شوقي يوسف بهنام : أسف البسطامي

shawki  5*مدرس مادة علم النفس/كلّية التربية/ جامعة الحمدانية

قال البسطامي ” إلهي الخلق لك ، وأنت مالكهم ، مالي والتكلف بالدخول بينك وبين خلقك لولا الغفلة ” (1) .

يعرف السيد الشريف (ابو الحسين علي بن محمد بن علي الجرجاني) الغفلة بانها ” متابعة النفس على ما تشتهيه ؛ وقال سهل : الغفلة إبطال الوقت بالبطالة ، وقيل الغفلة عن الشيء هي ان لا يخطر ذلك بباله ” (2) . ولم يرد هذا المصطلح في المعاجم الصوفية الاخرى مثلا القاشاني والحفني والزوبي .. وليس غرضنا هنا الوقوف على طبيعة هذا العنصر المهم في حيثيات التجربة الصوفية . الغفلة مشتقة من غفل يغفل فهو غافل بمعنى السهو والانشغال بشيء اخر غير الشيء الذي تتجه اليه الذات اصلا . الغفلة بهذا المعنى اعاقة او احباط لمسار الذات المتجهة الى غاية معينة . وقد يكون هناك عدة عوامل لإثارة الغفلة ؛ قد تكون لا شعورية ، مثل اجترار خبرة او ذكرى مريرة ما او يكون عامل اقوى اثارة من الغاية التي تسعى الذات الى تحقيقها . البسطامي هنا يعترف بمروره بفعل او خبرة الغفلة هذه . هذا يعني ان مسيرة البسطامي الصوفية ليست خالية من المطبات او المعطلات تماما . بمعنى انها ليست نقية كما ينبغي او كما يجب . هنا نجد ان البسطامي يغار من سعادة الخلق إن صحت العبارة ، والا لم يتكلف ويدخل بين المالك الاكبر وخلقه . الكثير من العقول او النفوس جالت في مدارات هذه الفكرة :-

– لو كنت مدبر الكون او مكانه كيف سوف ارسم ملامح العالم ؟

*******************

العالم بنظر الكثيرين من العباقرة ، أيا كان جنسهم او ميلهم يعتبرون ان العالم يسير بشكل مقلوب او معكوس وبالتالي غير صحيح وغير عادل مثلا . الكون تملئه العبثية ويسوده اللا معنى  . الم يقل ماركس مرة ” انه ليس المهم فهم العالم بل المهم هو تغييره ” . نميل الى الظن ان مضمون هذه الفكرة قد غزت ذهن البسطامي ، على الاقل ، خلال صياغة هذه الشطحة . ما الذي ابهر البسطامي بهذا العالم حتى يغفل عن مالكه ؟ ما الذي اعجبه به ؟ ما الذي شده اليه ؟ والف سؤال وسؤال يمكن ان نطرحه على البسطامي للوقوف على اسباب غفلته هذه . يمكن القول ، بمعنى من المعاني ، ان هذه الشطحة تمثل نقطة ضعف البسطامي . البسطامي يغار من الخلق .. من العالم .. لذلك انشد اليه فوقع في يم الغفلة . لنقف عند مفهوم الغيرة في التعبير الصوفي . يقول الزوبي عنها مثلا ” كراهية مشاركة الغير … والغيرة من لوازم المحبة ….. ” (3) . البسطامي يغار مثلا من امجاد العالم ومسراته ولذائذه بينما هو ماضي في شقاء المحبة غارقا في الفقر والحرمان والاقصاء . من جهة اخرى يقارن البسطامي ذاته بالعالم . البسطامي ليس فردا في العالم بل هو في كفة والعالم في كفة اخرى والله يرى الكفتين معا بدرجة واحدة . فإذا كان الله يرأف بالعالم مثلا ، البسطامي يريد ان يكون هو موضوع الرأفة الاوحد . البسطامي يرفع رأسه من صمت عليائه ويشرف على العالم . وقوعه في الغفلة يعني انشغاله به . يريد مثلا ان يغير هيكلية العالم كما يحلم . واذا شئنا الدقة !! يريد ان يحرك العالم كيف ما يشاء ومتى ما يشاء . ان الشطحة هذه تعبر عن انفعال مركب من غيرة وحسد وشد وجذب بينه وبين العالم . يعتبر العالم مصدرا من مصادر حزنه ولذلك كانت عبارته ( التكلف) إشارة الى ذلك الانفعال الذي غمر البسطامي لحظة ولادة شطحته هذه . نترك للاخرين حرية قراءتها بالشكل الذي يرتؤونه .

 

الهوامش :-

1- عباس ، قاسم محمد ، 2006 ، ابو يزيد البسطامي ، المجموعة الصوفية الكاملة ، دار المدى للثقافة والنشر ، بفداد ، العراق ، ط2 ، ص 46 .

2- الجرجاني ، د .ت ، التعريفات ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، العراق ، د.ط ، ص 93 .

3- الزوبي ، ممدوح ، 2004 ، اعداد ، معجم الصوفية ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 309 -310 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *