مهدي شاكر العبيدي : إستذكار حول تقديم الباحث عبد الحميد الرشودي لآثار إبراهيم صالح شكر

mehdi 3أوستن – تكساس

في يوم ٍ ما ، قال لي الأستاذ جميل الجبوري : إنَّ كاتب المقدِّمة الوافية لا الضافية لكتابات إبراهيم صالح شكر ، هو الفهامة عبد الحميد الرشودي ، وأنَّ الثلاثة القائمينَ بجمعها وتبويبها هم : الجبوري نفسه ، والرشودي ، وخالد محسن إسماعيل ؛ بذلَ كلُّ منهم ما في وسعه من جهدٍ ، وتحمَّل ما أمكنه من عناءٍ وصبر أثناء مراجعته الصحف العراقية الصادرة في العقود الماضية من القرن العشرين ، قبل أنْ تؤذن مشيئة الخالق بتوديع هذا الأديب الرائد معاشره وقرناءه بصورة نهائية ، مستريحا ً من شؤون هذه الدنيا وأعبائها ، وقد يكون لا قِبَل له بملاقاة ما يترتب عليها من نكدٍ وضُر ٍ ورضىً بالكفاف في أهون حال ، وأنَّ جميع ما تضمَّنته تلك المقدِّمة من آراءٍ واستنتاجاتٍ وانطباعاتٍ بخصوص مسيرته الحياتية ، وعلائقه بساسة العهود المنطوية ، ومواقفه المتباينة سواء في مسايرة بعضهم ومهادنة آخرين وتمادٍ في كيل الاتهامات لرهطٍ أنْ فرَّطوا في المصلحة الوطنية ، وآثروا المنافع العاجلة ، وانتهجوا خطة لم تتسمم بالثبات والوضوح ، ويستوي عندها مصانعة بني عثمان أيَّام كان العراق دائرا ً في فلكهم ، فالامتثال بإمرة المحتلينَ الإنجليز وقبول انتدابهم ومعاونتهم على إطالة أمده ، وأخيرا ً حسبوا ذواتهم أهلا ً للاضطلاع بالحكم عُقيْبَ تتويج الملك فيصل الأوَّل ، وباهوا غيرَهم بما اختلقوه من سابقة في الجلاد والذياد عن العروبة موطنا ً وقبيلا ً ، وتنضاف إلى تلك المحصلات ملاحظاتٍ وأنظار بصدد مكانته في الأوساط الأدبية والمحافل الاجتماعية ، ودوره المهم في النهضة الحديثة إبَّان فترة ما بين الحربين ِ ، ومن جوانبها وأبعادها عموما ً ، فضلا ً عمَّا تميَّزَتْ به طريقته في الكتابة من خصائص وعناصر أسلوبية تبوَّأ معها منزلة ذات شأن ٍ بين أترابه الناثرينَ ليس في العراق فحسب ، بل في الوطن العربي كله ، فإذا كان الأدب في أصله وحقيقته يعني تعبيرا ً عن الذات الإنسانية في أعماقها من أشواق وأحاسيس ، أو يتصارع في أطوائها من أميال ٍ كلها أضغان وأحقاد ، ونقيضها من عواطف تؤثر الرفق والإشفاق ، والتغاضي عن الهنات والسوءات ، يبدو للمجتلينَ أنَّ إبراهيم صالح شكر ذو كفة راجحة في هذا السياق ، علما ً أنَّ ما كان يعانيه ويكابده ليس منبت الصلة بالواقع ، أو هو نتاج إبتلائه بآفاتٍ نفسية وأدواء أصيب بها كيانه منذ اليوم الأوَّل لإطلالته على الحياة واستحكام رابطته بالدنيا ، ولك إزاء هذه القسمة أنْ تسلكه في عداد ذوي النوازع والاتجاهات الفكرية التي يستهدونَ بها في مراسهم الأدبي قبل أنْ يكثر بيننا مَن أسميناهم منظرينَ وموجهينَ ومعنيينَ بتبصيرنا وإرشادنا إلى المنابع والمصادر التي نستقي منها مقومات أدبنا ، ونصير على بيِّنةٍ ودرايةٍ بما ينبغي لنا حيال مجتمعنا من إذكاء وعيه وشحذ إرادته والميل به عن الخنوع والاستسلام والتواكل ، جاعلينَ من شخوصنا صوىً وأعلاما ً تكون دليله على المحجة الرشيدة ، بعيدا ً عن المكر والمداهنة والخداع .

abdulhamid alroshodiإنَّ جميع ما اشتملتْ عليه تلك المقدِّمة لنتاجات إبراهيم صالح شكر التي صدَرتْ مجتمعة في كتاب ضخم سنة 1978م ، ضمن سلسلة الأعلام المشهورينَ عن وزارة الثقافة والإعلام في بلادنا ــ استبدِلتْ كلمة الفنون بالإعلام لمدَّةٍ محدودة ــ واحتوته من نظرات وأحكام بشأن الدور المعلوم المشهود الذي لعبه هذا الأديب المرهف الحس ، المشبوب العاطفة ، الإنساني النزعة ، على صُعُدٍ متنوعة منها الأدب والسياسة والاجتماع وتمحيص وقائع التاريخ القريب ، هو جماع ما خلص له الرشودي واستنتجه ، مستقريا ً مأثوراته ، وممحِّصا ً أواصره بالأعلام المشهورينَ زمنه ، وممعنا ً نظره فيما ينطوونَ عليه من مشارب وأهواء ، ويسعونَ لنيله من أغراض وحاجات ، وإنَّ صنويه قد يوافقانه عليها في خطوطها العامة ، ويخالفانه بدرجة وأخرى إذا تطلب الأمر تخصيصا ً واستوجبَ دقة متناهية في الصوغ والتعبير ، وقاطعة أيضا ً لأيِّ لدَدٍ وإرجافٍ عن الشأو الأدبي والفني الذي بلغه إبراهيم صالح شكر بدأبهِ وسعيهِ وكفاحهِ ومغالبتهِ العوائق والصعوبات .

