حمدي العطّار : علم إجتماع القراءة في سيرة أبراهيم (ملف/3)

hamdi alatarسليم علي الوردي يخلق السرد
الرواية هي الجنس الادبي الوحيد القادر على خلق قارئ يمتلك الخيال الذي يجعله مستمتعا منفصلا عن الواقع وبنفس الوقت يملك القدرة على أصدار حكم بما امتلك من وعي اصيب به بالعدوى التي تنتقل من الكاتب الى القارئ بأنسيابية يحرص الروائي أن يجعلها غير مباشرة حتى لا تقترب من جنس المقالة او الدراسة التاريخية ،وقد تقترب السردية من الشعر بالمضمون لكنها تبتعد كثيرا من ضوابط وقيود الانفعال المشروط في القصيدة ،ويرى (غوته) بأن هناك ثلاثة أنواع من القراء “الاول هو الذي يستمتع من دون ان يصدر حكما،والثالث هو الذي يصدر حكما من دون أن يستمتع ، وبين هذين النوعين نوع يصدر حكما في أثناء استمتاعه ،ويستمتع في أثناء أصداره الحكم” وعند قراءتنا لرواية (سليم علي الوردي) nسيرة أبراهيم- الصادرة في سنة 2014 من دار الجواهري للنشر والتوزيع ،قد وفرت لنا ما يسمى (علم أجتماع للقراءة )بما قدمه من الشخصيات والاحداث والبناء الفني ،وتعد روايته رواية البطل الواحد ابتعدت عنها العلاقات الهامشية والاقحام وتماسكت بالسرد العفوي غير المفتعل بالاضافة الى الانفعال الصادق للشخصيات،الرواية لا تخلو من النقد السياسي لمرحلة تاريخية امتدت من سنة 1936 الى فترة الحرب العراقية الأيرانية منتصف الثمانينات ،تنامى فيها الخط الدرامي بصور تجسد الاحداث والانعطافات والتغييرات المؤثرة على رسم مستقبل المشهد السياسي في العراق الذي نراه ونتلمس صعوباته في الوقت الحاضر ،يجعلنا الروائي نتذكر وقت زراعة البذرة ومراحل نموها وكيف كنا نديم السقي لتكبر وتصبح عصية علينا للتخلص منها ،من منا لم يقل لو لا هذا الحدث وذلك الموقف وهذا القرار وتلك الفرصة الضائعة لما كان وضع العراق عما هو عليه من اشكاليات وازمات متوارثة؟ فهل فعلا مثل هذا الشعور يولد الوعي لأمتلاك ناصية اصدار الحكم التاريخي على الاخرين ومراجعة مواقفنا وقناعتنا ؟ وهل مثل هذا الوضع يتيح لنا فرصة اقتناص لحظات المتعة الخيالية عما تملكه الرواية من سحر يذهب بنا بعيدا في فضاءات الخيال والامنيات!؟
رواية أحداث من التاريخ السياسي
لا بد للروائي قد قام بتدوين ابرز الاحداث السياسية التي عصفت بالتاريخ الحديث والمعاصر بالعراق ،ليغطي الرواية زمنيا من ولادة الشخصية المحورية (البطل) ابراهيم سنة 1936 وهو نفس يوم انقلاب الفريق بكر صدقي على وزارة جعفر العسكري وقتله ومن ثم اغتيال بكر صدقي،ولكن الروائي لم يختر هذا الاستهلال التقليدي لروايته بل هو يجعلنا نعيش أجواء شبيه بما يمر بنا اليوم من احداث القتل والتمثيل والذبح هو يريد ان يقول بأن العنف له امتدادات زمانية ومكانية ولأسباب متنوعة حتى لو كانت واهية او ساذجة وهذا ما سوف تكشفه لنا الرواية في الفصل الاخير منها، ولو