إشارة :
يسر أسرة موقع الناقد العراقي، أن تبدأ بنشر هذا الملف عن الشاعر الكبير محمد حسين آل ياسين ، ويهمها أن تدعو الأحبة من كتّاب وقرّاء إلى المساهمة في هذا الملف بما يتوفّر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق لإغنائه بما يليق بقامة هذا المبدع الكبير.
الحوار :
نبضه وهمه الوحيد هو الشعر وقد منحه جلّ وقته وحياته فأخلص له وحلّق بقوافيه عاليا في سمائه ليرتقي قممه الشماء وينال مكانة سامية عند متابعيه من قراء ونقاد وادباء ليمنحوه بحب وجدارة لقب شاعر الانسانية وشاعر العرب والامة وخليفة شاعرنا الكبير الجواهري.
صوره الشعرية المتجددة بالبلاغة المتدفقة وضاجة بالمعاني الساحرة التي تشد اليها القلوب والالباب , انه الشاعر والاديب الدكتور محمد حسين آل ياسين تولد بغداد عام 1948 والذي يعتبر من ابرز اعلام وقامات الشعر والادب في المشهد الثقافي ولعلّه يقف في مقدمة هؤلاء بحكم تاريخه الطويل وتجربته الشعرية الثرية والتي امتدت لاكثر من نصف قرن من الزمان واصدر اكثر من اثنين وعشرين ديوانا شعريا واولها صدر في عام 1966 الى جانب مؤلفات اخرى في مجال الادب والدراسات اللغوية في شتى اتجاهاتها كما حصل على العديد من الجوائز والاوسمة والدروع من عدد من المؤسسات العلمية والثقافية والجمعيات والمنتديات العراقية والعربية والدولية .
اضافة الى مساهمته الادبية والصحفية وابحاثه اللغوية التي نشرت في الكثير من الصحف والمجلات العراقية والعربية .
قبل ايام التقيناه واجرينا معه حوارا موسعا تميز بالصراحة وسعة الصدر فسألناه اولا :
{ أين أَنت من ساحة الشعر العربي والعراقي ؟
– أنا الآن بلا تواضع مصطنع ، القمة العليا في هذه الساحة ، الضاجة بالأسماء والعاجّة بالمدارس ، والمزدحمة بالأجيال ، بشهادة ما أكتُب وشهادة من يقرأه ومن يدرسه ويبحث فيه ؛ ولستُ قمة هذه الساحة لأني ما زلت فيها من ست وخمسين عاماً أطلُّ عليها و اتجذّر في كل ذرة إبداع فيها ، وأحترق بنيران الإبداع وهمه وطموحه ، ولا لأنني أفرعت في دوحتها الباسقة اكثر من اثنين وعشرين ديواناً سوى “الأعمال الكاملة” و “ديوان آل ياسين” التي طبعت في ست عواصم عربية هي بغداد و دمشق وبيروت والقاهرة وتونس وعمّان فأثارت مئات الأقلام تنقد و تبشر وتدرس حتى تجاوزت البحوث والدراسات والمقالات والتعليقات آلاف الصفحات المنشورة في الصحف والمجلات والكتب على امتداد الوطن العربي الكبير بين الخليج والمحيط ، ممّا لا يكفيه مجلدات لو جُمع ، وما كتاب الأستاذ ثامر عطا ابراهيم الموسوم “الشاعر آل ياسين بأقلام الآخرين” المطبوع عام 1986 الذي ضم مئة مادة نقدية إلّا احدى هذه المجلدات ، وما الأطروحة الجامعية التي نال بها الأستاذ صاحب رشيد موسى شهادة الماجستير من جامعة الأنبار عام 1999م إلّا واحدة من عشرات تناولت شعري بالدرس المنهجي المثمر ؛ ولا لأني شاركت بشعري بمئات المهرجانات والأماسي والندوات والمؤتمرات والملتقيات على مدى الوطن العربي وخارجه ، وكانت هذه المشاركات مثار الاهتمام لنجاحها الكبير ، ولا لأني أمثل مدرسة شعرية ذات خصائص وسمات وقف عندها النقاد وشخصوا ملامحها في جيل من الشعراء الشباب يترسمها ويقلدها ، ولا لأني كُرّمت بدرع ريادة الشعر في مهرجان الرواد العرب الأول في القاهرة مرتين 1999 و2002م ، ولا لأني نلت عدداً من الجوائز والأوسمة والدروع في عدد من الأقطار العربية والعالمية بدءاً من العراق وانتهاءاً بيوغسلافيا ؛ ولا لأني عند النقاد والقراء والصحفيين والجامعيين : أبو الطيب ، والمتنبي الثاني ،وشاعر الأمة ، وشاعر الانسانية ، وخليفة الجواهري ، وشاعر العرب ، ولا لأن أبياتي محفورة على شواخص حضارية ومعمارية مهمة ، وقصائدي تحفظ وتردد في كل مكان ، ولكن لأني أخلصت للشعر فارتفع بي ، إذ هو همّي الوحيد ، ونبضي الحيّ ، لم أبتذله بالكذب ولم ألوثه بالتجارة ولم أُدنسه بالجبن ، ولم أُذلّه بالاسفاف والركاكة والعبودية ، محضتُه الصّدق والحس الانساني ، فصعد بي على جناحيه إلى قمته العالية.