فإذا عنَّ لك أنْ تنبري لمناقشة ما ورد في المقدِّمة المنصفة هاتيك من آراء وخواطر وتخريجات ، معترضا ً عليها ، ومبتغيا ً الدقة والتجرُّد والصياغة المبتعدة قدر الإمكان عن التوشية والتزيين والإطناب المُبَالغ فيه ، فع ِ منذ الآن أنـَّك ما تساجل وتناظر وتحاور في هذا الغمار إلا الرشودي دونَ قرينيه .

قال في مداخلتهِ : (( أمَّا أسلوبه ، ونريد بالأسلوب معناه الواسع الذي لا يقف عند طرائق الأداء اللغوية ، وإنـَّما يتجاوزها حتى يشمل اتجاه الكاتب وطريقته في التفكير والتغيير ، فإنْ تغلب فيه الإثارة العاطفية على الإثارة الفكرية ، فهو يعمد إلى المفردات ذات الإيقاع الجميل ، يلتقطها من هنا وهناك ، فإذا استقامَتْ عند سكبها في جملة غير مبال ٍ بالمعنى الذي تؤدِّيه ، فكأنـَّه يؤثر جمال اللفظ على جلال المعنى )) .

ebrahim salehووجه الاعتراض على هذا الرأي يتمثل في عدم مسايرته قدما ً ، وكأنـَّه مستثبتْ كونَ أديبنا ” لم يستكمل أدوات الأدب كما ينبغي ” ، حتى لو وجدنا مبرِّرا ً في اصطناعه ” المفردات التي ندَّتْ قواعد العربية أو واكبَتْ موازينَ صرفها ” ، أو ” أنَّ العمل الصحفي وما تقتضي طبيعته في السرعة جعلته يؤثر اللمحة العابرة على النظرة العميقة المتأملة ” .

على أنَّ الرشودي نفسه يُسجِّل له في موضع آخر غير مأثرة ودالة ، مُحِلا ً ذِمَّته وذمَّتي صنويه عند القطع بنسبة ما عثروا به وعليه من نتاجات الكاتب ، فوجدوه غفلا ً من التوقيع أو بتوقيع مستعار ، فاعتمدوا جملة ضوابط مالتْ بهم عن التردُّد والإحجام ، وخيَّبَتْ ظنـَّهم كليا ً بإمكان عزوها لغيره ، فمنها هذا الأسلوب المتميِّز بألفاظه المنتقاة والذي يوجع ويهدِّم كما يقول الرشودي ، ثمَّ هذا الموقف من الحوادث والرجال .

وأرى أنَّ هذه الخواص والسمات كفيلة بأنْ تلفتَ له الأنظار ، وتسترعي نابتة الكـُتـَّاب في زمنهِ ممَّن يجوزونَ طور البدوة ، ويرنونَ لمَن يستحق أنْ يقتفوا خطواته ويتبعوا منواله ، لا على سبيل التقليد والمحاكاة ، إنـَّما يتوخونَ منه تعلما ً واستفادة من تجاربه وخبراته ، وأنْ يصيروا إلى حال ٍ من استقامة اللغة واتساع التفكير ، وكذا يرى بعض المتتبعينَ والمتحرِّينَ عن ملابسات السنوات الماضية وأحوالها ، ومنهم المرحوم الأستاذ عبد القادر البراك ــ حسبما نقل لي عنه الأستاذ رفعة عبد الرزاق السعيد ــ أنَّ له ثمَّة دالة محمودة على الصحافيينَ الأدباء : خالد الدرة ، عبد الوهاب الأمين ، يوسف ارجيب ، لطفي بكر صدقي ؛ فقد أثـَّرَ في كتاباتهم بشكل وآخر ، ولعلي اجتليتُ شياتٍ من هذا الأثر عبر ما قرأته لخالد الدرة من صور قلمية عن المشتغلينَ بالقضايا العامة ، مضمَّنة في مجلته الشهيرة ( الوادي ) .

فما أشبهه وأدناه من هذه الوجه ، من الكاتب المصري زكي مبارك ، الذي ضرب المثل الأروع في آثاره الخالدة ، للأديب الذي لا يعي أصلا ً أنَّ له أسلوبا ً ، لفرط ما يأخذ به نفسه من الترسُّل والانطلاق ، مع اشتغال عقله في نفس الوقت بالحقائق الإنسانية الباقية في حياة النوع ، غير متجاهلينَ ما بينهما من فروق واختلافات في ظروف عيشهما وموحيات كتابتهما .

أخيرا ً ما أردْتُ القول إنَّ الباحث الرشودي كان بانسياقاته المذكورة في معارض التعبير يرمي الكاتب الذي عاش منحوسا ً ومنكدا ً ومضطهدا ً ، وأضرَّ بنفسه وسمعته في أخريات حياته جرَّاء ما سيطر عليه من أوهام ومخاوف ، وأعطى لمخاصميه مثلا ً على ما يؤدِّي إليه الضعف الإنساني من تهافتٍ وإسفاف ، كان من الممكن أنْ يكونَ بمنجاةٍ منهما لو أفلح في سد الطريق على تلك الوساوس والشكوك ، قلتُ ما كان البتة في نِيَّة الرشودي أنْ يرمي إبراهيم صالح شكر بسطحية الفكر وإنشائية الأسلوب .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *