إشارة :
رحل شاعر العرب العظيم ومؤسّس الحداثة الشعرية العربية “بدر شاكر السيّاب” في يوم 24 كانون الأول من عام 1964 ،وكان يوماً ممطراً لم يعثر فيه الشاعر “علي السبتي” على بيت السياب في الموانىء بالبصرة فقد أفرغته الدولة من عائلته لعدم دفعها الإيجار، فسلّم التابوت لأقرب مسجد. وعلى الرغم من مئات المقالات والدراسات والكتب والأطروحات الجامعية التي كُتبت عن منجزه الشعري فمايزال هذا المنجز الفذّ مكتظاً بل مختنقاً بالرؤى الباهرة التي تنتظر من يكتشفها. تهيب اسرة موقع الناقد العراقي بالكتاب والقرّاء الكرام إلى إغناء هذا الملف عن الراحل العظيم.
المقالة :
يوم 24 كانون الاول من عام 1964 رحل الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب في احد مستشفيات دولة الكويت لتنهي مسيرة الشاعر الذي عرف بسبقه في اجتراح الشعر الحر مع زميلته الشاعرة العراقية نازك الملائكة..فقد اسهم السياب بعد ان راى ان نمطية الشعر المتمثلة بالشعر العمودي وسيلة لتقييد الابداع والحد من حرية الشاعر وامكاناته فعمد الشاعر المنحدر من قرية (جيكور )البصرية لان يجد في سبيل البحث عن كتابة شعرية تتيح للشاعر حرية اوسع للانتقال بين البحور وبتنويع القافية ، فجاءت تلك الحركة على يد عراقيين هم السياب والملائكة اضافة للشاعر عبد الوهاب البياتي حيث احدثت تلك الحركة دويا هائلا لتبشر بلون شعري جديد من خلال ما كتبه السياب في قصيدته (هل كان حبا ؟) التي جاءت ضمن ديوانه الشعري المعنون ( ازهار ذابلة) ولتؤكد هذه البادرة على ولع الانسان بالتجريب والبحث عن كل جديد..ورغم مرور كل تلك السنوات على رحيل السياب الا انه لم يختف من المشهد الثقافي بدليل صدور المئات من المؤلفات التي حاول كتابها الغوص في مسيرة الشاعر خصوصا في ريادته الشعرية رغم قصر حياته والدليل ان كل مطبوع ثقافي لاتختفي من صفحاته الاشارة الى قصائد الشاعر وكتاباته بالاضافة للمئات من المقالات التي يزدان بها محرك البحث الالكتروني google حينما تدون على ستطيل البحث الخاص بهذا المحرك اسم الشاعرفحسب..
وبالرغم من ان اغلب تلك المؤلفات التي قدمها العشرات من النقاد والكتاب تتناول جوانب مختلفة من نتاجات هذا الشاعر فضلا عن مواقفه من الحياة التي كانت بالنسبة اليه عبارة عن ماس وخيبات عكسها في قصائده والتي سبقت نهايته الماساوية حيث استعرضت انتقالاته في المشافي بحثا عن العلاج في رحلة اكتشاف العلاج الشافي لمرضه المزمن فكانت تلك المؤلفات الصادرة عن مسيرة السياب تتصدى لمفردات حياته وادبه من خلال ما قدمته تلك النخبة التي يبرز منها الراحل محمود العبطة المحامي والناقد عبد الجبار داود البصري والدكتور احسان عباس وعيسى بلاطة والشاعر المصري الدكتور حسن توفيق والدكتور علي البطل والدكتور عبد الرضا علي ..
وقد تباينت تلك المؤلفات بين الوقوف الى جانب الشاعر وانصافه في مسيرته الشعرية التي حسمها المرض مثلما هي حياته ،وما بين مؤلفات عكست شخصية اخرى للشاعر من خلال ما اباحه الشاعر في رسائله التي عبرت عن مكنونات ابرزت شخصية متناقضة مركبة تاتي بالشيء ونقيضه ما آل اليها ان تظهر الا من خلال العبارات التي تضمنتها تلك الرسائل والتي سلط عليها الضوء الدكتور حسين سرمك حسن ،ودرس تلك التحليلات النفسية الناقد والكاتب المعروف شكيب كاظم في كتابه المعنون (مطارحات في الثقافة ،حين تجسد الكتابة علاقة ) والصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد عام ..2007
ولطالما ابرز السياب صفته المتواضعة وهو القائل (لنكن متواضعين ونعترف باننا مانزال جميعا في دور التمرن ،يحالفنا النجاح حينا ،ويصيبنا الفشل احيانا كثيرة ،ولابد للشاعر الذي قدر له ان يكون شاعر هذا الجيل العربي، ان يولد ذات يوم مكبرا جهود الذين سبقوه ) فما بين صفة التواضع التي تستبق تصريح الشاعر فان الكلمات الاخرى التي ينطقها ربما تصور محنة الثقافة العربية وهي تعيش تصورات متناقضة ازاء من اطلقوا نزف روحهم عبر العشرات من القصائد لتسهم بتوثيق المحن والنكبات التي عاشتها بلادهم فكانوا يوما في عربة الحكومة ويوما اخر في عربة تسير ضد تيار العربة الاولى والاهم في اعماق الشاعر ان يكون العرفان ديدن من سيقدر له ان يكون شاعر الجيل حسب رؤية السياب ..
وفي مقال اخر نشرته مجلة (الدوحة) القطرية بعددها الشهري الصادر في كانون الثاني من هذا العام للناقد صلاح بوسريف بعنوان (شعرية المرواحة ) حيث وضع السياب في خانة (المرواحة ) بين الانموذج الشعري القديم وبين رغبة السياب نفسها في اطلاق المعنى التاسيسي لممارسة شعرية مغايرة كونه يعد من اهم الشعراء المعاصرين الذين اسسوا لما سمي بالشعر الحر ويستعرض بوسريف في مقالته المراحل الزمانية للشعر العمودي قبل ان يطلق السياب حركته التي يصفها بانها لم تات من فراغ كونها حاصل محاولات اتسمت بالجراة والجسارة في تغيير الشكل الشعري وفي تغيير المعنى ايضا كما يتابع ان قصيدة السياب الاولى في فلك الشعر الحر والتي كانت بعنوان (هل كان حبا؟) لم تمثل قيمة شعرية مهمة بقدر ما كانت مؤشرا على انزياح شعري طاري ورغبة في ابتداع مساحات جديدة في شكل التعبير الشعري او بوصفها المعيار الوحيد لقياس الشعر بما ليس شعرا ..اذن ففترة الخمسين عاما والتي مرت ليضاف لها عاما اخر على رحيل القامة الشعرية الباسقة في بستان الشعر العراقي المعاصر بدر شاكر السياب لم تخفت من قدرة هذا الشاعر الذي لم تغيب عن كل المقالات التي تناولته كلمة (كسر) التي عبر عنها الكتاب بوصف محاولة الشاعر(كسر) عمود الشعر واجتراحه لتجربة شعرية جديدة رسخها وسط الام المرض فكانه ابتغى ان تكون للالام المرض الذي زامله ان تصبح وترا يعزف عليه تلك الكلمات الراغبة بنهاية حتمية تنهي ذلك الالم الذي حوله السياب الى قصيدة وهو يردد :هات الردى اريد ان انام/بين قبور اهلي المبعثرة /وراء ليل المقبرة/رصاصة الرحمة يا اله..
*عن صحيفة الزمان