يمكن إجمال ما توصلنا إليه من أفكار ونتائج حول التجربة الجمالية بما يأتي:
أولاً:
1) يشترك في بلورة الصيغة النهائية للنشاط الإبداعي الذي يمارس في الفن – سواء كان من جهة المبدع في سعيه لاستدرار المعرفة من وقائع الوجود أو تجارب الحياة أم من جهة العمل الإبداعي الذي يتم فيه تجسيد الكشوفات المعرفية للفنان على وفق منطق الفن أم من جهة المتلقي الذي يسعى للحصول على ما يغنيه معرفياً ويوسع من تجربته من خلال تعامله مع الأثر الفني – العديد من العوامل المتفاعلة فيما بينها بوصفها عناصر بانية لإشكالية معقدة ومتشعبة يسهم في تحديد نتائجها كل عنصر من عناصرها سواء بثقله المجرد أم بثقله التفاعلي مع غيره من العناصر – بما يمثل سمة علائقية تحتاج، لإدراكها، إلى نظرة شمولية تتمثل بإرجاع ظواهرها إلى معانيها الأصلية المطابقة لنفس الأمر (أي واقعها الحقيقي كما يجب أن تكون) وهو ما لا يتم إلا بالاستناد إلى البداهة الفلسفية والجمالية، والتي تتحدد على ضوء تناغمها مع شروط الناموس الكوني وحدوده، ثم ان هذا الكشف المعرفي-المتحقق في التجربة الفنية وعن طريقها-ولكي تتحقق أصالته، لابد أن يكون وليد التأني والصبر ونكران الذات والتضحية وأن يتأسس على عنصر التعاطف مع موضوع التجربة ليضمن اتحاد عنصري العملية المعرفية، الذات والموضوع، وهو ما يمثل فرادة البعد المعرفي المتحقق في الفن بوصفه نتاج إشكالية خاصة ومنهج متميز يعتمد الاستبصار بماهيات الأشياء وحقائقها الجمالية بالنسبة لوقائع الوجود من خلال المنهج الفني المتأسس على الحدس ومنطق الوجدان والشعور الذي يسعى إلى تجسيد الوحدة بين الأشياء في تناغم بهيج بسبب من وحدة العلة التي يشترك فيها كل عناصر الوجود.
2) إن الفن العظيم عمل خلاق لا يؤتاه إلاّ ذوو النفوس العظيمة التي زكت فوق الاهتمامات الحسية المحدودة ثم أخذت ترنو إلى المطلق وإلى الحق والخير والجمال، النفوس العامرة بحب البشرية والكائنات، والمتطهرة من الأنانية المقيتة.
وليست العملية الإبداعية وليدة المصادفة أو النزوة العابرة، وان بدت أحياناً كذلك بسبب من سرعة تحققها وما تتسم به بعض الأعمال من سطحية إنما الفن، في أحد وجوهه الجوهرية، يعدُّ إقراراً على الذات حيث تنعكس من خلاله وبوساطته هويه المبدع أو المتلقي (المتذوق)، لذا لا يوجد شيء عديم الأهمية في مجال الإبداع الفني، حتى ان رسوم الأطفال قد اعتمدت في الكشف عن حقائق بعيدة الغور من ضمنها التبصر بميول الطفل واتجاهاته ودوافعه ونظرته إلى الوجود المتمثل في المجال الذي يحيى فيه؛ ثم ان ما نبوح به لا يقل تأثيراً علينا مما نتلقاه إن لم يكن أكبر تأثيراً، وعلى هذا، ولأجل فهم العوامل المؤثرة في تحديد الإشكالية الإبداعية – سواء من جهة المبدع أم الأثر الفني أم المتلقي – واستكناه المضامين الكامنة وراءها، يتوجب دراسة كل عناصر الإشكالية من حيث نوعية التصور المتبنى حول ماهية الفن والجمال أو طبيعة العمل الفني ووظيفته وكيفية تأثيرها في صياغة التوجهات الجمالية ودورها في تحديد الناتج النهائي للعمل الفني أو التجربة الجمالية، أم تلك التي تتسم بعنصر التغير وانتقاء الثبات المطلق وتتناسب مع الظرف الآني الذي يتشكل على وفق نوعية التجربة المعاشة وهي تتعلق بعوامل تتغير بحسب تغير الظروف والأوان من مثل طبيعة الإدراك والتجربة الجمالية والحكم الجمالي وكذلك كيفية تجسيد النموذج الجمالي على وفق شروط الفن والجمال.
ثانياً:
يستحسن توضيح بعض المفاهيم التي التزمها البحث وأسهمت في تأسيس تصوره الخاص حول الإشكالية التي تناولتها هذه الدراسة:
1) لا يمكن حل الإشكالية الجمالية بالشكل الصحيح إلاّ بالانتباه إلى وجود عنصرين مؤثرين في الحكم الجمالي وفي تحديد معنى الجمال، الأول يتعلق بالوجود المحسوس (المادي) للشيء، والثاني يتحدد بالقيمة الكامنة في ذلك الشيء وهما على التوالي شرط النوع وشرط الجمال. فالأول يختص بجودة الصفات الحسية ومجاله اللطف والاستحسان ويتم تجليته في حدود النظرة الاستقلالية إلى الشيء، والثاني هو المحقق لشرط الجمال (القيمة) ولا يعرف هذا الشرط إلا في حدود النظرة الآلية إلى الشيء. إن الخلط بين هذين المفهومين (شرط النوع وشرط القيمة) هو منشأ الابتعاد عن التحديد السليم لمفهوم الجمال؛ فشرط النوع يؤهل الشيء للدخول تحت لواء تلك الصفة أو النوع، أما مناط تحديد الجمال فهو شرط القيمة وليس شرط النوع.
2)
النظرة الاستقلالية: أن يكون النظر إلى الشيء في ذاته بغض النظر عن علاقاته بغيره وبالوجود ومدى تأثيره وتأثره في سياقه الذي يوجد فيه.
