لم احترف تخصص النقد مع اني قرأت الكثير من النتاجات الادبية لمختلف كتاب العالم لكني اجد في نفسي المقدرة على المقارنة بين تلك النتاجات ولو بمستوى معين، واود القول ان عوامل نجاح رواية من سواها يقف عند أمورا عدة ولعل اولها بعد المضمون هو عامل التوزيع والنشر والذي للاسف لم يأخذ نصيبه الكافي من الاهتمام في بلادنا الحبيبة وبالتالي بقي النتاج الروائي العراقي يئن في غياهب الظلمات ينتظر بزوغ شمس طال انتظارها.
رواية (سيرة ابراهيم) للاستاذ الدكتور سليم احدى روائع القصص العراقية التي لم تنل الاهتمام رغم اهمية المضمون. تناولت الرواية سيرة مواطن عراقي من الديانة المسيحية اسمه ابراهيم، سلطت الضوء على بعض مكنونات تلك الشخصية التي اثرت بشكلا واضح على عموم سلوكياته الحياتية ومن ذلك ما اكتنزته ذاكرته من مشاهد الدم التي طالما رآها في ظل الانقلابات والظروف السياسية غير المستقرة في العراق لفترة ما بعد ثلاثينيات القرن المنصرم والتي تميزت بكثرة الانقلابات والتظاهرات التي غالبا ماكانت تنتهي بمصادمات دموية .
كان ابراهيم شخصية انطوائية غير راغبة في الولوج بمعترك العاطفة والسياسة وكذا الحال اثناء حياته الوظيفية اذ شغل وظيفة (طباع) وكان على مدى حياته مثار تندر وسخرية الموظفين في شعبة الطباعة لخجله المفرط ولضعف شخصيته وبالرغم من محاولة البعض جره لتأييد جناح سياسي على حساب جناح سياسي اخر في العراق اذ كان العراق بين جناح قومي متمثل بعبد السلام عارف واخر يساري اتحادي متمثل بعبد الكريم قاسم لكن كانت كل تلك المحاولات تبوء بالفشل فقرر ابراهيم ونتيجة لظروف معينة ان لايدخل ذلك المعترك نهائيا .
اثناء ذلك تعرف ابراهيم على بنت كانت تخدم في بيت مسؤوله في الوظيفة كونه ايضا كان مكلف ببعض الاعمال الخاصة ببيت ذلك المسؤول واستطاعت البنت الجنوبية (نعيمة) برجاحة عقلها وعذوبة كلامها من فك شفرة ذلك الرجل المنعزل والابحار الى اعماق قلبه، ففكر ابراهيم بخطبتها و لكونه مسيحي توجب عليه إشهار اسلامه قبل ذلك، وبالفعل اشهر اسلامه وبدأ يتجه الى زيارة بعض مراقد الأئمة من ال البيت الاطهار لكنه تفاجأ بوجوب ختانه قبل الزواج وهنا عادت مشاهد الدم من جديد الى ذاكرة ابراهيم واخذ يعيش صراعاً نفسيا مريرا فقرر في النهاية ان يضحي بحبيبته على ان يرى ذلك المشهد فصرف النظر عن الزواج وقاطع حبيبته علاوة على ذلك لم يكن احد يعرف حينها الى اي ديانة اضحى ابراهيم ينتمي .
وبقي ذلك الرجل المسكين ورغم تجاوزه سن الخمسين بلا رفيقة ولا صاحبة باستثناء قنينة المشروبات الكحولية التي كان يعتقد انها الوحيدة القادرة على انتشاله من معاناته القاسية.
واجه ابراهيم في نهاية المطاف اختبارا صعبا فنتيجة لظروف معينة فقد اسند اليه تعليم ابنة جيرانه العمل على الة الطابعة بغية السعي لتعيينها في ذات الدائرة التي يعمل بها ابراهيم كانت البنت(خديجة) من القومية الكردية ولاتجيد اللغة العربية بشكل تام، وذات اخلاق وسجايا حميدة وكان اهم ما ادركته من الحياة من معلمتها (اياكم والخلوة مع الرجال) والتحذير المتكرر من جرائم الجنس وبقيت هذه العبارة(الجنس) التي لا تعرف عنها الشيء الكافي احد هواجس البنت المحافظة .
وفي احد الايام بينما كانت تلك الفتاة تجلس بالقرب من ابراهيم في غرفة الطابعة وهو مستمر بتعليمها على الة الطابعة وجد الاثنان انهما وحيدان في المكتب بعد ان خرج جميع الموظفين ولم يخطر ببال البنت ان هذا الرجل المسكين ستسول له نفسه يوما ان يتمادى عليها لكن اعتقادها كان خاطئ اذ اعترى ابراهيم في تلك اللحظات نزوة شيطانية وهو يرى شعرها الاشقر بعدما تدلى حجابها دون علمها وهي منشغلة بالضرب على الة الطابعة فهجم ابراهيم على البنت، والبركان الذي يغلي في اعماقه على مدى اكثر من خمسين عاما قد انفجر ولايمكن لأحد ان يوقفه وتفاجأت الفتاة بتلك الفعلة فاخذ يقبلها وهي تصرخ لكن سرعان ماعاد ذلك الرجل الى رشده وطفق يأنب نفسه ويخضع لمحاسبة الضمير .
انتهت هذه الحادثة بهذا الشكل دون ان تنتشر اخبارها الا ان سوء الحظ فتحت ابواب الجحيم على الاثنين ففي احد الايام طلب ضابط الامن من خديجة ملئ استمارة المعلومات الخاصة بالدائرة وكان احد تلك الحقول مكتوب فيه كلمة (الجنس) ولسوء فهم البنت للغة العربية ادركت ان المراد من الكلمة هو المعنى الذي فهمته من معلمتها اي جريمة الجنس فاخذت تصارع نفسها وايقنت ان لا مفر من البوح بما جرى فهذا ضابط امن ويستطيع اكتشاف كل شي حسب تفكيرها فكتبت امام الكلمة (مرة واحدة) حينها رأى ضابط الامن تلك العبارة وبالرغم من عدم فهمه في البداية الا انه ارسل اليها وكانت النتيجة ان اخبرت ذلك الضابط بما جرى .
بعد ذلك انتشر خبر تلك الحادثة الى ان وصل اقارب الفتاة الذين قرروا القصاص من ابراهيم (غسلاً للعار) واخذوا يتحينون الفرص للامساك به ضانين انه قد زنى بابنتهم ولم يكن بمقدور البنت ان تشرح لهم ماجرى كونها اصيبت بأنهيار عصبي وارسلها اهلها الى اقاربها في شمال العراق .
تحقق لاقارب البنت مرادهم فأمسكوا بأبراهيم وقتلوه شر قتلة فقد مزقوا جسده الى اشلاء وعبثوا بجثته ايما عبث .بعد قدوم احد معارف ابراهيم من الشمال حاملا رسالة وصلته من ابراهيم يشرح فيها فعلته مع خديجة، تاكد الجميع براءة ابراهيم، وعاشوا عقدة الذنب لما فعلوه.
لقد تميزت الرواية باسلوب سردي رائع مبني على لغة ادبية راقية غنية بالمفردات الجذابة كذلك فأن البناء الروائي لها فيه جانب جيد من الدراما الفلمية، لذا فهي تصلح لان تكون عملاً سينمائيا رائعا.
*عن صحيفة الصباح الجديد