أخذنا الفصل الاول (جريمة بشعة) وما قبل الفصل الاخير salim alwardi(الشطحة المهلكة) لخرجت لنا قصة قصيرة لجريمة غريبة تدعو الى السخرية السوداء والالم الحاد المتعاطف من قبل القارئ مع البطل أبراهيم!! ولا يمكن ان تقرأ الفصل الاول من دون ان تحس بأنك امام مشهد سينمائي مرعب “تقصيب الجثة ،وتعليق أشلائها على معلاق القصاب” اية بداية جريئة للرواية قد تجعل القارئ يعزف عن تكملتها او ينغمس فيها ولا يتركها الا ان يعرف سبب هذه الجريمة التي اصبح يتعايش مع تفاصيلها يوميا ،ولكن في نهاية الرواية حينما يعرف السبب يتيقن بأن حياة الانسان احيانا تكون جدا رخيصة وتافهة!! ويصطدم القارئ اشد حينما يعرف هوية الجثة المتقطعة الاوصال “لم يتمكن احد من ابناء المنطقة من التعرف على شخص المجن عليه ،فقد تدلت على وجهه ،خصلات شعر أشقر ،مشوب بالشيب،تضمخت بالدم،دنا أحد رجال الشرطة من قاضي التحقيق:وهمس في أذنه :سيدي ،المجني عليه ليس مسلما. دهش قاضي التحقيق لهذه الملاحظة ،فسأله :وكيف عرفت؟ سيدي أنظر اليه… انه أقلف… لم يختن بعد!” وحينما يعثر على هوية المجن عليه داخل محفظته ويتم قراءة اسمه “أبراهيم الياس حنا” أذن هو موت اوقتل البطل في الاستهلال والتمهيد لتكون الرواية فيما بعد هي الفلاش باك ،في سرد سيرة ابراهيم وسط الاحداث الثاريخية الكبيرة .
ضغط مجموعة من الاحداث المتلاحقة
عمد الروائي الى الاسراع في تجاوز طفولة ابراهيم من خلال استعراض مختصر جدا للاحداث التي تزامنت مع نشأته منذ الولادة حتى سن 16 عاما وانتقاله الى العمل ! ففي الفصل الثاني (نشأة أبراهيم) يجعلنا الروائي نلهث خلف زحمة الاحداث فهناك انقلاب بكر صدقي 1936 ومن بعدها مقتل الملك غازي وحركة رشيد عالي الكيلاني 1941 ومعاهدة بورتسموث والمظاهرات ووثبة كانون الثاني سنة 1948 واعدام قادة الحزب الشيوعي 1949 والانتفاضة سنة 1952 كل هذه الاحداث ضغطت لتكون في فصل واحد “كان الياس في خضم هذه الاحداث المثيرة ،منشغلا في اختيار اسم مناسب لمولوده الجديد،اقترح الاهل اسماء مختلفة ،ولكن رأي الياس استقر بعد لأي على أبراهيم لأنه أسم حيادي لا ينم عن انتماء ديني محدد ” مشكلة الاسماء تطفو في وقتنا الحاضر مع كل توتر طائفي الم نقل في الرواية اسقاطات كثيرة معاصرة! ومن الناحية الفنية يقدم لنا الروائي تمهيدا زائفا حتى نظن بأن سبب مقتل ابراهيم كان (دينيا) بينما يظهر غير ذلك! ثم استعراض للشخصيات التي تدور في فلك البطل والاحداث عم ابراهيم الشيوعي المناضل (جورج) ، زميل وصديق ابراهيم الكردي (سيروان) وبالطبع الاب والام،وهناك أشارة الى محدودية مكان الرواية (عكد النصارى) و(عكد الكرد)،وبما ان الرواية قدمت نفسها من ناحية الزمان والمكان والشخصيات يبدأ الروائي بالعزف على اوتار الخطوط الدرامية المتعددة الاتجاهات والمحصورة بالسيرة الذاتية لأبراهيم .
