الكثير من الذين يكتبون عن الوطن سوءاً في داخله أو خارجه ،يغوصون كثيراً في ذواتهم التي يجدون من خلالها مفاهيمهم واشياءهم الجميلة التي سلبها الآخر ، وهم يجتهدون في فضاء المتاهة السردي ، منطلقين من ذلك في إبراز حجم ثنائية العلاقة ، بين المكان الذي ظل عالقاً في ذاكرتهم، بوصفه بؤرة أستدعاء إيجابية ، وهم يدركون جيداً بإنهم يهيئون له النهوض والقفز ضد كل ما يعيقه من تحديات ، وأقصد ” الوطن ” الذي صار شغلهم الشاغل بأعبائه ومشاكله المهمة التغييرية التي حملوها .
” سوى الاعتكاف في صومعة الأسى ومحراب الذكريات ، فتبدو الذكريات كخيط يمتد من عمق السنين ليغذي الروح بالأمل ، ولكنه أي أمل ” ص111
والتي أصبحت في عقولهم ونفوسهم منذ أن تجذرت مفاهيمهم الإنسانية التي إنطلقوا منها ، والساعات الكثيرة وآناء الليل والنهار التي يقضونها، ليعمقوا وعيهم لمفاهيم جديدة ، وهم يدركون مسؤوليتهم الإبداعية في أي منجز أدبي ، هذا الوطن المغزو بالمبضع لا لتدميه وتجرحه ُ وإنما لتكشفه ُ ، ولتتعرف عليه وتدرك جيداً بأن الهزائم التي لحقت وتلحق بالذات الإنسانية ممتدة في الأعماق الدفينة .
” وليس لي في لحظات صمتي القلق غير جزازات من الورق ، وقلمي الذي يستقي مداده من نزيف القلب ” ص109
ومن هؤلاء القاص العراقي ” الحسناوي ” الذي يقول عنه الناقد ” عبد الرضا جبارة ” في مقدمة المجموعة القصصية ” تكوّن قصص المجموعة مرآة عاكسة لإسقاطات الواقع وإرهاصاته الدافقة ،فظل النص القصصي يسيرُ باتجاه الواقع الاجتماعي والوطني ”
” متى أيتها الغربة نطوي صفحات خريفك التي أسقطت الأوراق ، والزهور على سواقي السعادة ، وعكرت صفو خرير الماء ، ماءها العذب متى نطويها ونعفّرجسدها بتراب الوطن ، ونستنشق رائحة براريه التي تهب مع زخات المطر عذبة كرائحة الجنة ” ص112
وهنا نتساءل من يهيئ فرص التفاعل مع الأوطان التي فرضت علينا واقع الغربة من جراء جلاديها !هل الضمير الإنسان أم سلوك الكاتب ونهجه في الحياة الذي تربى عليه ، أم رعاية المبدع وتربية أيام الطفولة والصبا وتبني تربية تسهم في خلق فضاء الكاتب ، وإنطلاق شخصيته لتحقق ذاتها في الواقع الصعب والمرً والكاتب ” الحسناوي ” لايقبل التفرد لكونه يغوص في عالمه الشعري والأدبي ، ولهذا جاءت معظم قصصه التي كتبها في هذه المجموعة ” سناء ” علم متنوع من الحكايات والنوادر ، ولو تمعنت أكثر تجد شغفه الشديد بالحرية التي بحث عنها ، ألم تكن الكتابة هي الترويح عن النفس والترويح عن الآخرين .
” لماذا أنا هنا ؟ هل ألقي القبض عليً بسبب إحدى قصائدي ، ولكنها وطنية خالصة أو وجدانية خالصة ، هل تهمتي كبيرة إلى هذا الحد الذي جعلهم يعصبون عينيً ويهينوني ؟ ” ص95
يقول عنه الناقد المعروف ” علوان السلمان ” فالقاص يتكئ في سرده على نماذج محاصرة ، مطاردة ، حزينة ، منطلقاً من ذاته ، وبالرغم من ذلك ظلت نصوصه مؤثرة في متلقيها بحكم صدقه وتعامله الفني مع الواقع بجرأة وموضوعية ، وبذلك قدم نصوصا سردية تمتلك ما يؤهلها على التواصل والحضور وما يوفر لها الديمومة مع نبض الحياة ومعطيات الواقع ”
” كانت روحها كطائر يرفرف بجناحيه فوق الحقول بحثاً عن حبة قمح أو كطائر الأوز حينما تضيق أمام روحه ، الفضاءات فيبحث عن أيكة ليغرد عليها تغريدته الأخيرة ” ص17
تجد قسوة الواقع وحرية الحلم التي إنطلق منها ” الحسناوي ” وجسدها في معظم قصصه ، وهو يكسر صمته ويخلق فضاءات متعددة من خلال حوارات داخلية فيها الكثير من التأمل متجاوزة ضيق الواقع ومحدوديته ،مما يدفع بشخوصه التي حددها هي التي تقرر . ولو وضعنا الكثير من قصص هذه المجموعة على طاولة التشريح تجد الأحساس بمعاني المكان ، وهو الموصول بالزمان عبر آلية إنطلق منها الكاتب في فلسفته ” الحكائية ” متصلاً به فقد بدا صعبا قراءة المكان بمعزل عن تضمين الزمان ، كما يصعب تناول الزمان في دراسة تنصب على عمل سردي ، دون أن ينشأ عن ذلك مفهوم المكان في أي مظهر من مظاهره كما تقول الدراسات ،
” فصرت أفسر من مجهولية البحر مجهولية المستقبل ، وما يضمه القدر لهذه النفس الشفيفة والعميقة الألم ”
لذلك لعب ” الحسناوي ” الشاعر والقاص على لغة أتسعت فيها فعالية الصفات المتعارف عليها في دائرة العمل اللغوي بسبب قدرتها الدلالية في رصد أفكاره والتعبير عنها ، أو بتراكيب لغوية منتظمة في أنساق من التوازن الذي يعتمد الومضة المتمثلة بحركة ذهنية تعبر عن مكنونات الحدث .
” تساءل َ الشاعر ُ عما تبقى له من وقتِ ، لقراءة ِ قصيدته ِ الأخيرة ، فأجابهُ مقدم ُ الجلسة ِ قائلاً ، اقرأ ما شئت َ فانهم نائمون ” ص112
ولهذا جاءت قصص المجموعة ” سناء ، ليلى ، صداع الكلمات ، خطيئة العمر ، الملل ، في بلدي السياط قبل التحقيق ” وغيرها متوهجة وذات لغة بسيطة وسهلة ، ولكنها في الوقت نفسه مفخخة حبلى بالمفاجاة واللاحتمال ، وهذه المجموعة من القطع المتوسط وتقع في 118 صفحة ، عن دار نشر اثارة العالمية – النجف الاشرف .
قاسم ماضي – ديترويت
قاسم ماضي : ومضات حُلمية بواقع مفترض إضافة إلى الهم الإنساني الشامل في المجموعة القصصية “سناء” للشاعر المهندس “محمد سعد جبر الحسناوي”
تعليقات الفيسبوك