النظرة الآلية: أن يكون الشيء نافذة أو وسيلة للانتقال إلى فهم أشمل، أن ينظر إلى الشيء في نطاق إشكالية أوسع ومنظومة علاقات هو فاعل فيها ومنفعل، والخروج بنتيجة تقييمية للشيء، حيث يتحقق الحكم عليه بوصفه نتيجة لتأثيره في سياقه الخاص ومقدار الخيرية المتحققة الممثلة لكمالات الشيء ذاته. وهذه النتيجة ناجمة عن الحركة والصيرورة والسلوك أو الفعل وليس عن الجمود والانزواء والاقتصار على الغلاف الحسي في الحكم.
ثالثاً:
1) لا يمكن تحديد ماهية الفن من غير الأخذ بخاصية البعد المعرفي المتحقق فيه ومن خلاله، بوصفه، أي الفن، منهجاً للإدراك والتعبير في الوقت نفسه؛ حتى ان التحديد الذي يضعه الفلاسفة لماهية الفن وطبيعته لا يخرج عن الإطار العام للفلسفة التي يتبناها صاحب الرأي من الفلاسفة والمعنيين بالدراسات الفنية والجمالية وبالأخص ما يتحدد من آرائهم في ضوء نظرية المعرفة التي يعتمدونها في إرساء فهمهم الخاص للقضايا الفلسفية. فالبحث عن المعرفة دليل حيوية الفرد وعزيمته، وبرهان على العلاقة الإيجابية التي يحياها الإنسان مع ذاته ووجوده، وهو ما يمثل لبَّ العملية الإبداعية في الفن من حيث أنه عقلنة للتجربة بالنفاذ إلى صميمها والكشف عن جوهرها مما يجعله أكثر حقيقة وواقعية من الواقع بسبب كشفه عما وراء السطوح والقشور؛ ثم ان الفن الحقيقي والجمالي صنوان لا يفترقان، أن القيمة الجمالية لابد ان تتمثل في الفن الأصيل لكونه نتاجاً للروح تتجسد فيه حقائق الأشياء والعلاقات السامية المؤسسة لهذا الوجود، كما يجب أن يكون (المثال) وليس كما هو كائن في الواقع المباشر، وهو مما يتطلب إرجاع الأشياء إلى أصولها الصحيحة من خلال السعي للعلم بالمبادئ الأولى والعلل المشكلة لها.
2) لما كانت المعرفة بوصفها الهدف الأسمى للكائن البشري – وإن تعددت مناهج الوصول إليها – تعنى بالكشف عن الماهيات والحقائق، وحيث إن المعرفة تعد حقيقة فقط عندما تصل إلى حدّ التعريف (التعريف؛ القول الدال على ماهية الشيء، أو هو وضع هوية لكائن) ومادام الوسط الذي يعمل فيه الفن هو ميدان العواطف والوجدان والأحاسيس والعيان المباشر الذي يتأسس على محاكاة الفعل والانفعال، بمعنى أن الفن لابد أن يكون نتاج تجربة شعورية، وحيث ان المعرفة في الفن تعرض بصيغة تجربة حية مكتفية بذاتها (رمز فني) تعتمد الصور المستمدة من واقع الحياة، لذا، يمكن القول بان الفن، في جوهره، يمثل تعريفاً للتجربة على وفق شروط الشكل الجمالي (شرط الفن وشرط الجمال). وعلى هذا، فان الباحث يعرف الفن بانه؛ تعريف التجربة جمالياً لغرض الوصول إلى الحقيقة وبحسب الطاقة البشرية. فتعريف التجربة يتم من خلال تجسيدها عيانياً وإعطائها هوية خاصة على وفق منطق الفن، الذي يعتمد التمثيل الحسي للأفكار والعلاقات بإظهارها من الخفاء إلى الوجود لغرض استكناه البعد المعرفي من خلف التجربة عن طريق عرض ماهيتها جمالياً، أي على وفق شروط الشكل الجمالي – سواء من حيث شرط الفن (الصيغة والتعريف) أم شرط الجمال (القيمة) – ولما كانت المعرفة ظاهرةً وباطنةً وما بينهما درجات لا حصر لها، وحيث ان الوعي البشري مختلف من إنسان إلى آخر، لذا فان العمق المعرفي الذي يتجلى في الأعمال الفنية لابد أن يكون متفاوتاً بين الأعمال، ويختلف في قربه من الحقيقة بقدر القدرة المعرفية المتوفرة للمبدع.
رابعاً:
1) يشترط في الفن، وبحسب ماهيته، أن يكون نتاج تجربة شعورية – وليست ذهنية – يحياها الفنان المبدع، وان تعرض تلك التجربة في العمل الفني على وفق منطق الفن، منطق الوجدان والشعور المتأسس على عناصر مثل المجاز والمعنى الاستعاري، والذي يستلزم التوصيل الايحائي عن طريق الصورة المفترض أن تتشكل في مخيلة المتلقي من خلال القرائن التي تحف العمل. فطبيعة العمل الفني توجب الابتعاد عن التجريد والتقريرية والمباشرة، وأن يقوم العمل على محاكاة الفعل والانفعال وليس التأمل البحت ليتم تلقيه من قبل العاطفة والوجدان من بعد أن يدرك بوساطة الحس والذوق.
2) وتعد نوعية العلاقة التي تربط الفنان بتجربته التي يعيشها هي المناط في تمييز العمل الفني المبدع من بعد توفر شروط الشكل الفني؛ إذ نحن أمام نوعين من العلاقة بين الفنان وتجربته، فإما أن ينصهر الفنان داخل التجربة فيصبح أحد أجزائها ويجرفه سيلها، أو أن التجربة هي التي تنصهر داخل الفنان. في الحالة الأولى سيكون الانتاج هزيلاً لا يتعدى السطح الحسي ولا يمكنه الولوج إلى ماهيات الوقائع واستكناه جوهر التجربة، فيبدو الفنان أشبه بالأنبوب الفارغ، حيث تمر التجربة من خلاله وتخرج كما هي بلا تغيير وبلا صبغة حقيقية توحي بذات الفنان ومدى انعكاس وعيه ونظرته للوجود في عمله الفني. أما الحالة الثانية – أي حين تنصهر التجربة داخل الفنان – فان ذلك تأسيساً لشرط الفن الحقيقي بوصفه نتاج تجربة شعورية ليضمن حدوث تفاعل حقيقي بين ذات الفنان، الإنسان الأول، الذي هو نحن جميعاً – بما يمتلكه الفنان من قدرة على استبطان الذات – وبين تفاصيل التجربة؛ فيحصل كشف وتبصر واستبصار ويتم التعريف الجمالي للتجربة من حيث الوصول إلى ماهيتها وتجسيدها حسياً، مادام الفن في طبيعته اضفاء هوية على كائن من خلال أسطرة التجربة. فعلى الفنان، ولكي يكون لسان البشرية الصادق، أن يعيش تجربته بصدق ويعاني ما فيها من آلام وتحديات وصعوبات وأحزان تتعاظم كلما عظم احترام الفنان لنفسه واتسعت آفاق انسانيته ليكون ضمير العالم النابض.
3) المنتظر من العمل الفني أن يكون عرضاً للحقيقة بحسب فهم المبدع لها، فهو نتاج إشكالية يتم فيها نوع من الحوار بين الواقع واللاواقع، بين الشعور واللاشعور، بين العقل والخيال، بما يشبه الجدل الصاعد (ديالكتيك) الغاية منه التوفيق بين الحسي والخيالي بين الواقع والمثال، فوظيفة العمل الفني تتمثل في تعريف التجربة على وفق شروط الشكل الجمالي. ولا يعني تحقق شروط الفن في العمل أن يكون حاوياً على القيمة الجمالية، وإن استوجبت هذه القيمة – بوصفها الهدف الأسمى من تعريف التجربة – أن يكون العمل معروضاً بصيغة تجربة حية من حيث ان الجمال يتمثل في قيام الشيء بتمام وظيفته المطابقة لمفهومه الصحيح، بوصفه أي الجمال، سلوكاً وفعلاً وحالةً ديناميكية تستنبط قيمتها بالتأمل العقلي بالمظاهر المحسوسة والتجربة الحية التي يوحي بها العمل؛ لذا لابد أن يكون العمل الفني محاكاة للفعل والانفعال وليس بناء فكرياً يعتمد التجريد والعرض المنطقي، حيث توجب طبيعة الفن استقلالية العمل الفني بوصفه تجربة مكتفية بذاتها – وهو ما يمثل جوهر مفهوم الرمز الذي ننعت به الأثر الفني – فالعمل الفني يعد تجسيداً للمفهوم أو الفكرة أو لإيصال التجربة في حالة النظر إليه بوصفه وسيلة لتحقيق غرض ما، ولكن النظرة الاستقلالية للعمل تجعل وظيفته هي غاية له في الوقت ذاته من جهة كونه تجربة مكتفية بذاتها.
خامساً:
1) لا يمكن إدراك ضرورة الفن إلا بالانطلاق من الفهم الواعي لماهيته وطبيعته، بوصفه منهجاً للإدراك والتعبير في آن واحد؛ فالفن قوة تساعد الإنسان في مسعاه للإجابة عن الأسئلة الخالدة المتعلقة بوجوده (ما ..؟ وممَ..؟ وكيف..؟ وأين..؟ ومتى..؟). حيث يتميز منهج الفن في الإدراك المعرفي بفرادته المتحققة من خلال الاتحاد بين الذات والموضوع مما يجعل من الفن وسيلة إدراكية تعيننا على التبصر ببواطن الأمور وجواهرها ما دام المنهج العلمي مقتصراً على إدراك ظواهرها بسبب من اعتماده ما يقع في نطاق الحس والتجربة ورفضه لما هو خارج هذا المجال، فالفنان بما يمتلكه من مؤهلات وبفضل المنهج الفني المتأسس على الحدس ومنطق الوجدان والشعور فأنه أهلاً لإزاحة الحجب عن الحقيقة سواء الخارجية (الطبيعية) أم الداخلية (حقيقة النفس)؛ فالفن يمثل عوناً للإنسان لتبصر أكبر في ذاته وحياته من حيث حيوية القوى المتدفقة من العقل اللاواعي ومن جهة تمثيله العواطف والأهواء وعرضها في مشهد مستقل محسوس مما يتيح السيطرة عليها من خلال مَوْضَعَتَها والتحرر من سلطانها مما يوفر إمكانية فهمها وترويضها، فهو ضرورة سيكولوجية من حيث أنه يخرج اللاشعور المتناقض المفكك إلى الشعور المنظم الموحد مما يعين الإنسان على أن يستمد وعيه بذاته من ذاته نفسها من خلال الدخول في حوار مع هذه الذات لمواجهتها وإيقاظها بما يمثل نقداً للحياة. ثم أن الفن يعد إخراجاً للحقيقة من الخفاء إلى الوجود، لكونه تجسيداً عينياً للفكرة، للمفهوم، للقيمة، وتمثيلها أمام الآخرين لإدراكها ووعيها؛ ولما كان الواقع الحق يوجد وراء السطح الظاهر والأشياء التي ندركها إدراكاً حسياً مباشراً، لذلك تتمثل ضرورة الفن بأنه، ومن خلال التجربة الجمالية المتجسدة في العمل الفني، يمثل عرضاً للواقع الحقيقي، لما يجب أن يكون، للجوهر، ما يوحد لذاته وفي ذاته، ما يشكل جوهر الطبيعة والروح. ويسعى الفن في دائرة تصالح الأضداد من خلال تحقيق وحدة المعقول والمحسوس على طريقته وفي مجاله، فهو نقض دائم للواقع الكائن من خلال عرضه للمثال المتمثل بشروط الشكل الجمالي.
2) وتعد التجربة الجمالية التي يعرضها العمل الفني خير ما يمثل ضرورة الفن وأهميته. وتنبع أهمية التجربة الجمالية، فضلاً عن كونها وسيلة للإرتواء والجمال، من أن الفكر فيها لا يتطلب الاستعانة بمرجع خارجي لفهمه أو تفسيره، ثم ان الإنسان وبسبب محدودية عمره وقوته وقدرته فانه لا يستطيع الإحاطة بالخبرة الشاملة، والتجربة الجمالية هي التي توفر له هذا الشيء حيث أن الخبرة لا يمكن اكتسابها عن طريق التعلم بل يجب ممارستها لأن الممارسة الفردية للخبرة ومعاناتها شخصياً تجعلها جزءاً من شخصية الإنسان، لذا فان الإنسان يسعى لاكتساب الخبرة بالحياة بوساطة الفن لكونه تجربة بلا مخاطرة، ولكون التجربة الفنية على درجة عالية من التنظيم والدقة مع ما تملكه من قدرة على الانتقال والمخاطبة، فإنها تؤهلنا للكشف عن ماهية الحياة وحقيقتها من دون أن تطغي عليها التفاصيل الجانبية والتي تدفع، في أغلب الأحيان، الأمور المهمة إلى الهوامش كالذي يحصل في التجربة كما هي في واقع الحياة.
