبط وفيه ( امرؤ القيس ) يقرأ معلقته اللامية ، ليل كأن نجومه …. و ( النابغة ) الهارب من ( النعمان بن المنذر ) من هذه الإحالة استفاد النص من فعاليتين : الليل الذي لاينقضي ، الطويل ، الثقيل ، بثقل الرصاص وهذه استفادة من شائعية ثقل الرصاص في الموروث الشعبي وربطها بثقل ليله الذي لا ينقضي واستفادة أخرى من الفعل السلطوي الذي مورس ضد ( النابغة ) ليقول عينيته المعتذرة ثم أراد أن يعطي فاعلية لمساحات هذا الليل فأشار إلى ( ليل طويل ، ليل عريض ) لتوكيد هذه الهيمنة الجغرافية لليل مع تفاصيل الإشارات المقوسة التي أثرت النص كوسائل إيضاح لإظهار الصورة الشعرية بإحالتنا إلى مرجعيتين معروفتين في الأدب العربي وعلى قدر ما نكتفي بقليل من الليل لنموت طالعنا بثلاثية ، الليل / الرصاص / الثقيل الموازية لثلاثية الفراغات التي نملأها بقليل من احدها يكفي لنموت :
ليل طويل ( وفيه امرؤ القيس )
ليل عريض ( ونابغة فيه )
ليل / رصاص / ثقيل …
…………………………
…………………………
…………………………
قليل من الليل يكفي .
إضافة إلى هذه الفسح الفراغية المنقطة جاءت بثلاثة انساق متساوية هندسيا ومتعامدة في النسق الشكلي التي تكررت ثلاث مرات على عموم النص لتفرض علينا ما نريد أن نقوله في المسكوت عنه .
وبعد أن اخبرنا عن مهبط الليل اكتفى في المقطع الثاني بالتساؤل الحائر :
إلى أين اذهب ؟
حيث وحدته وغربته التائهة ففي الحانة يدعو الزبائن أشباههم ثم أورد مفردة (المعسكر ) بغرائبية تظهر للوهلة الأولى على إنها غريبة عن دلالات النص لكنها تظل تشكل تناغما من خلال إيحائها الدلالي كون ( المعسكر ) مكانا للأستذكارات والتهويمات وذكر النساء وليله الطويل ، القاسي والوحدانية الموحشة التي توحي بها أجواؤه الخانقة المشابهة للأجواء الباعثة للنص :
في حانة القرية، الآن ، يدعو الزبائن أشباههم
ويغنون أغنية المعسكر !
أو للنساء اللواتي انتهين …
في المقطع الثالث انتقال السرد من مستوى الضمير المتكلم إلى الضمير المخاطب للدلالة على تشيئ الذات ومخاطبتها على إنها كائن منفصل :
استرح لحظة
ولنفكر قليلا : إلى أين تذهب ؟
هذا المستوى الجديد بالتخاطب ينتقل بنا إلى أجواء جديدة عبر مفردة المحطة، القطارات، السفر الذي أشاد بجماليته ـ رغم مرارته ـ بأداتين للتعجب ( ما ) وعلامة التعجب ( ! )
ما أجمل السفر !
وفي المقطع الذي يبتدئ بـ ( بيت القصيد ) كما احسبه بما خلّق صورة مدهشة جاءت من ربط ثلاثية الليل ، المتسول ، القطار ، فجعل من الليل كائنا متحركا يجلس كالمتسول اعتمد على تأدية تركيب التشبيه ( الكاف ) فالمشبه هو الليل والمشبه به المتسول الذي كان منشغلا بريافة ثيابه المبللة وعطف القطار بحرف ( الواو ) – العطف على نية تكرار العامل – الذي معناه ( مطلق الجمع والتشريك في الحكم ) على تركيب الجملة الأولى فشابه القطار بالمتسول بـ ( الريافة ) منذ عشرين عاما مما أدى إلى تهرؤ كيانه ليعود ويرفو كيانه أسوة بالمتسول والليل فأنتج صورة شعرية مدهشة ولو جربنا إن نحذف ( واو ) العطف لوصلت إلينا الجملة هكذا ( قطار مضى منذ عشرين عاما ) ولأختل المعنى واهتزت الصورة ، ( الواو ) هنا نقلت الجملة من المباشرة إلى الشعرية تدعمها ( الفسح الفراغية ) التي تلت هذه الصورة :
الليل يجلس، كالمتسول، يرفو ثيابا مبللة
وقطارا مضى منذ عشرين عاما !
………………………………….
………………………………….
…………………………………..
وبعد هذه البياضات يعاود السؤال بعد إن يشيئ ذاته ليسألها مرة أخرى :
إلى أين تذهب ؟
واستفاد من الفعل ( يفضي ) استفادة إيحائية لإنتاج المعنى ليس بمعنى ( جغرافي ) ، ( يؤدي أو يصب ) وإنما بمعنى ( تبوح ) سرها فالبحيرة تبوح الى النهر والنهر يبوح الى البحر … لكن البحر لمن يبوح وهو رمز الحياة وصراعها ونهاياتها المفجعة ؟ الى السماء ؟ حيثما يشكلان افقا ملتصقا بينهما ؟ ولماذا بدأ بالبحيرة ؟ أ لأنها مغلقة جغرافيا لا تعطي ولا تأخذ ؟ أم هي ذات الشاعر المحتفظة بأسرارها ؟ الأجابة نجدها في المسكوت عنه عبر النسق النصّي :
تلوح ضفاف البحيرة …
إن البحيرة تفضي إلى النهر
والنهر يفضي إلى البحر
ما أجمل الرحلة !
