يشي عنوان رواية ” مشرحة بغداد ” بخصوصية المكان ومحدوديته ، بما يترتب على ذلك من خصوصية ومحدودية الأحداث التي تدور فيه. فالمشرحة رقعة مكانية ضيقة تماما ًيرتبط أسمها باسم مدينة واسعة مثل بغداد ، وقد دارت الأحدث داخل هذه الرقعة ولم تغادرها إلا لماما ًوظل الموت حاضرا ًفيها على امتداد الزمن الروائي الذي لا يزيد عن يوم وليلة في حين كان الزمن الواقعي بتمدد من خلال الاسترجاع ليغطي مدة زمنية طويلة بعض الشيء .
صدرت هذه الرواية في طبعتها الثانية ( وهي الطبعة العراقية المصححة والمنقحة والمزيدة كما جاء قبل مدخل الرواية ) عن دار ميزوبوتاميا عام 2014، وجاءت في 221 صفحة من القطع المتوسط تتوزع على اثني عشر فصلا ً يحمل كل منها عنوانا ً خاصا ً به، وتستهل بالفصل الذي يحمل عنوان “الذبح بسكين المطبخ في البانيو”في مشهد مأساوي فاجع يفصح عنه عنوانه ويلقي الضوء على وجه بشع من أوجه الواقع العراقي الحافل بالمواجع والذي تتناوله الرواية المكتظة بالمشاهد الفاجعة وهي توثق ما حدث في السنوات التي أعقبت سنة الاحتلال . وبدءا ً من هذا المشهد ، يبدو للقارىء ان برهان شاوي يستعير مبضعا ً حادا ًليشرّح به جثة واقع متهرىء ويفجّر بؤر القيح فيه فيكشف بذلك عن المستورفي هذا الواقع.
بطل الرواية وراويها يدعى ” الحارس آدم “، ويلاحظ أن شخصيات الرواية الذكورية تحمل اسم (آدم ) وتحمل الشخصيات الأنثوية اسم ( حواء ) في تكرار مقصود قد يثير التساؤل عن مغزاه . ونزعم أن الروائي ربماعمد الى ذلك ليوحي بأن الأحداث التي جرى سردها في الرواية لها عمق تاريخي يصل إلى زمن آدم أبي البشر ، لاسيما ان ثمة اشارة ترد إلى الأخ الذي يقتل أخاه طمعا ً في الاستحواذ على زوجته ، ليذكّرنا بما حدث بين قابيل وهابيل وإن كان ذلك لسبب مغاير ، وكأن عصور التحضر المتلاحقة لم تفعل فعلها على السلوك البشري ، وقد يختلف الروائي مع رؤيتنا هذه .
يلقي فصل الرواية الثاني الضوء على شخصية الحارس آدم وعلى جغرافية المكان . والحارس آدم هذا شاب في الثامنة والعشرين بشخصية ملفتة للنظر ويبدو على مستوى واضح من الوعي والثقافة واهتمام بالفلسفة وعلم الجمال ،يفصح عنه ولعه بالقراءة ومشاهدة الأفلام ومنها الأفلام الجنسية ، لكن تحولا ً فكريا ً طرأ عليه فصار يقرأ الكتب الدينية في اشارة الى تخبط ابناء جيله .ويمكن القول ان في اهتمام الحارس بالأفلام الجنسية محاولة للهروب من واقعه حيث يبدو وحيدا ً وكأنه مقطوع الجذور عائليا ً، أو ربما ليفصح عن احتجاجه على طبيعة عمله حارسا ً في مشرحة لم يحصل عليه إلا بتوسط من قريب له كان يعمل حارساً في المشرحة نفسها من قبل ، وكأن الروائي أراد أن يقدم نموذجا ً للجيل الشاب وهو في مواجهة تعقيدات الحياة وصعوباتها .
ويبدو واضحا ً ان الرواية حرصت على ادانة حالات السلوك اللاانساني واللاأخلاقي للشخصيات السلبية التي حفلت بها ، منها عملية ذبح الصبي البائس الذي جاء الى احدى المناطق بحثا ً عن أكياس السمنت الفارغة لتقوم أمه بعمل أكياس صغيرة منها تبيعها لتوفر لعائلتها لقمة العيش ، واذا به يكتنشف بأنه دخل منطقة محرمة على ابناء طائفته ليقع بيد شرذمة لا تعرف معنى للرحمة فيتهم بالتجسس لصالح طائفته ويرغم على الاعتراف بذلك بما يبرر الحكم بذبحة . وتتيح الرواية لقارئها فرصة التعرف على نماذج أخرى من هذا السلوك من خلال استنطاق الجثث التي ذهبت ضحية لأعمال القتل أو التفجير أو الفساد الاداري والتواطؤ الخفي( لاحظنا كيف يتم القاء القبض على الأبرياء وزجهم في السجون وتنفيذ الاعدام بهم ظلما ً من اجل اطلاق سراح مجرمين وارهابيين حقيقيين فقد تم القاء القبض على آدم الخباز وهو بريء ( وكان ذاهبا ً فجرا ً الى الفرن الذي يعمل فيه ) ، من أجل اطلاق سراح الارهابي الحقيقي آدم صاحب فندق السعادة ). اماأبرز حالات السلوك اللاأخلاقي فتتمثل بقيام أحد العاملين في المشرحة بممارسة الجنس مع جثث النساء دون وازع من ضمير .