سادساً:
1) إن الجهود قد تعاضدت لتوجيه دفة الابحاث في علم الجمال (الاستطيقا) نحو الفن والاقتصار عليه فقط في بحث الجمال؛ فتم بذلك إخراج جمال الذات وجمال الطبيعة والقيم والأخلاق من هذا المضمار وأصبحت لفظة جميل لا تتعدى سمات السطح الحسي المدرك بالحس أيضاً، فاقتصرت على شرط النوع فقط من دون شرط القيمة (الجمال)، وبذلك أصبحت لفظة (جميل) تطلق ولا يراد بها الا شرط الفن (شرط النوع) من دون أخذ قيمة العمل الفني بنظر الاعتبار.
سابعاً:
1) ان القيم الجمالية باطنة في أصل الوجود وهي قيم معنوية لأنها ماهية ومعنى ولا يمكن إدراكها إلا بالعقل؛ فالعقل هو المدرك للجمال في النهاية وان اعتمد الإشارات الحسية لأن الجمال نتاج سمة علائقية لا تدرك وتعرف نتيجتها إلاّ بالعقل، وان التناسب والمقاييس إنما هي أفكار تتعلق بالكم ومن ثم لا يجوز أن تطبق على الحقائق الروحانية؛ كالأفعال والأخلاق والأفكار، فالسمات الكمية تتعلق بصفات الشيء الجميل (شرط النوع) وهي سهلة الإدراك لأن مجالها الحس، أما الجمال فسمة لا يتسنى إدراكها إلا بالتجريد العقلي المعتمد سلوكاً ديالكتيكياً، بالتدرج من المحسوس إلى المعقول، وهنا بالذات تكمن صعوبة تحديد مفهوم الجمال لأنه شيء معنوي وليس حسياً، وهذا الإدراك ما لا يتوفر لجميع الناس، فإدراك الشيء الجميل (شرط النوع) سهل ولكن إدراك الجمال وتحديده هو الصعب.
2) لا يمكن الادعاء باقتصار الجمال على شرط النوع وهو ما يؤدي إلى ثبات السمة الجمالية في الشيء مادامت الأعراض المحسوسة ثابتة، بل ان الجمال سمة ديناميكية متغيرة ويتطلب لثباتها الوعي والإرادة والعمل. لذا نرى أن سمتي الجمال والقبح موجودة بالقوة في الشيء ومن الممكن أن يخرج أي منهما إلى الفعل. فالأشياء ليست جميلة جمالاً مطلقاً، بل ان جمالها يأتي من وجودها في موضعها فقط مما يؤهلها لأداء تمام وظيفتها.
3) ان الجمال سمة ديناميكية تتحدد بالفعل والسلوك الواعي المقصود لغرض قيام الشيء بتمام وظيفته المتحددة على وفق مفهومه المطابق لحقيقته مما يجعله ينزع إلى الخير المتمثل في حصول الشيء على كمالاته بالدرجة الأساس، فضلاً عن الخيرية المفاضة من الشيء على الوجود الخارجي والمعززة للقيم الكونية الأصيلة بسبب من تناغم السلوك الجمالي للشيء مع الناموس العام.
4) نخلص إلى ان الجمال سمة علائقية ولا يمكن فهمه إلا في السياق الكوني العام، ولا يمكن فهم الجمال الجزئي إلا بتحديد ماهية الجمال المطلق ثم الهبوط منه لتفسير مظاهر الجمال المعقولة والمحسوسة. ويبدو أن لا المنهج القبلي وحده ولا المنهج البعدي وحده بقادرين كل بمفرده على تحديد مفهوم الجمال بل أن الأمر يتطلب الاستعانة بكلا المنهجين لتحديد الجمال.
ثامناً:
1) لا نرى مبرراً للفصل أو الجمع بين القيم الثلاث التي ترجع إليها الأحكام التقديرية (الحق، الخير، الجمال) بحجة تداخل الملكات المدركة لها أو تفارقها (العقل للحق، والاحساس للجمال، والإرادة للخير) فالكمال يتحقق في الموجود على قدر توافقه مع الناموس الكوني العام؛ ولابد أن يجتمع فيه، وفي الوقت ذاته، الحق والخير والجمال لأنها سمات لازمة من أصل الوجود الحقيقي؛ فالشيء يكون جميلاً حين قيامه بتمام وظيفته والتي لابد أن تكون متحددة على وفق مفهومه الصحيح وماهيته فيكون حقاً ثم ان الجمال لابد أن يؤدي للخير من جهة أن قيام الشيء بوظيفته الحقة لابد أن يحقق له كماله الذاتي ثم أنه لابد أن يؤدي إلى الخير، لذا فالجوهر الحق من الممكن أن يدرك باشكال مختلفة.
2) النافع والمفيد واللذيذ والسار واقعة في مفهوم الخير وان اختلفت نسبة الخيرية في كل منها (الحاجة والضرورة)، فالتداخل بين الجميل وهذه المعاني قد تكون ناشئة نتيجة عدم الدقة في التفريق بين شرطي النوع والقيمة. ثم ان الجمال، في حقيقته، نزوع إلى الخير، بل هو في ذاته خير ومفيد في ارتقاء الحياة. هي سمة متأصلة في فطرة الإنسان حيث تقديره للجمال فيقرنه بالخير والمفيد واللذيذ لأن هذه المفاهيم هي في أصل قيمة الجمال.