ولتوكيد ماضوية الباعث الشعري ذهب إلى تأثيث المشهد الآني بأدوات استذكارية رغم محاولته للتغاضي عن ذلك باستخدام الفعل المضارع ( تدنو )
السلة الخوص تدنو من القصب اللدن
والسلة الخوص تدنو
هي السلة الخوص تدعو
تناديك …
ما أجمل الرحلة
السلة الخوص حقا
ولكن، أتحسبك الطفل ؟
هذه الاسترجاعات لطفولة غابرة صنعت من ( السلة الخوص ) كونها حاضنة أزلية
لكثرة استخداماتها في الحياة الجنوبية نمت تحت سقوف القصب بيت الشاعر وموطن نشأته ( الجنوبية ) الأولى المؤثثة من الخوص والقصب ، ولتؤكد هيمنتها كررها أربع مرات بتكرار تلاعب بتكوينه ألسطري داخل النص فنجد سلة الخوص تدنو مرة من القصب اللدن منشأها الأول وأخرى من حاضره الهرم تدعوه للرجوع إليها لتظل ( ما أجمل الرحلة ) وباستخدام أسلوب التعجب ( ما ) فيستدرك هذا التعجب ، ولكن ، مستفهما : أتحسبك الطفل ؟ / وبمداخلة مكانية تعد امتدادا استرجاعيا للسلة الخوص فهي :
هي أبعد من جامع القيروان
ومن سور مراكش اللانهاية
( القيروان ) و( سور مراكش ) هذه الأمكنة التي أنتجت ( الأخضر بن يوسف ) أبعد من زنجبار البهار
ومن كل شاطئ شرقي أفريقيا
أمكنة مرت بها رحلة الشاعر فشكلت ذاكرة إضافية إلى ذاكرته الأولى المؤثثة بطقوس قروية وأجواء روحانية شفافة شكلت تلك الذاكرة الشعرية التي استثمرها النص داخل تأسيسات حديثة لم تشكل لاوعي الشاعر بعد فطغت أجواء مفرداتها وايحائياتها الوعظية في نهاية النص ( يابني ) … وتكرارها الترتيبي المتناوب مع فعل الأمر ( اتئد ) لتتحول إلى وصايا بان عليها تعب الشاعر من متاهته ، هذا البناء الهرمي الذي شكلته هندسة السطر الشعري بأجواء روحانية تبث شعاعاتها المنحنية من خلف السطور أسوة بإيحائية ( الفسح الفراغية ) ، المسكوت عنه ، الأداء البرقي ، البياضات التي تركت لتملأ من قبل المتلقي لا كما يشاء وإنما كما تمليه متاهة النص التي فرضها الشاعر :
ولكنها يابني ، العزيزة
فاتئد
يابني
واتئد
يابني …
حسب ( فور ستر ) ( إن الحبكة هي أيضا سرد مع التركيز على الأسباب ) بمعنى وجود علة وإنتاج معلول ، علة هذا النص هو الاغتراب والمتاهة في مفازاته القاحلة ومدى تأثيرها على تصحر روحية الشاعر فأنتج حبكة بنص شعري لا يظهر به السرد إلا من خلال إخفاقات تلك الروح الهائمة التي تناثرت على مساحات النص الشعري ( المتاهة ) .
( المتاهة ) تعج بسردية شفافة ممتنعة للوهلة الأولى لا تلبث أن تبوح بأسرارها المعذبة وحنينها لماضيها الذي استباحه الاغتراب ألقسري الذي ملّ الشاعر من متعه الزائفة وحنينه لألوان ( سلة الخوص ) وبيوت القصب ومن جدولة إحصائية لدوال النص الأساسية وتكرارها الموزع على المساحة النصية التي أحالت ما سواها إلى أدوات ساندة وأوجدت دلالاتها المقطرة من احتباس العنوان ( المتاهة ) ، الليل ، القطار ، المحطة ، السفر ، الرحلة ، سلة الخوص ، بغض النظر عن عدد تكرارها في النص .
هامش:
1 – ( المتاهة ) قصيدة للشاعر سعدي يوسف منشورة في جريدة ( الأديب ) العراقية بعددها 112 في 29 – 3 – 2006
القصيدة
أين أذهب في مهبط الليل ؟
قد هبط الليل :
ليل طويل ( وفيه امرؤ القيس )
ليل عريض ( ونابغة فيه )
ليل / رصاص / ثقيل …
……………………………..
……………………………..
……………………………..
قليل من الليل يكفي
* * *
الى أين أذهب ؟
في حانة القرية ، الآن ، يدعو الزبائن أشباههم
ويغنون أغنية للمعسكر !