هموم ورغبات ذاتية مكبوتة
في الفصل الثالث والرابع تبدأ الحبكة الدرامية للرواية من خلال (نعيمة) وهي بنت الفراش في الدائرة التي يعمل فيها ابراهيم ،وتعمل خادمة في بيت أدهم مدير الدائرة،تنشأ بين ابراهيم (المسيحي) ونعيمة (المسلمة ) قصة حب عنيفة من دون ان تعرف نعيمة بأنه مسيحي يبارك هذا الحب ادهم وزوجته لمصلحتهم ويقتنع ابراهيم بتغيير دينه من أجل الحب ، الروائي له قدرة على ربط الاحداث السياسية والايديولوجيات والنظريات الفكرية بأبسط العلاقات العاطفية الخاصة لنرى الحوار بين ابراهيم وصديقه الكردي الشيوعي سيروان حينما يفاتحه بحبه الى نعيمة وصعوبة الاقتران بها بينما يرى سيروان بهذه العلاقة (انقلاب كبير ) و(فألا حسنا) وأن الفرج قادم لا محالة ويعلن الشعب العراقي الثورة ، ويبدو ان سيروان منفعل بأحداث سنة 1956 وانتفاضة الشعب العراقي ضد العدوان الثلاثي على مصر “فهو لا يرى في أية مسألة خاصة ،ألا جزء من قضية الشعب الكبرى ،وشغف بالافكار الأممية التي تتجاوز الفروق القومية والدينية “أقنعها بأن الدين خارج عن ارادتكما ،هي مسلمة وأنت مسيحي بالولادة ،لم يقرر أي منكما أنتماءه الديني ،أنتما بشر قبل كل شيء، والى الجحيم بكل الفوارق !!” عندما يخبر ابراهيم نعيمة بأنه مسيحي تتمسك به على أمل ترك دينه واعلان أسلامه ومن يستطيع أقناع ابراهيم على ذلك غير (باب الحوائج) الامام الكاظم ” وعليها اقناعه اولا بزيارة ابو الجوادين ( هل رأيت مرقد ابو الجوادين في الكاظمية؟ لا .. ، تقول نعيمة :- خسارة يا أبراهيم ..خسارة من لا يزور ابو الجوادين عمره خسارة! اسمع ابراهيم .. سنذهب معا لزيارة ابو الجوادين ونتوجه اليه بالدعاء لمساعدتنا ،وسترى أنه لن يخيب رجاءنا ..أنه باب الحوائج)
في مدينة الكاظمية
kh salim alwardi 1برغم من اهمية هذا الفصل الا اننا لا نعثر على عنوانه في صفحة المحتويات والعناوين،ويكتسب هذا الفصل اهميته من نقطة التحول التي تطرأ على ابراهيم وقناعته بالتخلي عن المسيحية واعلان اسلامه وما يترتب على ذلك من براءة الاهل منه وغضب عكد النصارى واحتضان عكد الكرد له، كما تظهر شخصية زميله بالعمل (عبد الزهرة) الذي يقوده نحو الدين الاسلامي عبر بوابة مظلومية اهل البيت وطقوس الشيعة في عاشوراء وقدسية الامام الكاظم حينما يزج فيه في مراسيم زيارة يوم تاسوعاء من محرم،حيث المواكب والزائرين وطقوس اللطم والزنجيل والتحضيرات للتطبيل ،وقصص عن اصحاب الحسين الذي احدهم كان مسيحيا يترك صفوف العدو وينخرط مع جماعة الامام الحسين ليموت شهيدا ،ومفارقات الاكل في المواكب وشرب الماء بشرط لعنة يزيد كان يحس ابراهيم بمتعة مع الحزن والالم مثل سائر الزوار “لاحظ ابراهيم أن مواكب المساء ،مبهجة،واكثر حيوية،انها كرنفال بكل معنى الكلمة :مشاعل،ومصابيح،وشموع.. أعلام متنوعة،الالوان والحجوم،..روائح البخور..عطر ماء الورد،يرشه أصحاب النذور على المواكب..قطع الحلوىوالملبس نثر على الرؤوس.. حجول زاهية تحمل على الاكتاف،يحار المرء… أهي مواكب عزاء ،أم كرنفال فرح!! وحاول عبد الزهرة كسائر الثوريين ان يربط الحاضر بالماضي فكان يقول لأبراهيم ((الى ان الصراع بين الحسين ويزيد لا يزال مستمرا وأن النظام القائم،لا يختلف عن نظام يزيد بن معاوية)).او قوله((ها انت ترى الجماهير تحتفل وتخلد تضحية الامام الحسين ،رغم مرور ثلاثة عشر قرنا ،بينما تستذكر سيرة يزيد باللعنة والشتيمة!!))