***
{ فإلى أي جيل تنتمي إذن ؟
– زمنيّاً إلى الجيل الستيني ، ففي أوائل الستينات بدأت النشر في الجرائد والمجلات ، وبدأت المشاركة في الأماسي والندوات ، وبها شاركت في تأسيس ندوة “عكاظ” الشعرية عام 1965 ونشرت أول دواويني “نبضات قلب” عام 1966 وفزت بجوائز الجامعة والمجمع العلمي في مسابقات الشعر . أما اصطلاحياً فلستُ كذلك ، فالستينيون حينما اختاروا لأنفسهم الانتماء الى عقدٍ زمني أرادوا تصنيف القصيدة الحرة تصنيفاً يبعدها ظاهرياً عن تقليد روادها الأوائل ، السياب ونازك وغيرهما ، وكأن الذي يكتبون ليس تقليداً لأُولئك فهم ستينيون وأُولئك خمسينيون وهكذا سارت الأمور فظهر سبعينيون وثمانينيون . وأما واقعياً فلست قائلاً بالانتماء الى عشر سنوات معينة فالشعر الحقيقي فوق الحدود الزمنية والعقود المرسومة ، واستقراء الشعر الخالد يبرهن على ذلك ، فماذا نقول مثلاً في جيل المتنبي ، أو الجواهري أو سواهما من الذين اختزلوا الزمن بأيديهم ، بل نسبَ اليهم عَصرهم إذا ذكروا وذُكر العصر ، ويبدو أن التمسك بالجيل من أوهام العجزة الناضبين ، إذ يبحثون في تقدم الجيل تقدماً في الشعر ؛ وأنّى لهم هذا ، والموهبة هي المعيار .
***
{ فأين أنت من نفسك ؟
– أنا في بحبوحة الرضى عن نفسي ، ولكنه الرضى المعمَّد بالتَّعب ، والمغمَّس بالرهق . لأن رضاها صعبٌ عسير ، فما تريدُه يقتضيني أن أجوع وأن أعرى ، وما تطمح إليه يتطلّب أن أشقّ طريقها بأظافري ، وجسدي تجاوز الى الشيخوخة ، وهي في عنفوان الشباب المتطلّع ، المتمرّد ، المشاكس ، النزق . فانظر الى جوادٍ كريم لم يبخل بدمه وجهده وكل وقته ما يربو على نصف قرن ، والى أميرة مدلّلة كبيرة نهمة ، لا تشبعها نعمةٌ ، ولا يرويها مجدٌ ، ولا يسترها حب ، ولا تغنيها شهرة ، فهي تريد ما لا يُستطاع ، وكأنها لم تذق الحياة . كم سمعتني في ليالي المناجاة ألعن الشعر وساعته الأولى ، فهزأت مني لأنها تعلم اني تعهدتُ لها بالشهادة في سبيل الحرف المتألق الصادق وتعهدتْ لي بالمدد الذي لا ينضب إبداعاً لم يمرّ في خيال بشر ، وصوراً لم تخطر على قلب أحد.