أو للنساء اللواتي انتهين …
* * *
استرح لحظة
ولنفكر قليل : الى أين تذهب ؟
ثمت ، في أسفل التل ، ضوء المحطة
ان القطارات تصفر
والضوء يصفر
والمطر النزر يرسم لألاءه في الزجاج المضاعف …
ما أجمل السفر !
* * *
الليل يجلس ، كالمتسول ، يرفو ثيابا مبللة
وقطارا مضى منذ عشرين عاما !
……………………………..
……………………………..
……………………………..
الو أين تذهب ؟
في البعد
بين الجذوع التي تتقطر ماء وعشبا
تلوح ضفاف البحيرة …
ان البحيرة تفضي الى النهر
والنهر يفضي الى البحر
ما أجمل الرحلة !
السلة الخوص تدنو من القصب اللدن
والسلة الخوص تدنو
هي السلة الخوص تدعو
تناديك …
ما أجمل الرحلة
……………………………..
……………………………..
……………………………..
السلة الخوص حقا
ولكن ، أتحسبك الطفل ؟
* * *
ثمّ سماء سملوية
هي أبعد من جامع القيروان
ومن سور مراكش اللانهاية
أبعد من زنجبار البهار
ومن كل شاطئ شرقي أفريقيا
ومن مركب الهند …
ان شئتها جئتها !
ولكنها ، يابني ، العزيزة
من ليس ينكرها ليس يدخلها …
فاتئد
يابني !
واتئد
يابني …
لندن 23 / 12 / 2005
المبحث الثاني
المقدمــة . .
وأثرها في النص الشعري
( ربما ! من يدري ؟ )( 1 )
للشاعر خزعل الماجدي
أنموذجا
الشاعر ( خزعل الماجدي ) في عموم ما أنجزته تجربته الشعرية
منذ بواكيرها الأول ( يقظة دلمون ) ووقوفا عند تنظيراته الأخيرة
في كتابه ( العقل الشعري ) ومرورا بمدوناته المطبوعة والمنشورة
وقبل قراءة قصيدته الموسومة ( ربما ! من يدري ) والتي تتصدرها
مقدمة حكائية مستعارة باستفاضة عن ـ حكاية صينية ـ وقبل الذهاب
إلى أهمية مثل هذه المقدمات وجدت من الأهمية أن أشير إلى بعض
ماسجلته قراءتي لعموم منجز الماجدي الشعري :
1ـ تغاير الماجدي عن مجايليه بمطولاته الناتجة عن شمولية اكتشافاته واهتمامه بمواضع تمتد إلى خارج الذات الأنوية فذهب إلى مساحات غير مأهولة ولم تكتشف طاقاتها التعبيرية من قبل ، فحاول أن يستثمر هذه الطاقات بمزاوجتها مع ملكته الخيالية وتجربته اللغوية المكتنزة بشاعرية قادرة على إعادة صياغة ( ميكانزم ) الماضي على وفق جدل الحاضر لإنتاج ( ميكانزمات ) حياتية جديدة تفرد بها الماجدي لوحده .
2 ـ نجد في عموم منجز الماجدي الشعري نتوءات صلدة وزوائد وتراكمات وحواف حادة توقف انسياب مائية القصيدة نحو منخفض التلقي لابتعادها عن الغنائية والشفافية الشعرية لأسباب ناتجة عن بواعث النص ومصادر منشأه غير المبتكرة والتي تهيمن على وعي الشاعر بأملاءاتها المعرفية من خارج مخياله وإعادة هذه المعرفة إلى الحاضر والخروج بها من مقيداتها التاريخية المنسية إلى حاضرة ذهنية بفضاءات واسعة مستفيدة من الحكاية الأسطورية والخرافية على اعتبار تقادمها ألتأريخي .
3 ـ القصيدة عند الماجدي لا تغري القارئ بالتأمل والتأويل وإنما تدفعه للبحث عن المعنى والدخول المباشر من الأيقونات الآركلوجية التي تحيل بدورها إلى معنى حكائي غير قابل للتأويل لوحدانية دلالته أي لا تقترح خيارات تأويلية فرسمت للشعر خارطة أخرى وصاغت تجربة مؤهلة للتفرد .
4 ـ الماجدي يجنح إلى كتابة قصيدة منظمة لا تتحد مع الفوضى لإنتاج نفسها حسب ( سوزان برنار ) لعدم وجود محرّض ، لذلك سارت الجملة الشعرية بخط موازٍ للمعنى ولا تقترح ( ميتا شعرية ) حسب ما نظّر لها الماجدي .