ان الروائي يلخص الموقف المأساوي في المدينة بقوله في مفتتح الرواية : ” الساعة الآن قد تجاوزت منتصف الليل . مشرحة بغداد قد أوصدت ابوابها . ليس هناك سوى الطبيب الخفر ومساعده والحارس الخفير . المنطقة التي فيها المشرحة ، والشوارع المؤدية اليها ، والأزقة التي تحيط بها وبغداد كلها غارقة في الظلام ” ( ص5 ) ، و ” كان الظلام يخيم على بغداد في تلك الساعة من الليل . ليل ثقيل ، ممطر ، يخيم على بناية المشرحة التي بدت وكأنها قلعة من العصور الوسطى أو بيت للأشباح ( ص 93) .و الظلام هنا معنوي أكثر مما هو مادي .
وتلقي الرواية الضوء على نماذج لازدواجية السلوك . فالأخ الأكبر لزوج حياة ( وهي صاحبة احدى الجثث التي راحت ضحية أحد التفجيرات ، يؤدي فرض الصلاة لكنه لا يتردد في التحرش بزوجة اخيه الذي يصغره سنا ًويسعى للاستحواذ عليها الى الحد الذي دفعه الى قتل أخيه . وبين نماذج السقوط الأخلاقي نتعرف أيضا ًعلى شخصية الأم التي تحولت الى بغي فتعمل ، بتواطؤ مع عشيقها ، على دفع ابنتها الشابة الى ممارسة البغاء سعيا ً وراء الكسب المادي، لتدخل هنا شخصية التاجر( آدم العراقي ) الى مجرى الأحداث فنكتشف بأنه يمارس الرذيلة تحت ستار الدين هو الآخر فضلا ً عن كونه يعاني من اختلال نفسي حيث اعتاد على جلد فتاته بحزامه بعد أن يكون قد نام معها .
تعتمد هذه الرواية الرواية على المزاوجة بين ما هو واقعي وما هو متخيل ويغطي المتخيل فسحة واسعة من زمنها وهو ما يبرر للروائي التعامل مع شخصياته كأنها شخوص حية وليست جثثاً فيعيدها الى الحياة ويجعلها تروي ما حدث لها بألسنتها ، وما يلبث أن يجعلها تهرب من المشرحة بعد أن ضاقت بالمكوث فيها ليهرب الحارس هو الآخر حيث يفتح الباب ويخرج مع صبي هو جثة في الواقع و” كان الفجر قد بدأت خيوطه البيض تلون فضاء بغداد المعتم ، وتكشف عن المشرحة شئيئا ً فشيئا ً ” ( ص 218 ) ، و” كانت شوارع بغداد مكتظة بالجثث الهاربة . كان هو قد شاهد الكثير منها في قاعة الثلاجات ، بل يعرف بعضها ، متأكدا ُمن موتها، كان متأكدا ً من أن جميع الناس هنا في شوارع بغداد ليسوا سوى جثث تتحرك، لكنه لم يكن متأكدا ً من شيء واحد ، هل هو حي أم ميت ؟” ( ص 219 ) ، ليجيب الروائي على تساؤله نيابة عنه بأنه ميت هو الآخر .
على صعيد البناء الفني يبدو واضحا ً ان برهان شاوي استفاد من تخصصه بالسينما فاستخدم الجمل القصيرة بانتقالات سريعة متتالية وكأنه يكتب سيناريو لفيلم بالإضافة الى توظيف شاشة التلفزيون والنقل المتواتر للأفلام أو متنابعة عملية هروب الجثث من المشرحة . اما اللغة فهي تمتثل لشروط السرد الواقعي الذي قد يجنح الى المباشرة ، وتنأى عن الشعرية التي لا تنسجم مع هذا النمط من السرد !
ناطق خلوصي : الكشف عن المستور في رواية “مشرحة بغداد”
تعليقات الفيسبوك