تاسعاً:
1) لا نجد سبباً منطقياً لتفضيل جمال الفن على جمال الطبيعة؛ فالجمالان مختلفان في النوع وليس في الدرجة ثم ان الأسباب المعتبرة لهذا التفضيل لا تملك الصمود أمام المحاكمة العقلية النزيهة وهو ما يبدو أكثر جلاء من خلال استعراض الآراء والأسباب التي سيقت للتدليل على أفضلية الجمال الفني على الجمال الطبيعي؛ ونرى أن أهم سببين اعتمدهما المعنيون هما مسألة القصدية والتحوير الجمالي اللذين يتمتع بهما الفن من دون الطبيعة كما يرى أصحاب هذا الرأي.
2) تعني مسألة القصدية أن العمل الفني يأتي وليد قصد مسبق من قبل المبدع وأنه نتاج وعي وإرادة وهو ما تفتقر إليه أشياء الطبيعة وبالتالي الجمال الطبيعي؛ إن هذا السبب وإن كان في جوهره إنكاراً للخالق، إلا أننا لا نرى فيه سبباً حقيقياً لذلك التفضيل. فمسألة القصدية في الطبيعة ليس للإنسان البت فيها لأنه ليس مبدعها بل يتوجب إرجاعها (أي الطبيعة) إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما أن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها، ومناط وصف المصنوعات الإنسانية بالحقيقة هو مشابهتها لتصور العقل الإنساني وصنع الفن. أما الطبيعة فوليدة قصد الهي، ولذا لا يوجد شيء غير حقيقي في الطبيعة، وبالتالي لا يوجد فيها شيء غير جميل؛ فمادام الحق مساوقاً للوجود، فان كل موجود لابد أن يكون مطابقاً للحكمة الإلهية التي أوجدته، مما يعني أن كل موجود له ماهيته، وان وجوده وطبيعته هو عين ماهيته، وبالتالي فهو جميل، لذا لا نجد مبرراً لوصم الطبيعة بالنقص الجمالي في مقابل الفن مادام مقياس الجمال في الأشياء الطبيعة متمثلاً في كون الشيء تجسيداً لماهيته وفي الوقت ذاته لديه من الصفات والأعراض ما يجعله مؤهلاً للقيام بتمام وظيفته ليكون مطابقاًِ لمفهومه.
3) أما مسألة أفضلية الفن على الطبيعة من جهة أن الفن عن طريق التحوير والحذف والإضافة يستطيع أن يسد النقص الموجود في الطبيعة باعتبار ما فيها من نقص في أصل الخلقة أو ما يدعوه شوبنهاور بالشر الميتافيزيقي ويعني به النقص الموجود في الأشياء الطبيعية في أصل وجودها؛ نقول: ان عدم وجود بعض الصفات والخصائص في الأشياء الطبيعية لا يعد نقصاً جمالياً، لأن النقص إنما يحدد بحسب ماهية الشيء ومفهومه، فان فقدت سمة معينة من شيء وكانت مثبتة له في أصل ماهيته فإنها في هذه الحالة فقط تعد نقصاً، وليس هناك ضرورة لوجود الكل في واحد وإلا لانتفى تباين المخلوقات في أنواعها، ثم ان الأشياء الطبيعية، خلافاً للفن، ليس همها أن تكون جميلة من جهة مظهرها الحسي فقط، بل لها وظيفتها والمحافظة على نوعها، والأصل في الحكم هو التعليل والتبرير المنطقي لوجود الشيء وهذا مما يؤكد سمة الجمال، لأن الجمال هو مطابقة الصورة للأصل، وفي هذا نفهم تطابق الجمال مع الحقيقة.
عاشراً:
1) ان النشاط الفني سواء كان إبداعاً أم تذوقاً لابد أن يكون للإدراك الحسي أثر فيه، فالعملية الإبداعية وان كانت في أساسها عملية عقلية، إلا أن أساس العمليات العقلية الإدراكية هو الأحساس أو الإدراك الحس الذي هو فهم أو تعقل بوساطة الحواس؛ ففهم الإدراك ضروري لفهم العملية الإبداعية (المبدع، العمل الفني، المتلقي)، لأننا نستجيب للبيئة لا كما هي عليه في الواقع بل كما ندركها، مما يتوجب التمييز بين البيئة الواقعية والبيئة النفسية (المجال)، وليس بالضرورة أن يكون هناك تطابق بين ما يدركه الإنسان وبين الحقيقة كما هي في واقعها. وحسب علم النفس، فان الإدراك نوع من الاستجابة لا لأشكال من حيث هي مجرد أشكال حسية بل لرمز وأشياء مما يعني أن الإدراك الحسي هو عملية تأويل، لأن الإنسان في تعامله مع واقعه، لا يحس إحساساً خالصاً إذ لا يتعامل مع منبهات حسية مجردة (حيادية) بل مع أشياء تمثل له معانٍ خاصة. ومادامت الأشياء في معانيها وتأويلاتها تختلف من شخص إلى آخر فهذا يعني أنه – في الظروف الاعتيادية-لا يوجد إدراك حقيقي للشيء فضلاً عن اختلاف الإدراك من شخص إلى آخر، مما يوحي بضرورة الرجوع إلى البديهيات لمعرفة حقائق الأشياء لغرض تحقيق الإدراك والحكم الحقيقيين.
2) قد تكون الحواس ملائمة لإدراك صفات الأشياء وأعراضها، ولكن الغوص إلى الأعماق واكتشاف الجوهر هو من مهمة العقل، وليس الجمال أشياء خارجية عارضة بل هو أقرب إلى الماهية، يستقر في باطن الأشياء ويعكس من خلال الأعراض الخارجية. إذن؛ تذوق الجمال ليس مجرد إدراك حسي، وانما هو إدراك لقيمة واكتشاف لدلالة جمالية هيهات لأي مظهر حسي أن يستوعبها بتمامها. فالجمال حقيقة روحانية لا يتأتى إدراكه إلا بأداة من نفس الجوهر هي الروح، ولا يمنع إدراك شرط الفن أو الصيغة عن طريق الحواس لأنها متعلقة بالشكل وليس بالجوهر أو القيمة.