وعودة إلى موضوع بحثنا ( المقدمة … أثرها وتأثيرها في النص الشعري ) ـ على وجه الخصوص ـ إذ كثيرا ما نجد عند مطالعتنا لأجناس أدبية مختلفة مقدمات أو أهداءات أو إشارات تتصدر هذه النصوص وعن جدوى هذه الإشارات صيغ متعددة للسؤال منها : ـ
1 ـ هل لهذه الإشارات سلطة على النص ؟
2 ـ ما فاعلية هذه ( الإشارات ) في بناء المعنى وإنتاج الدلالة في خطاب الشعر ؟
3 ـ ( التلقي قراءة في المرايا ) أي مرايا التي يقرأها المتلقي أمرايا المتن أم مرايا الإشارة ؟
4 ـ هل يجب أن تتطابق المعرفة المنتجة من المتن مع المعرفة المنتجة من الإشارة على اعتبار النص مع ملحقاته نسقا يضم جمال المعرفة إلى معرفة الجمال ؟
5 ـ هل الإشارات وسائل إيضاح وتوضيح تفيد قراءة المتن ؟
من هذه الأسئلة التي أعدّها مدخلا أوليا إلى النصوص التي تزينها إشارات أو مقدمات أو اهداءات … الخ، أتوخى الدخول إلى فهم انتباه الشاعر إلى أهمية استعارة هذه الإشارات ووضعها داخل متنه الشعري كأدوات إجرائية ينطلق منها النص أو ينتهي إليها على اعتبارها موجها من موجهات القراءة أي إنها تمنح القارئ مفتاحا لقراءة النص.
وبدءا من( ثريا النص ) وبناءه الجملي ـ النحوي ـ المؤسس من مقطعين صوتيين ( ربما ! من يدري ؟ ) والذي اقترحته المقدمة خارج ابتكارات الشاعر . الصوت الأول ( ربما ! ) الذي الحق بعلامة التعجب وكون ( ربّ ) حرف جر شبيه بالزائد كفته ( ما ) الزائدة ويفيد التقليل أو التكثير وإذا ما توقعنا إن ما حدث خارق للعادة يستحق التعجب والاندهاش ـ وهذا ما أرادته قوة وجوده ـ معززة بعلامة التعجب بإشارة إلى تأكيد التعجب والاندهاش وجاءت جملة ( من يدري ؟ ) الاستفهامية لغموض الحدث وعدم معرفته التي ألحقت إضافة إلى وضوح استفهامها بعلامة الاستفهام ، هذه العلامة ذات وجود بصري يضاعف بنية السؤال .
وعلى ضوء المقدمة التي أوردها الشاعر خزعل الماجدي في قصيدته وتعامل معها على أنها استراتيج البناء النصي وكونها قيمة تقترح مفاهيمها وتنتجها داخل كيمياء النص ( ربما ! من يدري ؟ ) والتي تشجّرت إلى عنوانات فرعية بواقع سبعة وعشرين عنوانا ثانويا .
وما يهمنا القيمة المؤثرة التي حققتها قوة المقدمة في تشظى النص وتوزيعه إلى مقاطع تنأى بنا في أكثرها على أنها وحدة منفصلة عن تكاملية وهرمونية النص التي تفترض هيمنة إستراتيجية القص الحكائي الذي تقترحه ( المقدمة ) على إنها وجود استباقي يرشد إلى بؤرة النص وعلى أنها استراتيج البناء النصي الذي يقترح الشكل الشعري ويفترض تبؤره الذي يؤدي إلى وحدة المضمون العام مع احتفاظه بالمفارقة والتضاد على اعتبارها ثابتاً رؤيوياً تنطلق منه المفارقة أو التضاد داخل النص وتحدث حركة اهتزازية في مركز النص تنتقل طاقتها إلى عمومه .
المقدمة مبنية على ثنائية الخير / الشر والسؤال /الجواب الملحق أيضا بتعجب واستفهام.
أية مصيبة حلت بك ؟
ربما ! من يدري ؟
أي خير أصابك ؟
ربما ! من يدري ؟
هذه الثنائيات تؤثث سينوغرافيا المشهد على سطح الورق إضافة إلى تفعيل علامات الترقيم التي أسقطها الشاعر من المقدمة إلى المتن لتقترح دلالاتها داخل الملفوظ الشعري واستثمارها على إنها جمل شعرية بصرية ومن هنا يمكن أن نقسّم القصيدة إلى مقاطع نقترحها خارج تقسيمات الشاعر
الاستفهام و التعجب ، الحدث ، الغياب / الحضور / المقدمة / المتن ، الأنا الشاعرة ، تغييب زمنية الفعل والاستفادة من تحوله الديناميكي داخل الجملة .
الاستفهام ؟ :
تهيمن علامات الاستفهام على عموم النص نزولا من المقدمة إلى المتن وحسب جاكوبسن فان المهيمنة ( عنصر بؤري للأثر الأدبي تحكم وتغيير العناصر الأخر كما إنها تضمن تلاحم البنية ) وبدءا من العنوان ومرورا بالمقدمة إلى المتن نجد تكرار علامة الاستفهام ( عشرين ) مرة وبما إن التكرار يفيد التوكيد وجلب انتباه المتلقي لينطلق منه إلى حيث الدخول إلى عوالم النص وإدراك مجاهيله أكد الشاعر بنية العنوان الاستفهامية وانطلق من عنوان استفهامي إلى مطلع المقطع الأول ( بغداد ) بالأستفهامات المتتالية .
كم احتشد زجاج الواجهات بوجوه العابرين ؟
وكم سقط المطر داميا ؟
وكم تخثر الظلام في هذه الأزقة ؟
وينتقل إلى افتتاح المقطع الخامس الاستفهامي ( أين دفنت حياتي ؟ ) باستفهامين متتاليين نجد الإجابة المقرونة بعلامة التعجب ليؤكد تعجب واستفهام العنوان على اعتباره نواة أو جملة كبرى أو بؤرة مولدة لخلايا النص البنائية والدلالية ثم يكرر السؤال في نهاية المقطع .