قرار الزوج والختان والعدول
عن الاقتــــــران
بعد يوم واحد من زيارة ابراهيم للأمام الكاظم وفي يوم العاشر من محرم اعلن ابراهيم اسلامه لينفجر الوضع وتنقلب الدنيا بين حزين وغاضب (الاب والاهل وعكد النصارى) وبين مسرور وسعيد (نعيمة وابوها وعبد الزهرة وموظفي الدائرة وزوجة ادهم) سار كل شيء بسرعة خطوبة واقناع من ادهم لأبو نعيمة وطرد الياس لأبنه ابراهيم! ما ان يأتي شرط الختان حتى يعيد الامور الى انقلاب آخر أشد من الاول، ويحدث زلزال في بيت ادهم حينما يطرد نعيمة من الخدمة وبعدها ينقل ابراهيم الى دائرة اخرى وتفشل الخطوبة ويبقى ابراهيم معلقا !انسان (لا منتم) لأي دين فلا هو مسلم ولا هو مسيحي وهذه تحتاج الى (فترة نقاهة)هنا يظهر سيروان ليدبر لأبراهيم سكن بدلا من الفندق وهو غرفة في بيت (العم قلي) في عكد الكرد،المكان الثاني لأحداث الرواية ومن هذا المكان يجرب ابراهيم معاناة الاعتقال ومن ثم مشاهدات ثورة تموز 1958 القتل والسحل والتعليك والفوضى العارمة ،ومقتل الملك وعائلته والوصي ونوري السعيد،واطلاق سراح عمه الشيوعي من نقرة السلمان وتغيبر الاحوال فمن كان فوق صار تحت مثل (ادهم) بينما علا نجم جورج وسيروان وعبد الزهرة ،اما ابراهيم الذي لا يمكن ان تحسبه على اي حزب او جماعة فقد كان ريشة في مهب الريح لم يعرف يوما الاستقرار وحلاوة القناعة.
انعدام الثقة بكل شيء
انضمام ابراهيم الى المقاومة الشعبية لم يكن قراره المستقل بل هو جاء بدفع من صديقه سيروان وبقايا اعجابه بعمه جورج،اما تملصه من المقاومة الشعبية فكان بسبب تخبط الثورة والخلاف الذي نشب بين عبد الكريم قاسم وعارف!وفي هذه المرحلة يظهر صوت الاعتدال متمثلا بشخصية ( الحاج عبد اللطيف) الذي ينور طريق ابراهيم ويستأنس بأرائه ويؤمن بها،،ووسط حالة الضياع تبرز مرة اخرى الى واجهة الاحداث نعيمة وتلميحات ابوه لأبراهيم من خلال الهدايا التي ترسلها باعادة المياه الى مجاريها ولم يتخلص ابراهيم من ورطة حبه لنعيمة الا عندما يتزوجها صديقه عبد الزهرة!مشاهدات ذات مغزى تبرق هنا وهناك في الرواية حول الاخطاء التي يرتكبها الزعيم ويستغلها اعداؤه للاطاحة به،هناك وقفة للمظاهرة المليونية في مناسبة عيد العمال العالمي الاول من ايار سنة 1959 وهناك وصف جميل ومعبر يذكر في الرواية يجسد سياسة الزعيم تجاه الحزب الشيوعي ((ومن اكثر احداث هذه الليلة اثارة للانتباه،سيارة اسعاف شقت المسيرة،ذهابا وايابا،عبر شارع الرشيد،تبين حقا،أنها كانت تقل الزعيم ،للوقوف على الرصيد الجماهيري لهؤلاء الذي بلغ ذروته في تلك المسيرة ،متحديا في الوقت عينه،بأنه قادر على شقهم متى شاء!)) يكثر الراوي من استخدم كلمتين (هؤلاء) ويقصد الشيوعيون، وكلمة (اولئك) ويقصد البعثيين ! ولا نرى لهذا الاستخدام مبررا!
