إشارة :
رحل المبدع الكبير “عبد الستار ناصر” في الغربة ودُفن هناك .. ومرّت ذكراه شبه يتيمة بلا ذكرى .. وبلا احتفاء ومراجعة تليق بقامته الإبداعية الشامخة .. أسرة موقع الناقد العراقي تقدّم هذا الملف إحياء لذكرى عبد الستار ناصر واحتفاء بمنجزه الإبداعي الفذّ. وسيكون الملف مفتوحا على عادة الموقع . تحية للمبدع الكبير عبد الستار ناصر.
المقالة :
(كذب البعض، لاجمال سوى الفن منيرا في صبحه والمساء).. المجلي – ابو الكلام –
قداس اول الى سيد القداسات الجميلة عبد الستار ناصر…….. لااعلم من اين ابدأ وانا اكتب عن عبد الستار ( بالمناسبة وضعت عنوانا الى مقالتي – عبد الستار ناصر بين الطاطران والاسراء – ولمن يريد ان يعرف – الاسراء – فهو اسم المستشفى الذي يرقد فيه الان سيد القداسات – ولهذا ابدلته – بسيد القداسات – فمن اى قداس ابدأ….؟ ولان للرجل تاريخا معي، قررت ان ابدأ الكتابة عن اصداء صدور مجموعته القصصية الاولى – الرغبة في وقت متأخر – وتعرفي به اول مرة، كان هذا في اواخر ستينات القرن الماضي..
كنت يومها في السابعة عشر من العمر- وللمزيد من الدقة – كنت في الصف الثاني المتوسط – ثانوية قتيبة – كان يشاركني على نفس الرحلة القاص فاضل الربيعي، كنا في بداية اهتماماتنا بالقراءة ينافس احدنا الاخر في القراءة وقد نتبادل مانقرأ، كنا حينها لم نكن قد تخلصنا بعد من نشوة قرائتنا الاولى لقصة الارجوحة للمبدع محمد خضير التي نشرت في مجلة الاداب البيروتية، كنت يومها اكتب بخجل محاولاتي القصصية الاولى والتي لم تتعدى مجموعة من الخواطر النثرية الممتزجة باحلامي الكبيرة بان تنشريوما ما ممهورة باسمي، كان فاضل قد سبقني في نشر قصصه في مجلة المتفرج التي كان يرأس صفحتها المعنية بادب الشباب الشاعر- قيس لفته مراد- وفي بعض الصحف، اتجهت الى قراءة الادب العالمي المترجم ووقعت في فخ دوستويفسكي وهيجو وبلزاك ومورافيا والكثير من الادب العربي الطازج يومها كان نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس يجوبان عقول الملايين، حتى اللحظة التي وقعت بين يدي مجموعة عبد الستار ناصر – الرغبة في وقت متأخر – فقرأتها بشغف ربما اكثر من ثلاث مرات متتالية، لم اشعر بالملل ابدا وانا اعيد قراءتها المرة تلو الاخرى، وكنت اضع الخطوط تحت السطور واكتب ملاحظاتي على نفس الصفحة، وتجمعت لدي الكثير من الملاحظات والهوامش التي حفزتني ان اكتب رأيي بالمجموعة، فبدأت بمقدمة عن القصة القصيرة وسحرها معطيا امثالا من قصص المجموعة والتي يريد الكاتب هنا وضع بطله في هذه النقطة ليعبر بها عن رأيه وهكذا تحولت هذه الهوامش والملاحظات الى مقالة – المؤسف اني لااتذكر العنوان الذي وضعته لها – وحينما قراها فاضل الربيعي اقترح ان اكتبها بخط واضح قائلا……..
– لكي تسلمها بنفسك الى عبد الستار ناصر….
شجعني فاضل كثيرا على هذا الامر وهو يثني على – المقالة – وقال انه يعرف الاماكن التي يرتادها عبد الستار ناصر، وكان يقصد – مقهى البرلمان – في يوم الجمعة، وفعلا، اعدت كتابة ماكان مبعثرا على اوراق دفتري المدرسي، لمرات عديدة حتى اللحظة التي اقتنعت بالشكل الاخير لها، وفي صبيحة احدى الجمع كنا نخترق شارع الرشيد، فاضل بقامته القصيرة وانا بقامتي الطويلة مرتديا سترتي الوحيدة حيث دسست مبيضة المقالة في جيوبها الداخلية، وكنت اتحسس الاوراق في كل خطوة من خطاي المرتجفة باتجاه مقهى البرلمان، كان المقهى في صبيحة كل جمعة يغص بالكثير من الاسماء المهمة، التي كانت تتجاذب او تتنافر حسب منهجها الثقافي والمعرفي، فهنا يجلس كتاب الاعمدة في الصحف، يتحلقون حول شعراء القافية والوزن والعمود وقربهم مداحون وصعاليك، وهناك يجلس كتاب التجريب والحداثة وفي طرف اخر يجلس رجال باعمار متفاوتة يمتهنون الطب والهندسة والمحاماة ومؤرخون لثقافات مزدهرة. المهم لاريد الخوض في تفاصيل المناخ الثقافي الذي كان يغص فيه مقهى البرلمان، حالما وطأت قدماي مدخل المقهى حتى انتابني الخوف والكثير من التردد، حينها قررت ان لاادخل، ولكن اشارة فاضل الربيعي نحو زاوية ما في المقهى مقتربا مني هامسا في اذني بنشوة المنتصر الذي استطاع ان يحقق مالااستطيع ان احققه لولا وجوده !!!