أين دفنت حياتي ؟
في أي قبر من قبور جسدي ؟
هنا في هذا القلب الحزين دائما !
أم في هذه الحنجرة الخافتة !
أم في هذا الوجه الشاحب !
أين دفنت حياتي ؟
وأين صليت على غيابها ؟
وينتقل ليفتتح المقطع الثالث والعشرين ( النباتات ) باستفهام ليجيب بصيغة الاستفهام وحذف علامته والإبقاء على أداته .
لماذا تنمو النباتات حزينة ؟
لماذا تتأمل حزينة ؟
لماذا تغفو حزينة ؟
ولماذا حين تثمر ضاحكة
نسرق ثمارها في أفواهنا
ونتركها حزينة أيضا .
وتتكرر الحالة في المقطع الخامس والعشرين ( بذرة ) غير انه في هذه المرة يبدأ بسؤال وينتهي بتكرار علامة التعجب مع حذف علامة الاستفهام وإبقاء أداته .
لماذا تبتعد عن بذرتك أيها الشاعر ؟
أليست في طمي الفرات
تنسج الزمن ! !
التعجب ! :
وبعودة إلى إحصائية علامات التعجب نجد إنها تكررت ( ثمانية عشر ) مرة تشظت من أيقونة العنوان باتجاه المتن وتوزعت على المقطع الأول ( بغداد ) .
يوما بعد آخر تتداعى بغداد بسبب العقائد
ليعاد بناؤها تحت وابل من الهلاهل .. والعويل !
هذا التعجب يتماها مع تعجب أيقونة العنوان.. لنجيب بـ ( ربما ! من يدري ؟ ) هذا الارتباط ألتشعبي والتعالق ما بين العنوان والمتن يذهب بنا إلى تأكيد إسقاط دلالة العنوان المستعار من المقدمة على إيحائية ودلالة المتن بفعل المقدمة .
وفي المقطع الثاني ( مراكب الآلهة ) نجد تأكيدا لما ذهبنا إليه .
ولم يعد بالإمكان شفاء الغليل الإلهي الذي فينا
سنظل عطشى هكذا ، وربما إلى الأبد !
لنجد الإجابة من العنوان ( ربما ! من يدري ؟ )
وفي المقطع الثالث ( آخر المطاف ) .
وأيامي كانت تتناسل في كتبي
ورائحة عطنة تخرج منها
ما الذي فعلته بحياتي ! ؟
لنجد الإجابة ( ربما ! من يدري ؟ ) وفي المقطع الثامن يكرر التعجب الاستفهامي بنفس آلية المقطع السابق .
ولا اعرف فيما إذا كنت تنظر بحزن لعيوني
أم بفرح لحقولك ! ؟
لتكون الإجابة ( ربما ! من يدري ؟ ) .
الحدث:
استفاد الشاعر من حكائية ( المقدمة ) وتوظيفها معرفيا من خلال آليات المتن التي استعارها من المقدمة كالحكاية وعلامات الترقيم والحضور المعرفي ودلالات الفعل الزمنية والخيال الذي يشكل العصب الأساسي الناقل للمتعة وتحويل الكلام إلى إدهاش وحسب نصر أبو زيد ( الخيال عند بن عربي ) خيالان : الخيال المتصل ، والخيال المنفصل ، والخيال المتصل هو الخيال السيكولوجي باعتباره أداة إنسانية للإدراك والمعرفة أما الخيال المنفصل هو الخيال الوجودي بجانبيه الفيزيقي والميتافيزيقي ) بمعنى الخيال المتصل هو الواقع الحقيقي والخيال المنفصل هو الواقع الافتراضي الذي نجده في قصيدة ( ربما ! من يدري ؟ ) هو الخيال المتصل لانبعاثه من مصدر حكائي لواقع غير مفترض مستعار من واقعه وبذلك جاءت القصيدة معرفية استكشافية معلوماتية لا يمكن اختراقها إلا من خلال مديات ( المقدمة ) بمعارفها التي لم ينجح الشاعر بإعادة إنتاجها بنص جديد يؤدي مهام الشعر خارج هيمنة هذه ( المقدمة ) فبقيت أحداث ( القصيدة ) هي أحداث ( المقدمة ) ولم تضف لها شيئا ولم ينجح النسق اللغوي نحو إيجاد انساق حسية متحولة إلى صور تجمع أدوات خلقها من عنديات الخيال بل بقيت تجمع أدواتها من مرئيات ( المقدمة ) وابتعدت عن تكثيف الباعث الشعري المولد للنص تلبية لنداء الشعر .
الغياب / الحضور / المقدمة / المتن :
لم يغييب المتن حضور المقدمة بل امتدت أقدامها الأميبية لتشغل كل حيزه ولتجعل شروط الشعر كلها تسقط أمام هيمنتها المعرفية وألغت قدرة القصيدة على أن تكون رؤية صورية تبرز مهاراتها الشعرية وفشلها في محاولة طمس ( المقرونية ) المتعالقة ما بين المتن والمقدمة .