3) يرى افلوطين ان التعادل ما بين المدرِك والمدرَك هو سبيل الإدراك، فإذا تم التوافق بين الجمال في العمل الفني وروح متلقي هذا العمل، أمكن إدراك هذا الجمال؛ ونرى أنه لا يمكن لهذا المقياس، على اطلاقه، أن يكون مقياساً للجمال طالما اننا نستجيب لما يتوافق ودخائلنا وأذواقنا وقد يكون الشيء جميلاً في وقت ما، وقبيحاً في وقت آخر، أو ينقلب الحق باطلاً والباطل حقاً بحسب نوعية الحالة الروحية للمدرِك. لذا لا يتحقق هذا التصور الا في الظروف المثالية حين يكون الإنسان تجسيداً للمفهوم الجمالي الحق فلا يتلقى في روحه الا ما كان من سنخها، وبالتالي فان ما يدركه ذلك الشخص لابد أن يكون هو الجمال عينه لتوافقه وتعادله مع الحقيقة الجمالية المتجذرة في الشخص ذاته.
4) إن الجمال نتاج اندراج الشيء في حركة وسياق وسلوك وليس مقتصراً على الشرط الاستاتيكي المتمثل بالصيغة الثابتة والتي لا يخلو إدراكها من تجريد وتحليل، وهذا النبض إنما يتصل بصورة أكبر مع شرط القيمة بوصفه تجسيداً لمفهوم الشيء وحقيقته من خلال قيام الشيء بتمام وظيفته المطابقة لنفس الأمر (أي الشيء كما يجب أن يكون في واقعه الحقيقي) والتي لابد أن تكون نزوعاً إلى الخير، ثم ان الإدراك البشري الطبيعي والمتمثل بتأويل الإشارات الحسية المُستلَمَة يتوقف على الموقف الكلي الذي يوجد فيه الشيء لأن الجزء لا يمكن فهمه إلا في صلته بالكل الذي يضمه ويشتمل عليه (فنفس الكلمة يختلف معناها باختلاف الجملة التي تحتويها) وهذا الاختلاف الإدراكي بحسب تغير السياق يجعلنا لا نجزم بوجود شيء جميل جمالاً مطلقاً بلا شرط أو قيد، وهذا مخالف لاتخاذ شرط النوع شرطاً للجمال مادامت الصيغة ثابتة وان تغير السياق، إذن؛ مناط الحكم هنا هو شرط القيمة لأنه متغير بتغير السياق وتغير سلوك الشيء ذاته من حيث قربه أو بعده من أدائه لوظيفته التامة المطابقة لمفهومه الحق.
حادي عشر:
1) لا تقتصر التجربة الاستطيقية (الجمالية) على الخلق والإبداع، وإنما هي تشمل الذوق والمشاركة الفنية، ولا يمكن الادعاء باقتصار التجربة الجمالية على ما يدرك بالحس فقط، أو ما يسمى (السطح الحسي للعالم) من حيث التأكيد على الصيغة (شرط النوع) بوصفها ممثلة لاستاتيكية الجمال، بينما الجمال الحقيقي سمة ديناميكية ترفض الثبات المطلق بدون شرط الوعي والإرادة والعمل على وفق المسار الصحيح، فحين نقرأ الشعر نقدر سطحه، أي موسيقى الألفاظ ومواقعها، كما نقدر الأفكار التي ينقلها إلينا، مما يعني أن أي نوع، وكل نوع، من الوعي-الحسي، والإدراكي، والعقلي، والتخييلي، والانفعالي-يمكن أن يحدث في التجربة الجمالية.
2) التجربة الجمالية عملية تعرّف متطورة لا يدركها الجمود بسبب من توحد الذات والموضوع، وتوطد عامل الألفة بين الاثنين، والجمال ليس، فقط، وليد السطح الحسي الثابت أو ما يتمثل بالنظرة الاستقلالية للشيء معزولاً عن سياقاته فلا يشير إلى ما هو خارج عنه، بل ان حقيقة الجمال والتجربة الجمالية وقيمتها الحقة لا تعرف إلا إذا نظرنا إلى الشيء نظرة آلية واعتبرناه ضمن سياقاته ووظيفته المحققة لمفهومه الصحيح ولماهيته، فيكون دليلاً إلى ما هو أعمق منه وأبعد وأعلى وأسمى، وكما يقول وليم بليك: أن ترى العالم في ذرة الرمل، والله في الزهرة البرية.
3) إن الإدراك المتأتي للشيء مع دوام عملية الإدراك لفترة طويلة هي جوهر التذوق الذي يعني إمكانية الاستجابة لمختلف المثيرات والإشارات وعدم الاقتصار على تناول الأشياء من الوجهة النفعية وهو ما يمثل جوهر الموقف الاستطيقي بوصفه انتباه وتأملاً متعاطفاً منزه عن الغرض لأي موضوع للوعي على الإطلاق، من أجل هذا الموضوع ذاته فحسب؛ فالإدراك المتأسس على الموقف الاستطيقي يسعى إلى إدراك الشيء لذاته. والمعول عليه في الموقف الاستطيقي ان الإدراك لا يتم بطريقة قبلية بل يعتمد على نوعية الشيء وطبيعته. إن الموقف الاستطيقي بوصفه تأملاً مباشراً في الموضوع ولكونه، في جوهره، إدراك لأجل الإدراك متأسساً على عنصر التعاطف مع الموضوع، لذلك يتوجب أن يكون الموقف الاستطيقي المؤهل للإدراك الاستطيقي هو الأساس في النشاط الجمالي سواء في مجال الإبداع أم التذوق، لأن ما تنتجه الفنون هو الجواهر (الماهيات) الخالدة في الأشياء لا وظائفها العملية؛ فمشاهدة الجوهر هي معاينة الشيء في ذاته ولذاته.
ثاني عشر:
1) الموقف الجمالي تعاطف وتقدير (وجدان قيمة) بينما الموقف الحكمي (النقدي) موقف صارم يعتمد المنطق والعقل؛ فالحكم بما هو جيد لا يكتفي بوصف استجاباتنا المباشرة، إنما هو ناشئ عن التفكير العميق في العمل وتحليله. مثل هذا التحليل قد يكشف عن عيوب في العمل لم نرها أثناء “ميلنا” التلقائي إلى العمل.