***
{ أكثر الأغراض الشعرية التي يخضع لها قلمك فتكتب الشعر ؟
– لم تزل الشهادة ، بمعانيها العظيمة المتفردة ، هاجساً شعرياً هائل الخصب والعطاء ، وسحريَّ التدفق والتوهج ، وسيظل كذلك نبعاً ثرّاً لا ينضب ما بقي لديَّ حسٌ قادر على التوحد بهذا العالم الباذخ . فلم أزل كلما تمثلتُ صور الشهادة أرتعش ارتعاش العصفور بالقطر ، وأهتز اهتزاز الغصن بالمطر ، وتغمرني قشعريرة أشعر من خلالها بقدرة عجيبة على الاستجابة الشعرية ، إذ لا تنفك هذه القدرة ما دمت متلبّساً ببرد الشهادة ، واقفاً تحت المطر ، أتأمل هذا الكرم والنبل والأريحية والبذل ، صورةً مسربلة بالدم الزكي مهيمنةً على روحي وعلى الكون ، واقفةً تختزل الزمان والمكان ، نابضةً بالحياة والحركة ، راسمة حقيقة البقاء ، وعاكسةً معادلات الحياة والموت ، رافضةً الرثاء والبكاء ، لأنها ترجمت كيف يكون الخلود العملاق بالذبّ عن القيم والحرمات والدفاع عن المقدَّسات ، بانتصار الجراح على المُدى والنصال ، وعزة الدم وخذلان الطعنة الغادرة ، فالشهادة والفتح صنوان ، والبغي والهزيمة توأمان ، ما بقي الليل والنهار ، واصطرع الحق والباطل . ولا أكشف سراً اذا قلت أني لم أمارس في يوم من الأيام تجربة شعرية تشبه تجربتي مع الشهادة ، موضوعةً وفناً ، على الرغم من انفعالي النفسي في تجارب ذاتية أو غزلية ، خصبة تنعكس دفقاً فنياً عالياً في كثير من الأحيان ، غير أنَّ للشهادة أصداء في أعماقي ترنّ رنين الأنين والآه ، ولا أملك أن أسدَّ عليه المنافذ ولا أن أَمنع تياره الجارف من أن يأخذني معه إلى العويل الصامت المتفجر بالصور الشعرية المتجددة والمعاني المبتكرة ، وكم توقفتُ أمام قصائدي في الشهيد والشهادة أتأمل هذه الحقيقة وأستجلي كُنهها وأَتساءَل عن سرّ هذا التوحّد الأخّاذ . فهل كنت منطلقاً من حلمي بها وأنها أعلى أماني العمر ؟ أم كنت منطلقاً من تقديس الشهادة الذي نما في وجداني تربيةً ونشأة وعقيدة ؟ أم لأن الشهادة قمة عصية ، أغلى وأكبر من أن يدركها الحيّ ، وأصعب من أن يفهمها الذي أخطأته اللحظة العظمى ؟ لا أدري على وجه الدقة أي من هذه الأسباب كان وراء الحالة ، ولكني أدري أنها مجتمعةً وغيرها معها لا تكفي تفسيراً لها ، لأن ما نتحدث عنه أروع وأبهى من كل ما قلتُه فيه ، وأجمل وأحلى من كل ما قيل فيه ، فهو الإبداع الانساني الذي لا يصفه إبداع .
{ البعض يقول : إن الشعر طائر يحلق بجناحيه . فماذا تقول ؟
– لهذا الطائر المحلق ألوان وأشكال ؛ فمرةً هو الخيال الشعري حين يرود أقاليم الرؤى وأصقاع الصور وحدائق المعاني وحرائق الحضور والطواف ، راحلاً في الدروب الموحشة يغمرها خفقاً واخضراراً ، ويعيد خلقها جمالاً ودهشة . ومرة هو الشاعر نفسه ،
حين يرتفع به صدقه ويطير به ضميره النظيف ، وتحلق به انسانيته وشجاعته ، ويظل يطلّ من علٍ على أحبته بني البشر يمطرهم بالحب ويملأ عيونهم الانبهار والمتعة وانكشاف الطريق ، ومرة هو المتلقي حين تحلق به القصيدة إلى غيوم الأمل وقمم الأحلام ، يشهق لحرف ويصفق لكلمة ويسجد لبيت . كل شيء مع الشعر يطير ، وكل مخلوق يحلق، حتى يغدو الكون كله طائراً يحلّق بجناحيه فوق فيافي المادة وصحارى الرداءة .