زمنية الفعل الحكائي / الأنا الشاعرة :
لم يستطع الشاعر الإفلات من دائرة الجذب المغناطيسي لمركز انبعاث القصيدة المتركز في ( المقدمة ) والتحدث عن ( أناه ) في معظم المقاطع كما في المقطع الثالث مثلا ( آخر المطاف ) في استخدام ضمير المتكلم في الأفعال الماضية ، حولت ، ملأت ، فعلت ، وفي المقطع الرابع ( سعادتي ) والمقطع الخامس ( أين دفنت حياتي ؟ ) والمقطع السادس ( الأجنحة والأحذية ) من خلال الأفعال ، تمكنت ، حملت ، دفنت ، صليت ، نزلنا ، خرجنا ، وقفنا والملاحظ هنا هيمنة الأفعال الماضية وتوزعها على جغرافية النص مما يدل على التأثير ألقسري لزمنية الحكاية ونقلها إلى النص بنفس زمنها الماضي ولم يستطع الشاعر التخلص من شرنقة المقدمة مرة أخرى مما أوقعه في مطبات وتعرجات يصعب علية نقل إثقاله إلى مسافات زمنية مغايرة لزمنية الحدث في المقدمة .
الذي يجلب الانتباه في المقطع الأول هو الاستخدام السينمي في تتابع اللقطة من خلال استعمال الأفعال ، أحتشد الزجاج ، سقط المطر ، تخثر الظلام ، تعفنت ألأغان ،
خاتمة :
لا أرى ضرورة ملحة في استعارة مثل هذه المقدمات التوضيحية لشاعر مثل ( خزعل الماجدي ) ولا أجد فيها إضافة تذكر يمكن أن ترتقي بنص يكتبه الماجدي مجردا من هذه المقدمة التي أشكلت القارئ ووضعته في مكان لايحسد عليه لما فرضته من قيود وقادته باتجاه أجندتها الموجة لتذوق النص من خلال طعمها المنثور بقوة على جسد ( ربما ! من يدري ؟ ) .
هامش :
( 1 ) ربما ! من يدري ؟ شعر : خزعل الماجدي ، شاعر وباحث من العراق ، المنشورة في جريدة ـ الأديب العراقية ـ العدد 100 في 21 كانون الأول ( ديسمبر ) 2005 م .
المبحث الثالث
اللون …
وتراسل الحواس
( إناء الألوان )(1 ) أنموذجا
يا لون الموت !
انتظرني في نقطة مندهشة
كاندهاش بلادي أمام تأريخ السكاكين
اللون :-
رمز مشفر يلد دلالته التي تستند في ذلك إلى ( كونية ) هذه الدلالة لدى المتلقي كظاهرة حياتية أوجدتها الطبيعة عبر أزمانها فـ ( الأبيض ) مثلا وحسب دلالته المتوارثة يعني النقاء ، السلام …الخ و ( الأحمر ) يعني الموت ، الدم ، الحرية … الخ وهكذا الألوان الأخرى .
هذه الدلالات ( الكونية ) تكاد تكون متفقا عليها عند كل الأمم والشعوب ، لغة عالمية ، لا تحتاج لعناء لفك شفراتها و هذا يعدّ إنزياحا من رمزية اللون إلى أسطرة المعنى الأيحائي المترسخ في الذهن المتلقي على وفق هذه الآلية أشتغل الفن التشكيلي على الألوان كلغة حكائية يحاور بها التشكيلي عمله الفني . لغة حوارية بين العمل الفني وبين ( الرائي ) / المتلقي / إضافة إلى كونه وسيلة ( تزيين ) ، وجذب ، لتأمل وقراءة اللوحة وعلى وفق نفس الآلية إشتغلت السينما والمسرح والرواية والشعر .
هذه الجاهزية التي تتماهى مع جاهزية ( الأسطورة )استدعت من الشاعر ( حصرا )أن يخرج من عباءتها التي استهلكت كثيرا ويوسّع مساحات امكاناته في البناء النصي الشعري والعمل على نقل ذائقة المتلقي من ما هو مألوف إلى ما هو مدهش بأحداث مغايرة في إنشاء الجملة الشعرية اللونية والبحث عن الطريقة الخلاقة في تركيب جديد للصورة الشعرية الجديدة التي أوجدها بناء هذه الجملة .
اللون :-
أداة تعبيرية ، مشاعة ، ليس بتوظيفها كدال يوصل مدلولا كونيا حسب بل مشاعة في دلالتها لدى المتلقي ليس لموظفِها ( براءة اختراع ) كونها موروثة الدلالة ، بمعنى أنها ليست محتكرة لأحد إلا إذا استمد شرعية الاحتكار من ( ابتكار ) جديد لمدلول جديد يؤديه اللون كأداة دالة .
وإذا ذهبنا إلى ( علمنة ) اللون فيزيائيا في الطبيعة نجده ناتجا من قابلية امتصاص الأجسام للضوء الساقط عليها وعكس لون واحد منه يحدد لون الجسم العاكس للضوء ، وتوجد في الطبيعة ثلاثة ألوان أساسية هي ( الأحمر ، الأزرق ، الأصفر ) التي منها تشتق ألوان الطبيعة الأخرى .