القفزات الزمانية لأحداث الرواية
يستعيد الروائي اسلوب تجميع الاحداث والمرور بها سريعا ،فهناك الطلاق بين الزعيم والشيوعيين ،ومن ثم انقلاب 8 شباط 1963 ومقتل الزعيم عبد الكريم قاسم ،ووقوف المقاومة الشعبية ضد الانقلابيين ،واعراس القتل الجماعي والاعتقالات التعسفية ،ومقتل (عبد الزهرة) في مدينة الكاظمية وهو يقاوم الحرس القومي،مرور سريع لأنقلاب عارف على البعثيين والقفز الى نكبة حزيران 1967 ومن ثم انقلاب 17 تموز 1968 ،في دوامة هذه الاحداث لم تسلم الشخصيات الرئيسة من الاستهداف فمن لم يقتل اعتقل وتعرض الى السقوط السياسي (جورج) او هرب الى كردستان (سيروان) بينما تبقى الحيرة تحيط بأبراهيم ويشعر بالخوف ويضطر الى الاختفاء من عكد الكرد الى خارج بغداد،وعن معنى التهميش الحقيقي وتكريسه يرى الروائي ان يقدم شهادة تاريخية قد نتلمس اثارها اليوم (والحقيقة أن المذاق المر،استوطن ذائقة العراقيين عبر حقب تأريخهم:أستوطن مأكلهم،ومشربهم،قسمات وجوههم،أغانيهم ومواويلهم،وأغدق الله سبحانة وتعالى عليهم “بفاجعة الامام الحسين”لينفسوا،بأستذكارها عن كربهم ويبكوا حظهم العاثر ،حتى بات العراقي ،يتطير من لحظة الفرح،خوفا من الفاجعة التي لا بد أن تعقبها ..يتوجس من الضحكة التي يندر أن تعلو وجهه،والبسمة التي يصعب أن تشق طريقها الى مبسمه فيستعيذ بالله ،أذا ضحك،ويقول :”اللهم ضحكة خير،وشرها على الغير”) بعد 1968 اعتقد ابراهيم بأن زمن المفاجأت التاريخية قد انتهى ،ولم يكن يعلم بأن للانسان اتجاهين وفيهما يكمن الخطر دائما، الاتجاه العام والاتجاه الخاص،فما ان يستقر الاتجاه العام حتى تبرز الهموم والمفاجأت على الاتجاه الخاص،ولو لا رؤية ابراهيم المشانق في ساحة التحرير تتدلى منها الجثث (الجواسيس) لكانت تلك هي الفترة الذهبية على الصعيد الشخصي ،خاصة وهو ينأى بنفسه بعيدا عن السياسة واصبح مقبولا من قبل الجميع ،كان هناك تقارب وتفاهمات سنة 1973 لأنبثاق الجبهة الوطنية بين الشيوعيين والبعثيين والذي وصفها الحاج عبد اللطيف (عرس الواوية) وقال موضحا كلامه ((مأساتنا يا أبراهيم،أننا لا ننسى الماضي،لا القريب منه ولا البعيد ..أنه يعشعش في رؤوسنا ..خلافات أجدادنا قبل عشرات القرون ما زالت تستهلكنا. حتى لم يبق لدينا ما نواجه به الحاضر والمستقبل!!” وبعد سنوات الاستقرار لا بد ان تأتي سنوات عصيبة ،انهاء الجبهة الوطنية التي اهملها الروائي ليقفز الى الحدث الاعم والاشمل الثورة الاسلامية في ايران وقضية تسفير التبعية وهنا يصدم ابراهيم بتسفير العم قلي لأنه من الكرد الفيليين ،ويبقى يرعى زوجة العم قلي العمة صفية حتى سافرت الى سوريا لأقامة العم قلي هناك ،ويبقى ابراهيم وحيدا في البيت ،
غلطة الشاطر بألف
كيف يمكن ان يقع من كان دائما حريصا ومتحفظا ،الكاتب اطلق عليها (الشطحة المهلكة) ونحن نقول عنها غلطة الشاطر لنرى كيف يمهد الروائي لشرح مستوى (خديجة ) واستيعابها للغة العربية التي ستكون سببا لمصيبة كبيرة ، يصادف ان تكون جيران ابراهيم عائلة كردية من السليمانية يعوق رب الاسرة ويضطر ابراهيم لأبداء المساعدة الانسانية اليهم لنرى كيف يقدم الروائي خديجة للقارئ وقد لا يلتفت هنا القارئ الى اهمية هذا الوصف لكنه حجر اساس (الجريمة البشعة) التي جاءت في البداية “في بغداد أكملت خديجة الدراسة الابتدائية ،وانتقلت الى المرحلة المتوسطة وحققت في المرحلتين نتائج طيبة،على الرغم من أخفاقها في التغلب على اللكنة الكردية في كلامها …حديثها في البيت باللغة الكردية ،والاذاعة التي تستمع اليها باللغة الكردية.و فضلا عن منعها من اقامة علاقات مع زميلاتها في المدرسة ،خشية ،ان تكون هذه العلاقات طريقا الى الانفلات ….كما انهااستأثرت بحب ورعاية الست فاطمة مدرسة اللغة العربية والدين..وانها مدرسة متزمتة دينيا ،بلغت سن اليأس ،ولم يكن لها نصيب في الزواج …وانعكست عقدة الزواج ،.. وكان يحلو للست فاطمة تكرار كلمة “الجنس″ ووصفه بأقبح النعوت) هذه العبارات مهمة جدا فيما بعد حينما تقع الكارثة التي يكمل السيناريو لها شطحة ابراهيم بالتعرض الى خديجة وهو يقوم بتدريبها في معهد التدريب ((جرها الى الحائط والتصق بها .وأزاح منديل الحجاب عن رأسها ،احست بأوصاله ترتجف وتهتز كالحيوان المذبوح،شعرت بوجيب قلبه،وأنفاسه الحارة،تلفح وجهها،الذي راح يشبعه قبلا!))