***
{ يقول أبو شبكة : الشعر صنعة . ويقول الجواهري : الشعر غيبوبة . فماذا تقول ؟
– لا أَدري هل قالا ذلك فعلاً ، ففي النفس شيء من الشك في نسبة القولين اليهما . لأن كلاً منهما كتب شعراً لا يصدق عليه قوله . ذلك أن الصنعة وحدها لا تضمن شعراً كما أن الغيبوبة وحدها لا تضمن شعراً . ففي شعر الصنعة جفاف ومحول ، لا يفصح عن أكثر من التزام العروض واتقان اللغة ، وهو في احسن فروضه شعر ترصف فيه الألفاظ وتسلسل فيه القوافي خالية من النبض المتدفق والوجدان المنفعل ، والعاطفة المتفجرة صوراً ومعاني ، والبوح المحترق بنبوءة الشاعر والجمر المخضلّ بهواجسه وإحساسه . وهو حينئذ لا يفترض موهبة خاصة ، وقدرة ذاتية ينفرد بها الموهوب ، بل يمكن لمن يتقن العُدة العروضية واللغوية أن يكتب من شعر الصنعة – إذا صحّ حينئذ أن يسمى شعراً- ما شاء له هذا الاتقان الأكاديمي أن يكتب ؛ والواقع أن أغلب شعراء كل عصر يصنفون شعراء صنعة ، لأن الأمر لا يتطلب أكثر مما ذكرت ، وغالباً أيضاً أن لا يكتب لشعرهم طول البقاء ، فحياة الشعر وخلوده تشترط غير الصنعة . ومن جانب آخر فإن الغيبوبة – على أهميتها القصوى – لا تكفي خالقاً مبدعاً للشعر ، إن لم تقترن بالقدرة على تصنيعها نصّاً ، فالغيبوبة المجردة ، مما يتساوى فيها عدد هائل من الناس ، ينقطعون لحظات أو ساعات عن محيطهم مُهوّمين في عوالم الحلم والسحر والرؤى ، دون أن تكون لديهم القدرة المفصحة عن استعداد نفسي وثقافي عاليين على نقل هذا العالم الغائب الى نص محسوس مقروء أو مسموع ، وقد شاع في العقود الأخيرة ، اهتمام شعراء الموجات المقلدة للكتابة الأجنبية ، بالتداعي ومرادفاته ، ويريدون الايحاء بمسوغ الغيبوبة ، تفسيراً لأنماط ما يكتبون . فماذا كانت النتيجة ، سوى هذا الغث المسف من الكتابات المعـــــــــمّاة التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة غير كــــونها هلوسات ليس فيها من الشعر سوى الانتماء القسري .0 وعندي أن الشعر ما نجح فيه اتحاد الغيبوبة بالصنعة اتحاداً عضوياً مصيرياً ، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر وكأنهما وُلدا معاً ، وهما كذلك فعلاً ؛ إذْ لم يحدث لديّ أَن سبق أحدهما الآخر ، إذ يجيئان معاً ويذهبان معاً ؛ فحين يحدث هذا الانقطاع اللذيذ عن الواقع فيما ندعوه الآن بالغيبوبة فإن الصور والمعاني تمطر مسربلةً بلغتها ومرتدية ثوبها فالوعاء اللغوي جزء لا يتجزأ من لحظة البرق الشعرية في كل خفق لصورة أو رفة لمعنى ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ، لأنه بحسب درجة الطغيان يكون النزول من الهرم الفني درجةً درجةً ، بحيث إذا بلغ طغيان أحدهما على الآخر كبيراً كانت القصيدة على الأرض التي ينتصب عليها الهرم كله . وبهذا المعيار يتفاوت الشعراء كبراً ومنزلة ، وتتفاوت مواهبهم ابداعاً واسفافاً ، والخالدون منهم هم الناجحون في تحقيق هذه الوحدة الفريدة .