السؤال كيف يستطيع المبدع الخروج عن هذه الدائرة المتوارثة ويبتكر ألوانه من خارج الطبيعة،
من صلب الحياة الإنسانية عبر أزماتها وحروبها وثقافاتها ومعتقداتها وأيدلوجياتها في كل زمان ومكان . اللون شئ مرئي ندركه بحاسة الرؤيا ( العين ) / كوسيلة / هذا المعنى التقليدي أوقعه في النمطية والتكرار في الأجناس الأدبية والفنية . ( شرعنة ) الابتكار الجديد تكمن في التصدّي لدلالتها المألوفة وتحويله من مرئي فقط إلى مدرك بحواس أخرى كالسمع ” اللون المسموع ” وكالشم ” اللون المشموم ” وكالتذوق ” اللون ذو الطعم ” وكاللمس ” اللون الملموس ” وخلق فضاءات جديدة لتوظيفه في النص الإبداعي خارج نمطية المعنى التقليدي شرط أن يلقى قبولا معقولا لدى المتلقي .
ويمكننا بسهولة أن نؤشر هذا ( الاختراع ) عند الشاعر المبدع ( شيركو بكه س ) لمّا خرج من سيطرة الدلالة اللونية النمطية ، المكررة ، المستهلكة ،الجاهزة ، والتحرر من دكتاتوريتها التي صنعتها وفرضتها ( المعرفة المتوارثة ) لدلالة اللون ، حيث اشتغل الشاعر خارج اللون المرمز المرئي مبتكرا ألوانه الجديدة بنفسه من خارج إناء الألوان التي تجود بها الطبيعة علينا وابتكر لونا إنسانيا سياسيا آخر .
ومرورا بثريا نص المطولة الشعرية ( إناء الألوان )الذي يؤثث من دالتين ، إناء / مكان “بصيغة مفرد” و الألوان / أداة ” بصيغة جمع ” هاتان الدالتان تشكلان جملة من المضاف والمضاف إليه تفيدان التخصيص والتملك تقديرها ( هذا إناء الألوان ) بمعنى إن هذا الإناء ملك خاص للألوان ولإيجاد مدلوليهما نذهب إلى القول إن للإناء مدلولا مكانيا جغرافيا يُوجد الألوان التي تشكل مكانها بنفسها والتي سنجد مدلولها في كيفية توظيفها شعريا في هذه المطولة الشعرية التي شكلها الشاعر من ( مكانه ) الكردستاني بطبيعته الملونة الأخاذة ذات الذاكرة الممتلئة بالورد.
والإناء بالنسبة إلى الشاعر هو ( الباليت ) الذي يستخدمه الرسام لحفظ ألوانه التي يخلق منها تشكيل لوحته المبهرة كذلك الشاعر ( باليته ) الطبيعة التي تلون مفرداته الحسية لتخلق لوحته الشعرية المدهشة مستلهمة دهشتها من غرائبية هذا التوظيف الغير مألوف للون المرئي الذي ينثره على جسد مطولته الشعرية محفزة حواس المتلقي الأخرى – غير حاسة الرؤيا – لاستقبال هذا المعنى الجديد بمجسات غريبة على أجهزة الاستقبال المتلقية ( المستهلكة ) التي تقف مندهشة حائرة في فك هذه الشفرات وإيجاد ملفات جديدة في أروقة الذائقة البشرية .
الألوان التي اشتغل عليها الشاعر خارج مدلولها ألذاكراتي محاولا تشكيل ذاكرة لونية جديدة
بـ ( تبادل الحواس ) ( الذي يصف المدرك الحسي الخاص بحاسة معينة بلغة حاسة أخرى )(2)
وأول من أستعمل ( تبادل الحواس ) في أدراك المسموع بغير حاسة السمع ( جون مييه ) في رسالته ” السمع الملون ” (3 ) قبل ذلك ورد في ( الإلياذة ) (4 ) و ( الأوديسة ) ( 5) ووصف
( شيللي ) عطر زهرة الياقوتية بأنه موسيقى ويقول ( هين ) ( عذب كضوء القمر ورقيق مثل رائحة الورد ) ( 6 ) وقال ( أراغون ) مياه خضر وكتب ( دبلن توماس ) عن ضوء الصوت وصوت الضوء وتقول ( ماري ويب )عن صوت الكروان بأنه صوت ثلجي .
وقد ورد ( تبادل الحواس ) في البيان العربي كثيرا فقالوا مثلا هذا طعمه مر غليظ وسمي عند العرب ( الاستعارة بالكناية ) .
ويحضرني هنا بيت شعر لأبي نؤاس حين جاءه الساقي بزق خمر فرآه بعينه وشمه بأنفه وتذوقه بلسانه فقال للساقي ( ألا اسقني خمرا وقل لي هي الخمر ) وذلك ليشبع حواسه كلها قبل أن يشربها وينتشي بها .