– انه هناك، وسأعرفك بغيره من الاسماء المهمة..
لم يكمل جملته، اذ سحبني الى يمين المقهى واقترح ان نجلس في مكان شاغر، جلست وانا لم ازل ارزح تحت وطأت ارتباكي الاخرق حتى اللحظةالتي نهض فيها فاضل بثقة حسدته عليها متجها مباشرة نحو شاب وسيم طويل القامة، صافحه وهو يشير باصبعه الصغير ناحيتي، ولم اتمالك نفسي وانا بمواجهة الابتسامة الملائكية المشجعة ووجه يحمل الكثير من العمق، اقتربا مني، وانا اتسائل هل هذا هو عبد الستار ناصر ام غيره، كنت اتحسس الاوراق متخيلا انها يمكن ان تكون قد سقطت مني في الشارع، نهضت وانا اضع يدي في الكف المدودة لي غير ابه بصوت فاضل الابح وهو يقدمني – مشيرا الى ناحية الرجل الوسيم – عبد الستار ناصر – كان هذا اول تعارفي به، سحبني عبد الستارنحو المكان الذي كان يجلس فيه، بعد مجاملات بسيطة، لم تكن الابتسامة تفارق وجهه، حينها وبيد مرتجفة اخرجت الاوراق من جيبي، فتح عبد الستار الاوراق المتوسطة الحجم – حجم دفاترنا المدرسية – وبدأ يقرأ وحينما انتهى من القراءة مد يده لي مصافحا وشاكرا جهدي وقدم الاوراق الى الشخص الذي بجانبه، وحينما انشغل الاخر بالقراءة همس في اذني انه – خضير عبد الامير، قالها بألفة، كنت اتحرق الى معرفة رأيه بها وحينما سألته قال انه جهد كبير…. ولكن لااهمية لرأيي في اى نقد يكتب عني المهم اني اسمع رأي خضير عبد الامير، كنت مشدودا الى القلم الذي اخرجه خضير من جيبه وبدأ يضع خطوطا على الكثير من العبارات، وحينما انتهى من القراءة – قال مقالة ممتازة وتستحق ان تنشر، كنت مأخوذا ومنتشيا، ولكن فرحتي لم تدم طويلا، حينما اضاف خضير عبد الامير، حقا انه جهد كبير ولكني اقترح عليك ان تلاحظ التصحيحات التي اشرتها اليك وتكتبها من جديد، حينها سحب عبد الستار ناصر الاوراق من يد خضير وقال لي سارسلها الى ملحق الجمهورية، ولايهمك من امر التصحيحات، سيتم تصحيحها في الجريدة، ودعنا عبد الستارناصر الذي انهمك بحديث مع رجل عرفت فيما بعد انه المرحوم موسى كريدي، بالمناسبة نشرت المقالة في ملحق الجمهورية بعد اربعة اسابيع من لقائي الاول بعبد الستار ناصر، كان هذا اول تعرفي بهذه القامة الادبية المهمة في الادب العراقي والعربي والعالمي، والتي كانت مقالتي عن مجموعته الاولى – الرغبة في وقت متأخر – تمثل اول تواصل لي او التجربة الاولى لي مع الكتابة، لم اكن ناقدا ولكني كتبت انطباعات شاب في السابعة عشر من عمره عن كتاب يتحدث عن الرغبة وتأويلاتها الجنسية والنفسية، تلك الرغبات المكبوتة التي تكمن في اعماقنا والتي لانستطيع البوح بها ولكننا نعيشها في كل لحظة، وفيما بعد تواصلنا في لقاءات كثيرة تخللتها الكثير من الحكايات والقصص التي كانت مجرد مشاريع ولكنها تحولت الى حقيقة، ولكن اكثر ايام تواصلي مع عبد الستار ناصر التي تحولت الى شبه يومية كانت في اواخر القرن الماضي حينما كان يشغل فيها المسؤولية عن الصفحة الثقافية في جريدة العرب اللندنية كنا ثلاثيا لايفترق عبد الستار وحسين حسن وانا ورابعنا رباح نوري، ولمن يعرف عبد الستار ناصر ولمن لايعرفه اقول، لم اجد حيوية تبيح نفسها وتهيمن على الاخر مثل حيوية وجمال روح وحيوية عبد الستار ناصر، المقامر الازلي، الذي ارخ لبغداد اجمل اغانيها، وارخ لاصدقائه في قصة – مقهى حسن عجمي – اجمل الموشحات، موشح حسين حسن،ورباح نوري، والحديثي حمدي مخلف، وكمال العبدلي، ارخ محلة الطاطران بازقتها الضيقة وحكاياتها الكبيرة حكايات العاهرات والفقراء زقاقا زقاقا بل بيتا بيتا، وارخ للحب تاريخا ومجدا لم يحلم فيه اكبر دونجوانات العالم، وشاكس الدكتاتورية في قصة – غرفة حسين الحسيني – وحقق معه في دائرة المخابرات على التفاصيل الواردة في القصة وسجن قبلها لعام كامل في ابان فترة- احمد حسن البكر – لنشره (قصة قصيرة) لايحضرني عنوانها، اسف اصدقائي…… عبد الستار ناصر، يرقد الان في مستشفى الاسراء في الاردن بعيدا عن عشيقاته الكثيرات ومحبيه الكثر، مشلولا، وبفم مطبق لايستطيع الغناء او العزف على الاته المحبوبة، تلك الالات التي كان يعزف عليها كل يوم، ولهذا لااستغرب انه اصدر -50- كتابا مطبوعا، عدا المخطوطات التي تقبع في ادراجه العميقة.