***
{ من هو الشاعر المفضل لديك من الأَحياء المعاصرين ؟
– أكثر من واحد ، كلٌّ منهم يستحق مني وقفة ؛ نازك الملائكة الوفية لصوت الشعر في وجدانها وضميرها ، النقية في مناجاتها للشعر ، لم تتعصب – وهي رائدة الشعر الحر – إلّا للشعر ، كفرت بالأشكال إن لم تكن شعراً ، أنحني أمام صدقها مع الشعر . وسليمان العيسى المبدع المجلّي من ساحات النضال وصخبها ، إلى حدائق الصمت وحضورها ، براءة مدهشة مع الشعر والأطفال وكرامة الصمت ، وحسبه ان قصائده الخضراء أفرعت على شفاه الحالمين بغد الأمل والحرية ، وأينعت في أحضان الأمهات ودفاتر الأطفال ، نامية مزهرة مطلّة على الفجر . ومحمد الفيتوري ضمير أفريقيا وبلبلها الغريد ، الذي ابتسم حتى هطلت دموعه شعراً طالعاً كالعنقاء وسط النار والدخان والحرائق ، حبس في قلبه همَّه الملوَّن ليبيضّ نهار العرب ، يكفيه أن ينشد قصيدته بصوت راعش مرتجف لئلا يوقظ الحالمين . ومحمود درويش المسكون بالشعر والغربة والتوق والذكريات والأرض ، حتى صار فلسطين أهلاً وتراباً ، هزم الآخر بالشعر والحب ، وأقام من رؤاه وذكراه أحلى الأوطان وأغلاها .
***
ماذا تقول عن الألقاب الممنوحة للشاعر ؟
لا ينبغي للشاعر أن تعنيه ، بمعنى أن تكون هدفاً يسعى إليه ، لأن ذلك من شأنه أن يصرفه عما هو أدعى للسعي وهو الشعر ؛ نعم ربما يُزهى بها في أعماقه لشعوره بأنها نوع من الاعتراف ، على أن لا يتعدى الأمر الزهو الذي لا يوزع نفسه وجهده ووقته . فيخسر بذلك ما لا يعوضه اللقب ، بل ربّما خسر اللقب بعد خسرانه الشعر ، كما حدث ويحدث لكثيرين ، قصروا همهم على لقبٍ هنا وصفة هناك جاهدين على أن ينمو اللقب ويكبر الوصف ، فخسروا أنفسهم والشعر ، فشغلوا بغيرهما من سفاسف الحياة وزخارفها ، ويكفي أن نطالع سير الخالدين ممن أطلق عليهم أكبر الألقاب ، فلا نعثر على ما يدل على اهتمامهم باللقب أو السعي إليه ، وأقرب الأمثلة زمنياً الجواهري الذي لقب منذ أواخر الأربعينات بشاعر العرب ثم أُضيف إليه “الأكبر” ، فلا نقف في شعره ولا في ذكرياته المطبوعة بجزأَين كبيرين تحدث فيهما عن كل جزئيات حياته الشعرية ، على اية اشارة إيجابية أو سلبية إلى اللقب ولا حتى تلميح عابر أو ذكر يسير وكأنه لا وجود له أصلاً ، في حين أن اللقب كبير ، ورافق اسمه في كل مرة يذكر فيها أو ينشر مع قصيدته إلى أن صار لقباً رسميّاً شائعاً . ومثل الجواهري في هذه الظاهرة من سبقه من الشعراء الملقبين بشاعر العرب كالكاظمي (ت 1935) . والرصافي (ت1945 ) وغيرهما من شعراء مصر والشام ، سوى القدماء من الشعراء ، كالمتنبي والنابغة وسواهما . ذلك أن الألقاب نوع من التعبير عن الاعجاب بالشاعر يطلقه النقاد أو الناس ، فإذا وجد المتلقون استحقاقه لها شاعت حتى صارت لقباً رسمياً له ، غير أنه لا يفترض بالشاعر أن يدخل اللعبة حتى تروق له إلى درجة التخلي عن جزء من مسعاه الفني لملاحقتها وانمائها ، فإن فعل ذلك دلَّ على صغر لا يليق معه اللقب. ***
{المراحل الشعرية التي مررت بها ؟