2) اذا كان التذوق هو المقدرة على الاستمتاع بالجمال فان الذوق المصقول بالممارسة والدرس واطالة النظر هو الملكة أو القوة التي تمكننا من الحكم على الأشياء. والحقيقة اننا في اعتمادنا على الذوق بهذا الفهم فسوف لا يمكن اعتبار ثبات الحكم الجمالي واقترابه من الحق، لأنه ليس هناك بداهة جمالية كما هو الحال في إدراكنا للحقيقة، فالحكم الجمالي يعتمد على اهواء الأفراد وذكرياتهم وتاريخهم الشخصي، بمعنى ان الحكم نسبي وليس موضوعياً، وان الحكم سيختص بالسطح الحسي المتمثل بشرط النوع او الفن (الصيغة والتعريف) وبذلك سيكون الحكم بعدياً معتمداً منهجاً وصفياً. فالذوق بوصفه قدرة على التقدير والحكم لا يمكن ان يتعدى مجاله الحكم في مجال شرط النوع (الصيغة والتعريف)، حيث تعد الحواس هي المحك الأول في التعامل مع هذا الشرط لأنها صفات محسوسة (حسية) يعتمد العقل في الحكم عليها على ما يستلمه من إشارات حسية. أما شرط الجمال فلابد من توفر مثال جمالي من جهة القيمة والمفهوم، يتقيد به المتذوق مسبقاً في إطلاق حكمه الجمالي متحدداً بمدى توافق نظام القيم في الشيء مع ما لديه من مثالية للجمال، ومن ثم سيرجع مناط صدق الحكم إلى أفكار قبلية (معيارية) يتوجب أن تكون مبرهناً عليها من ضمن نظام فلسفي متكامل قد أُثْبِتَتْ مصداقيته في تفسير الكون والحياة والنفس – أي ضرورة الجمع بين المنهجين في الحكم الجمالي (المنهج القَبْلي المعياري والمنهج البَعْدي الوصفي).
3) ان الفكرة هي أساس العلم وليس الخصائص الجزئية ولا الأشياء أو الظواهر، فيجب النظر إلى الجمال بالذات وليس إلى الموضوعات الجزئية – وليس المقاييس التي وضعها الفلاسفة للجمال إلا تذبذباً وتداخلاً بين شرطي النوع والقيمة، فكانت تميل أحياناً إلى شرط القيمة من جهة روحانيتها واعتمادها على العقل والإدراك الباطن والتركيز على القيم والفضائل، أو تميل إلى الحسية والصفات والأعراض التي تظهر للحس ويدركها البشر ظاهرياً وهو كالاختلاف في إدراك الجمال من جهة إدراكه روحياً أم عن طريق الحواس، والأساس ان العنصرين هما المحددان للقيمة سواء من ناحية شرط النوع أم شرط الجمال، ويجب اعتمادهما كليهما بشرط اختصاص كل واحد منهما بمجاله ولا يتعدى إلى غيره لأن الفرق بينهما فرق في النوع وليس في الدرجة، ان الجمال من جهة كونه اكتمال الوظيفة فان قيمته تتمثل في تحقيقه لكمالات الشيء الجميل وهذا في ذاته يعد القمة في الخيرية. إن الإنكار الموجه لما يعبر عنه العمل الفني لا يعني إلا الاقتصار على النظرة الاستقلالية إلى العمل واعتماد شرط الفن مقياساً وحيداً للحكم، وهذا مخالف لواقع الفن والعمل الفني بوصفه تجربة جمالية تمس المتلقي بالصميم وتتفاعل مع مختلف مكوناته النفسية.
4) ان اعتماد مقياس القيمة كشرط أساسي للحكم الجمالي لا يكفي لتحققه أن يكون العمل الفني حاوياً لقيمة ما مهما كان نوعها واتجاهها ووضعها بل ان الحكم على ما في العمل الفني من قيم هو ذاته “الحكم على كل عمل آخر وكل شعور، الحكم المستمد من الناموس، هل تؤدي الدور الذي يتفق مع فطرة الكون؟ أم تنحرف عن الطريق” فمناط الحكم ومقياسه أن يكون الشيء على ما يجب له من كمالاته من جهة كونه حقاً ينزع إلى الخير من خلال التزامه تمام وظيفته المحددة على وفق مفهومه الحق.
ثالث عشر:
1) ينطوي الفن – بوصفه تعريفاً جمالياً للتجربة لغرض الوصول إلى الحقيقة بقدر الطاقة البشرية – على عنصرين أو شرطين أحدهما وسيلة والأخر غاية؛ هما: أ) شرط الفن أو شرط التعريف(التخاطب). ب)شرط الجمال أو (القيمة) التي تتمثل فيها الحقيقـة.
2) يدرك شرط الفن ( وهو شرط الإيصال أو التخاطب أو شرط تعريف التجربة فنياً) من خلال النظر الى العمل الفني نظرة استقلالية بمعزل عن القيمة التي يمثلها. ويمثل هذا الشرط السمات التي تُؤهل العمل للإندماج ضمن صنف الأعمال الفنية ويتألف من السمات الحسيةالتي تتحدد ضمن شروط العمل الفني نفسه.
اما شرط القيمة فيتعلق بتحديد عنصر الجمال بوصفه تجلية للحقيقة وهي الغاية من أعمال وسيلة الفن في تعريف التجربة.ان الغاية الواجب تحقيقها من نشاط ما هي الخير، اما الجمال فهو النشاط الذي يحقق الغاية. فالقيمة في العمل الفني تتمثل في التجربة بوصفها نشاطاً ديناميكياً مندرجاً في نطاق إشكالية كونية تتحـدد على وفقها مكانة ذلك النشاط ضمن القانون الكوني العام وان كانت هذه التجربة ستؤدي إلى الخيـر أم لا؛ فالجمال يتمثل في هذا النزوع إلى الخير.