وشاعرنا في إناء ألوانه تمثل اللون بحواسه كلها فمرة يقول في مفتتح مطولته الشعرية
لقد جئت هذا المساء
كي أستحيل نايا وأعزف الألوان
لون .. لون .. لون .. فألوان
أي لون الذي يعزفه الناي لاشك انه ( الحزن ) فأي لون لون الحزن أنا أقول ( الأصفر ) وأنت تقول ( الأسود ) فبأي حاسة أدركنا هذه الألوان لاشك أدركناها بحاسة السمع بعدما استحالت إلى ناي يعزف لنا لون .. لون .. لون .. فألوان .
ومرة يحيل اللون إلى كائن يحاوره ويجعل منه صديقا فبأي لون نتصادق
صادقتني شجرة
حين صادقت لونا
فاتسعت رؤياي بعدا
أنا أقول الأبيض وأنت تقول الأزرق وغيرنا يقول الأخضر وهذا يعود إلى المتلقي المؤول للمعنى ذهنيا .
ثم يعطي للطفولة لونا وللون طفولة وللكلمات طفولتها حين يقول :
لقد صارت طفولة اللون طفولة كلماتي
كذلك يعطي لوالده لونا :
لقد صار اللون بشجاعته وصيحته وثورته
كأنه والدي
ولوالدته لونها :
لقد صار اللون بدموعه وجوعه وثيابه
كأنه والدتي
ويعود بالذاكرة ( الميثيولوجيا ) إلى أن الألوان كانت تتكلم وتطلق اصواتا
أتذكر زقزقة العصافير
كانت تتلون بريقا ولمعانا
لم تكن خضراء ، ولا حمراء ، ولاصفراء
بل كانت الألوان جميعا
ولكل لون كـ ( دال ) دلالته في جسد الجملة الشعرية فحين وظف الأخضر والأحمر والأصفر وهذه الألوان الأساسية في الطبيعة التي منها تشتق الألوان الأخرى وتشكل ( القوس قزح )
حتى الألوان كانت لها مكتبات
وأرشيفات قوس قزح
الألوان تبكي وتصادق وتصوت وترى وتسمع ولها ميلاد تحتفل به / الألوان الباكية / كان اللون لساننا جميعا / رأيت الألوان بعيني وهي تكتب الشعر على الضباب / .
وللألوان تنوعات ، الألوان الحادة / الألوان الناعمة / الألوان الصائتة / الألوان الصامتة /
الألوان الغير مثمرة / صغار الألوان .
ونخلص بالقول إن الشاعر ( شيركو بكه س ) اشتغل على ثلاثة محاور في توظيف اللون
المحور الأول /
اللون الطبيعي الذي ندركه بحاسة الرؤيا والذي يشكل جزءا معرفيا متوارثا في الذاكرة الجمعية فالأسود للحزن والأبيض للنقاء والأحمر للحرب أو الحرية …. الخ .
المحور الثاني /
لون رمزي مشفر مزاح من مدلوله المعروف إلى مدلول يحدده السياق الإنشائي للجملة الشعرية الخالقة للصورة / اصفر نحيف / الثلوج الزرق / عشقا رماديا / خريفا صدئا / القامة الزرقاء .
المحور الثالث /
لون ( مخترع ) جديد لم يشتق من الألوان الأساسية في الطبيعة ولم نجد له مفسرا في ذاكرة الجمع ، لم نجده منفردا في لوحة رسام ، لون مبتكر يؤسس له مكانا في ذاكرة المتلقي من المعنى العام الذي أسسه الشاعر على حادثة معينة نعرف مكانها وزمانها مثل اللون ألأنفالي / لون الكرد / اللون الجبلي / لون الأنوثة .
إذا عجنت تلك الألوان مع بعضها
من الليل حتى الصباح
ينجلي أخيرا لون جديد
يسمى ( اللون ألأنفالي )
نتأمل الألوان الأنفالية الأصيل وغروب الشمس
على الدوام .. وهي تروي حكاياتها
بقي أن نقول إن ما قرأناه من الشعر المترجم عن اللغة الكردية وقد كان المترجم الأستاذ ( شاهو سعيد ) حريصا على نقل صور الشاعر واستخداماته اللغوية وقد نجح في ذلك إلى حد كبير أما الشاعر المبدع فأنه لم يبتعد كثيرا عن أساليب العربية واستعمالاتها البلاغية المتنوعة من المجاز والاستعارة والتشبيه إلى غير ذلك من الأساليب المعروفة التي يكون الشاعر المبدع على صلة طيبة بها.
الهوامش : –
1 – إناء الألوان / شيركو بكه س / ترجمة وتقديم شاهو سعيد / دار الآداب / بيروت 2002
2 – معجم الأدب / د ز مجدي وهبة .
3 – معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب / كامل المهندس والدكتور مجدي
وهبة ص 148 .
4 – الإلياذة / البيت 222 من النشيد الثالث الذي يذكر كلمات ( اوديسيوس ) / تنزل على سامعيه كأنها تساقط الثلوج في الشتاء .
5 – الأوديسة / البيت 187 من النشيد الثاني عشر الذي يوصف صوت عرائس البحر بأنه صوت من عسل .
6 – معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب / كامل المهندس والدكتور مجدي وهبة ص 148 .