– أولها مرحلة البدايات ، التي يحلو لي أن أسميها مرحلة الهَوَس الشعري ، التي شهدت حمّى النشر في الصحف والمجلات ، والمشاركات في الأماسي والندوات ممتدةً من أوائل الستينات إلى أواخرها ، وفيها شاركت بتأسيس “عكاظ” وانتظمت فيها شاعراً ، وفيها ملأت كلية الآداب شعراً وانشاداً وفوزاً بمسابقاتها الشعرية ، وشهدت صدور ديوانين من دواويني هما (نبضات قلب (1966 و (الأمل الظمآن (1968 وحصولي على جوائز الجامعة والمجمع العلمي وجمعية المؤلفين والكتاب ، الشعرية . واتسم شعري في هذه المرحلة بالرومانسية ، وكانت أغلب تجاربي فيه بالغزل والبوح الذاتي والشكوى من الوحدة والسأم ، مما يعدّ طبيعياً منتظراً من شاعر شاب مقبل على الحياة يفعمه طموح لا حدود له ويرفدهُ إرث عائلي باذخ العطاء والمجد ، وتحيطه بيئة تراثية ثقافية أدبية كل ذرة منها تنطف شعراً . تليها مرحلة الخروج بالنشر إلى الصحف والمجلات العربية والمشاركة في المهرجانات الكبيرة وتمتد هذه المرحلة من أوائل السبعينات إلى أواخرها ، وشهدت صدور ديوانين جديدين هما (قنديل في العاصفة 1975) و(مملكة الحرف 1979 )كما شهدت زيادة كبيرة في كتابات النقاد والدارسين لدواويني ، والتبشير بقادم منتظر كبير ، خصوصاً اني في هذه المرحلة وما سبقها كتبتُ كثيراً من الشعر الحر إلى جانب الشعر العمودي وضممته في الديوانين المذكورين ، وأغلب تجاربي في هذه المرحلة تميل إلى الذاتية والغزل وقصائد الأسئلة والحياة والموت ، والحيرة الوجودية والحكمة المستخلصة من الحياة وعنفوان الصراع المصيري فيها ، ممّا رصده النقاد تطوراً في العمق والتناول والحساسية ، ورافق كل ذلك نيلي الماجستير في فقه اللغة 1973 والدكتوراه في الاختصاص نفسه 1978 . بعدها جاءت المرحلة الثالثة التي بدأت عام 1980 واتسمت بنشر عدد من دواويني والأعمال الكاملة وديوان آل ياسين بطبعاته الثلاث وكثرة الدراسات النقدية التي رافقت كل ديوان أو نشاط ، وترجمة شعري إلى عدد من اللغات ، ومشاركتي بمؤتمرات وملتقيات عالمية ، أسفرت عن نشر بعض قصائدي في أوربا وأميركا ، وشهدت هذه المرحلة كثافة المشاركات في المهرجانات في داخل العراق وفي الوطن العربي ، مشبهةً تماماً مرحلة التسعينات من حيث استقرار المكانة عراقياً وعربيّاً وطغيان قصائد المصير العربي وقضايا الأمة ، والشهادة . وتكاد تلوح بوادر مرحلة جديدة بدأت قبل عام أو أكثر تنذر بموسم القطاف بعد السقي والسهر والرعاية والانتظار.
***
{ كيف تنظر إلى تجسيد مفهوم الإلتزام لدى الشعراء الآخرين من خلال قراءتك للمشهد الشعري العراقي الحديث ؟
– إنّ الكمَّ كبير والفنّ قليل ، بسبب ما ذكرته من تعلق الأمر بالمواهب أولاً ، وبسبب أنّ دوافع الكتابة اختلفت واختلطت ثانياً ؛ فبعد أن كانت ذاتية خالصة ، صارت متعددة متنوعة منها : التطلع إلى النشر في الجرائد والمجلات ، أو السعي إلى نشر المجموعات الشــــــعرية لدى ناشرين يتمسكون بشرط الإلتزام فيها ، ثم بدوافع مصلحية مادية محضة كمكافأة النشر وأمثالها ممّا لا يمتّ الى عالم الشعر الجميل بأي صلة ، فحين تكون الدوافع للكتابة من هذا القبيل ، تصبح الكتابة متعجلة متسرّعة غير معنية بالجانب الإبداعي الأصيل ، لأنّ النص سيكتسب شرعيته في هذه الأحوال من مجرّد التزامه حتى لو كان مصطنعاً متكلَّفاً ، مجتلباً من الخارج الاجتماعي أو السياسي ، فزاد الضعيف زيادة مرعبة ؛ وقلَّ العالي المبدع ، ولكنّه مع قلّته التي تشتدّ يوماً بعد يوم ، لا تخطئه عين القارئ ولا أذن السامع ولا قلم الناقد ولا وعي المتلقي في كل مكان وزمان ، والزمن مصـــــفاة هائلة العدل والإنصاف ، وستفرز وتصنّف بحسب الاستحقاق .