3) آلينا تقسيم شرط الفن “النوع” أي ما يصبح به العمل فناً، إلى شرطين، بتحققهما يتحقق الكمال والتمام في العمل الفني من جهة التقنية الفنية “أساليب تعريف التجربة”. هذان الشرطان هما شرط الصيغة، وشرط التعريف. الأول مجالـه ما موجود من عناصر على السطح الحسي للعمل والعلاقات القائمة بن تلك العناصر في إطار السطح، وقد ابتنى على النظرة الآلية إلى عناصر السطح الحسي في علاقاتها مع بعضها…. أما الثاني “شرط التعريف” فيتحدد في العلاقة بين الظاهر والباطن من عناصر العمل الفني من جهة هذه الحركة الديالكتيكية بين عناصر السطح الحسي وعناصر ما تحت السطح. . فعندما ننظر إلى شرط الصيغة نظرة آلية من خلال اندراجه في السياق العام للعمل الفني وتفاعله مع عناصر ما تحت السطح الحسي، وتمثل هذه العلاقة الديالكتيكية بين عناصر العمل الظاهـرة “المحسوسة” والباطنة “المعقولة” يتولد منها شرط التعريف. والأصل في هذا الشرط أداء العمل لوظيفته الكلية في تعريف التجربة المنسجمة مع وظيفة النوع الفني.
4)غاية الفنان من منهجه الفني الذي يلتزمه لإنجاز العمل الفني هي تنظيم العناصر التي تتألف منها حركته. فان هذه الحركة هي الكفيلة بأن تخلع عليه طابعاً زمنيا يجعل منه موجوداً حياً تشيع فيه الروح. وجزء من العملية الإبداعية، بوصفها تعريفاً جمالياً للتجربة، يتعلق بهذا العامل التقني من عاملي الإبداع “الإدراك والتعبير”.فثمة أساليب منوعة(تم التطرق لها في ثنايا فصل الجمال في الفن) من المفترض بالفنان انه قد اختبرها وتبرهنت جدواها لديه من حيث قدرتها على توحيد تفاصيل تجربته أو تجميع شتات موضوعه من جهة تعدد الصور والحركات والأشكال في وحدة تلفها جميعا لتحقيق خاصية الوحدة في التنوع روح العالم الجمالي،وليتمكن بوساطتها من أن يبتسر من “المكاني” “الزماني” ومن “الساكن” “الحركي”.
رابع عشر:
1) الجمال الحقيقي هو قيام الشيء بتمام وظيفته من منطلق موافقته لمفهومه الحقيقي، وهو صفة ديناميكية متطورة قابلة للتغير والتحول، وتتطلب، لتوليدها أو إبقائها ثابتة، عملية صعبة ترتكز على وعي وإرادة صلبة للبقاء في صراط الجمال وعدم الاستسلام للإغراءات سواء من ناحية الترهيب أو الترغيب للإنزواء عن نهج الحق والخير إلى جادة الباطل والقبح والشر. ولكون الجمال سمة ديناميكية يدركها العقل الواعي بوصفها نتاج إشكالية متشعبة “صفة علائقية” كان لابد أن يتحدد بشرط القيمة. فالقيمة المتوخاة هي التي تمثل مفهوم الجمال من حيث تحققه أولا، ومن حيث درجته ثانياً. فاتقان فنون القتال من قبل أحد المبارزين لا يعني امتلاك ذلك المبارز لسمة الجمال من جهة كونه مبارزاً، وإنما تتحقق قيمة الجمال بحسب نوع السياق الذي ينتمي إليه المبارز وبقدر التوافق الذي يحققه مع الناموس الكوني العام.
2) يخضع شرط الفن “النوع” في تحديده، لشروط المنهج الوصفي؛ لكونه متعلقاً بالصفات والتقنيات الثابتة التي من الممكن إجادتها من قبل الفنانين كسمات مستنبطة من الأعمال الفنية التي أبدعتها العبقرية البشرية على مدى التاريخ، والتي يتوجب تحققها، بشكل أو بـآخر، في كل عمل فني مهما كان نوعه ومهما كانت بغيته. أما شرط الجمال “القيمة” الذي يحكم من خلاله علـى العمل فهو مفهوم معياري يتمثل في اندراج الشيء في مكانه الملائم وقيامه بتمام وظيفته المطابقة لمفهومه الحق؛ أي من جهة تناغم العمل مع قوانين الحياة والطبيعة والناموس الكوني، ومقدار الجهد الذي يقدمه للارتقاء بمسيرة الإنسان والبشرية جمعاء في مدارج الكمال.
3) إن طبيعة العمل الفني توجب عرض الفكرة بصيغة محسوسة وفق شروط الفن وتقنياته؛ ففي مجال الفن لا بد أن تتجلى الحقيقة عن طريق الوسيط الحسي. فبحسب طبيعة الفن، فإنَّ الفنان – من أجـل التعبير عن إحساساته وماهيتها – يختار موضوعاً ما ثم يوظفه ليظهر من خلاله تلك الإحساسات والمفاهيم والمعاني إلى الوجود. ومن البديهي أن يُحوَّر ذلك الموضوع لخدمة هدف الفنان. ومن هذا الفهم يمكن القول أن الفن محاكاة الروح للهالة الشعورية التي يستبطنها الفنان في قرارة نفسه الناشئة عن اختباره لتجربة ما يتم فيها التوسل بموضوع خارجي كوسيط لتجسيد تلك الحالة الشعورية وإظهارها من الخفاء إلى العلن.
إن هذا التعبير عن الإحساسات والميول والمهايا والحقائق عن طريق الوسيط الحسي يعني أن تلك الأمور المعنوية ستُجلى من خلال هذه الأعراض الحسية لتكون سمات يستدل بها العقل “المتلقي” على الماهية والحقيقة التي يدعو لها العمل. إن الجمال هو تجلي نور الحقيقة في نزوعها إلى الخير؛ وفي هذا تأكيد على إن الجمال الفني، في طبيعته، سمة معنوية وليس مادية سواء في حقيقته أم في طريقة إدراكه. وما المحاكاة إلا وسيلة لإظهار الصفات الروحية والمعنوية للأشياء. من هنا كان اهتمام “سقراط” بالجوانب التعبيرية للفنون خصوصا الرسم والنحت؛ فإلى جانب دعوته الفنانين لمراعاة النسب الفنية للصورة وتحقيق جماليتها، كان يحثهم لإظهار الجمال الخلقي من خلال تلمس السمات والانفعالات الجسدية المعبرة عن أطوار النفس وتجليات الروح كما تظهر بشكل أكثر جلاء على الوجه والعينين كونها تعبيرات إنسانية توحي بالفضيلة والأحاسيس الطاهرة.