الاستمارة الامنية سببا للكارثة
تم تعيين خديجة في قسم الطابعة مع ابراهيم ،وكانت العلاقة بينهما قد اصابها الشرخ الكبير منذ تلك الشطحة، وفي مصادفة محض اراد مسؤول الامن في الدائرة ان تقوم خديجة بملء الاستمارة الامنية كأجراء روتيني ،سلمها الاستمارة ودار بينهما حديث لا يخلو من التهديد الرخيص لرجال الامن مع كل مواطن،أخذت خديجة الاستمارة وتوقفت كثيرا امام كلمة (الجنس) في الاستمارة ،ومع فهمها المتواضع للغة العربية وما ترسخ في عقلها الباطني من الست فاطمة وما تردده دائما عن الجنس ،وخوفها من رجل الامن الذي حذرها من الكذب لأنهم يعرفون كل شيء واعتقدت بأن ابراهيم قد تكلم عن تلك الحادثة ،”فكتبت بيد مرتجفة امام كلمة الجنس “مرة واحدة” وحينما قرأ الامين استمارة خديجة ، ..استرعت انتباهه العبارة المدرجة امام كلمة الجنس مرة واحدة ..وبعد لحظات انفجر في ضحكة سالت معها دموعه ..استدعها وسألها :مع من؟ اجابت بحشرجة وصوت متهدج nابراهيم” هذه هي ملابسات الجريمة الغامضة التي ذكرت في بداية الرواية وكانت سببا لمقتل ابراهيم من قبل ابن عم خديجة وكاكا خسرو عامل الخدمة في الدائرة والذي كان يريد ان يخطب خديجة!!بشاعة القتل والتنكيل جعل السلطات تولي الامر الاهمية ولكن السبب التافه للقتل حول مجرى التحقيق الى مايشبه السخرية او الطرفة !”أزدادت حيرة قاضي التحقيق:ما طبيعة الاستمارة التي تتقصى عن امور الجنس؟ أهذه ،هي الاستمارة التي ملآها؟ بعد ان تفحصت خديجة الاستمارة،بأمعان ،أجابت:نعم،حسنا ،وأين هو السؤال،المتعلق بالجنس؟أشارت الى رأس الاستمارة ،حيث السؤال،الجنس،، أنفجر الاستاذ حاتم بالضحك … انت فتاة طيبة وشريفة ،ولكنك أخطأت فهم السؤال،أنهم يسألون في هذه الاستمارة :هل أنت ذكر أم أنثى !!!أستطاعت الرواية أن تخلق قارئا قلقا ،يبحث عن الغاز الجريمة الغامضة البشعة وموقف الشخصيات من الاحداث السياسية المعروفة تاريخيا ،وقد يصاب بالصدمة وهو يرى مصير البطل تحدده سوء الطالع في تفسير (كلمة) ،،السردية كانت محكمة وتصاعدية حرص الروائي على جعل كل الشخصيات والاحداث في خدمة الشخصية المحورية (ابراهيم) ،رواية سيرة ابراهيم تجعلك تعيش اجواء تاريخية لها أسقاطات في الوقت الحاضر ،قد لا يتفق القارئ مع الروائي في الاستنتاجات السياسية لشخصيات الرواية برغم من موضوعية السرد لكننا نبدي اعجابا بقدرة الروائي بتجنب اقحام العلاقات والشخصيات التي ليس لها علاقة بالهيكل الرئيس للحدث ،اما البناء المعماري للرواية فكان يميل الى التقليدية اكثر من التجديد.

*عن صحيفة الزمان

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *