أوستن – تكساس
قرأت قبل أكثر من ثلاث سنوات مقالة للكاتب عكاب سالم الطاهر ، نشرتها جريدة الزمان ، سالكة إياها و مصنفة لها ، على كونها خاطرة بين المسافات ، كما يغري بذلك فحواها و محتواها ، و لا يعدوان ثناءه الكلي و انبهاره المتناهي بالنتاجات الادبية عموماً ، مما ينسجه و يكتبه صنوه المغترب ببرلين نعيم عبد مهلهل ، و لفتني حينها استدلاله فيها بشاهد شعري ينسب و يعزى لأحد خلفاء دولة العرب في الأندلس قديماً ، ألا وهو المستعين بن الحكم الذي شهد حكمه استفحال الفتنة و دبيب الخلافات بين رجالاتها و أكابر المتزعمين فيها ، مما يستهوي سائر المنتوين و الساعين جهد إمكانهم لادالة الحكم الاسلامي العربي هناك .
و ليسمح لي القارئ بسَوْق مجموع ما عثرت به او عليه من هذا الشعر البديع ، يربى على البيتين أو الثلاثة مما اقتصر عليها واكتفى بها الاستاذ عكاب سالم الطاهر للبرهنة على ما يلم به الاستغراق الفني من نتاج و حصيلة ، هما الغاية في الأسر و الطلاوة من ناحية الشكل ، فأما من ناحية المضمون او المعنى ، فناهيك بما يترتب على مؤالفة الشاعر لجملة عناصر وأسباب تنحصر في الصدق و معاناة تجربة شعورية حقيقية ، لا اثر يشوبها من الاعتمال و التكلف ، فيتسامى في ابداعه ، و تتوق نفسه لأن تعرو نفوس بقية الملأ ، عين مشاعره و أحاسيسه ، وتمني بنفس نزوعه للاستمتاع بمباهج الدنيا و جنيّ ما تزخر به الحياة من لهى و أوطار :
عجـــباً يهاب الليث حد ســـناني وأهاب لحظ فواتر الأجفـــــــان
وأقارع الأهوال لا متـــــــهيباً منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمـــى زهر الوجوه نواعم الأبـــــــدان
ككواكب الظلماء لحـنَ لنـاظري من فـوق أغصـانِ على كثبـانِ
هذي الهلال و تلك بنت المشتري حسناً وهذي اختُ غصن البان
حاكمتُ فيهن السـلو الى الصبا فقضى بسلطانٍ على سلطانِ
فأبحــنَّ من قلبي الحمى وثنينني في عـزِّ ملكي كالأسيـر العاني
لا تعذلوا مـــــلكاً تذلل لــلهوى ذلّ الهوى عزّ ومـــــــــلك ثانِ
ما ضـرّ أني عبدهـن صبــابةً وبنـو الزمان وهـنَّ من عبـداني
إن لم أطع فيهن سلطــان الهوى كلفا بهن فلست من مــــروان
وسليمان المستعين خلص له الزمام ، و آلت اليه المقادة سنة أربعمائة للهجرة ، و تولى عنها و لما ينته عقدها الاول ليتلوه في اعتلائها ثلاثة من ( أخلافه ) لم يوفقوا في إحكام سيطرتهم و هيمنتهم على شؤونها و بئدوا نزوات الطامعين و الراغبين فيها من الامراء الامويين الذين انشغلو بمنافساتهم و صراعاتهم حولها ، بينا عدوهم المتربص بهم و المتمثل في البربر و الامراء المسيحيين المنسحبين بقومهم الى شمالي البلاد و الذين هم ورثة السلف الاول لمعاشر من سكنتها جنفتْ عن التكيف هي و المبادئ الجديدة التي جاء بها الوافدون اليهم من ديارات نائية قبل سنين و تضرَّت عداوتهم لها دونما اختبار و ميلٍ لتفهم جدواها في انعاش واقعهم و الانتقال بحياتهم و أحوال صارفة لهم عن الزهد في أطايب الدنيا الى نقيضها مما يلزم الكائن الانساني بالوقوف عند جانبٍ وحدٍ في التسوية بين هوى نفسه و ما يتوجب عليه من زكانتها و ترصنها ، قلتُ ان عدوهم هذا بنوعيه المتباينين في مقصدهما و غايتهما و اللذين يتجاوزان بهما الاطاحة بالحكم العربي الاسلامي ، الى استرداد جميع مظاهر الحياة التي سمعوا بها و عنها و تناقلها الناس من جيلٍ لجيل و بتعاقب السنين ، صُورَتْ لهم أنها خلوٌ مما يستلبهم هناءتهم و صفوهم شأن بني الانسان في أي زمن ، من الحنين و الحدب على ماضيهم ، اذ يلفونه أفضل من حاضرهم ، وذلك المطلبُ لا يُبتغي و يُنال الا بأجتثاث من يحسبونهم اغرابا و طارئين في وجودهم من العرب بلا ادنى اكتراث و حسبان أهمية و قيمة لما بشّروهم به من المبادئ و المعتقدات الكافلة لهم إن لزموها ، أن يستقيم سلوكهم و تصرفهم ، العدو هذا تلمس جيدا ما تمر به دولة العرب من انكسارٍ و ضعفٍ و عجزٍ عن مدافعة الاخطار و وناءٍ في التجهز لتخطي ما تواجهه من صعاب .
وقد عثرتُ على الأبيات المذكورة في كتاب معنون ( الموجز في تاريخ الادب الاندلسي و المغربي – الطبعة الثالثة ) لمؤلفته الفاضلة الدكتورة هناء وحيد الدويرري ، الاستاذة بكلية الاداب من جامعة دمشق .
ولم يزد أي كتاب عليها غير استرساله في تحليلها و تجلية ما يزينها و تكتسي به عناصر الفن و التأدية الرشيقة , و الاِحكام الغالب عليه قدر مناسب من الطلاوة و الاسر و العذوبة الباعثة على البهر و الاعجاب بما امكن للالفاظ السهلة البسيطة و غير المحوجة لمعجم ما لتفسيرها و توضيحها ، أن تبلغه و توفي عليه من استهواء القارئ و حمله على معاودة قراءتها ثانية و ثالثة ، إذ يستقري حينها مثل استخفاف الملك العاشق بما حُبيَ به من عز و سلطان ، لكن لم يوقياه أن يقع في إسار الذل ، و حسبه تعللا او مخادعة لنفسه استمساكه بذارئع شتى أو ايهامه لها بان ذل الهوى هو العز في حقيقته و الملك الثاني ايضا ، وهذا النحو من استنباط المعاني أو استخراجها بما يشبه استيلادها من التراكيب اللغوية ، إذ هو عبدهن صبابةً و هن الناعسات الطرف الفاترات الجفون و سائر الناس معهن ، لا يعدون ان يكونوا من عبدانه ، قلتُ عدا هذه التوريط في ما يقرب من الغموض و العمه لاستكناه المقاصد و المرامي ، تملي الكاتبة هناء وحيد الدويرري ، اشاراتها أو اشادتها بالاحوال الثقافية المزدهرة في عصر الخليفة الاموي سليمان المستعين ، و نشاط حركة التأليف ، و رواية السير و الاخبار مع قلة في الشعراء البارعين تعوضنا عن كثرتهم بتألق أبن حزم و ابن شهيد ، و كلاهما شاعر و كاتب ابتدع صنيعاً فنياً لا عهد لأي أحد من الشعراء المشغوفين بالتنوير والثقافة به ، بعدما أسهبت فيه و شرحته في فصول لاحقة من كتابها ذاك .
استذكرت الابيات الشعرية السابقة ، و ما تستند اليها به من استيفائها غرض التصوير الفني و الدال على فقه و دراية و ذوق في انتقاء الكلمات و المفردات راجعا بنفسي الى ايام سلفت شاعت في اثنائها مودة ” المني جوب ” وتعني ايثار بنات حواء لزي ما من الازياء يقضي بكشف سيقانهن (وهو الذي يكون ما فوق الركبة بقليل او كثير ) و يلحن به – هكذا – في الاسواق و الشوارع غير مستحييات من أحد ، عين الوقت الذي نزعت فيه شبيبتنا لتقليد ماظهر في الافلام السينمائية من تقليعة محبذة لتطويل الممثلين ما اصطلحنا عليه ( الزلوف ) ، ولم تنِ الاجهزة في وزارة الداخلية يومها من اتخاذ ما يمكن من إجراءات الردع و الحد مما حسبته استهتارا و زيغا عن الأعراف و القوانين فعجلوا عليهن برش الاصباغ على تلك المواضع البينة ، إذ الاحجى في تصورهم و منطقهم أن تُستر وألا تكون مكشوفة ، مما حدا بالشاعر الجواهري لأن يعتب من خلال قصيدة شعرية على الفريق صالح مهدي عماش الذي كان على رأس الوزارة وهو على قد حاله شاعر ايضا متى ما سنح له الوقت ، ويؤاخذه على قسوته بحق الغريرات المواكبات لسُنة التطور ، و حاججه صنوه من خلال قصيدة شعرية كذلك ، معارضة للاولى و بنفس عروضها و قافيتها ، باسطا فيها ما يشفع لتدابيره و وسائله من ضرورات و مسوغات ، والاعجب أن يسامت العسكري الشاعر صديقه العاتب ، في تجويده و صوغه البارع و صدق مدعاه في تلك القصيدة الرادة و المنتقدة تصرفه ، و الامر لا يعدو ان يكون لونا من المداعبة و المزاح ، بين الطرفين ، و لعل الجواهري يبغي من باب خفي وقتها توحيد الصفوف و تلطيف الاجواء و تنقية القلوب مما رسب فيها من الاضغان و الحقود . وقد تلاها بعد سنين شارحا مناسبتها و مدعاتها على اسماع ادباء الخليج المحتشدين في دولة الامارات ، فأنسوا بها و أذكت في وجداناتهم و ضمائرهم ما كمن فيها لذعات و وخزات .
واليوم استذكرت حكاية ( الميني جوب ) وما استتبعته من لغط و دهشة و سرف في الاختلاق و القول غير الحقيقي ، أرى انها تصطف بجانب المحافظة و الاحتراس ، بل الرجعية و التخلف اذا جاز التعبير ، و اذا لم يكل بياني في العبارة عنه من مرادٍ و معنى ، و اذا حق لي استعارة مفردات الكتبة السياسيين و إقحامها في المساجلة بشأن موضوع اجتماعي صرف ، نُقرنه الى مسالك بعض الفاتنات الامريكانيات اللواتي ابصرتهن جائلات هنا في شوارع مدينة أوستن و اسواقها و مصارفها و دوائرها الحكومية – وهنَّ زوجات او مؤهلات للزواج – يكتفين بلبس ثوب او تنورة مع سروال قصير بحيث تظهر معه الافخاذ البضة ، دون أن تسترعي فضول احد او تستلفت نظره فتصدر عنه التعليقات البذيئة و التحرشات السمجة ، فعندهم ان ذاك امر ينافي القانون ، و يجافيه على طول الخط ، وكذا لكل مجتمع و دولة نواميس مألوفة و أصول تلزم سواد الناس بالاذعان لها ما دامت تعصمهم او تجانب بهم عن الاضرار بالاخرين ، و ما يهم ان تستبيك فواتر الاجفان ، وانت القادم من بلاد الصحراء خط على لغة الشاعر أدونيس وصنوه يوسف الخال ، وقد يكون لما علمني به ولقنني استاذي صالح الشماع سنة 1950 ، من مفردات و مصطلحات معروفة في علم النفس من قبيل العقل الباطن و التكيف و الايحاء و الاشباع ، بعض الاثر في صرف الذكران من النوع الثاني عن التحديق و انعام النظر و ليس تعففاً او زهادة ما يكفائهم عن ذلك و قد يخيل للوافدين عليهم من محيط شرقي ، نفر الخيرون فيه مما يسوده من الأضداد و النقائض في السلوك و العادة ومن مثله ما شهدته زمن الفتوة من اطالة نظر الحاج العائد لتوه من بيت الله الحرام صوب المرأة التي تمشي في الطريق أمامه عسى ان يرتفع ذيل عباءتها بفعل تيار الهواء ، يمتع بصره برؤية بشرتها ، قلت يُخيل لأولاء ان في ذلك مبالغة في الاطلاق و الاباحة . بما حاد به ابن حزم الاندلسي عن احتشامه بتصويره فنون الجمالات و المفاتن و هو الفقيه الظاهري ، لكن لوشئنا معارضة سلوكياته بتصرفات انداده و مُـشاكليه في تأدية مراسم الطقوس و العبادة نلفي البون شاسعا بين تعففه و زكاء نفسه ، و بين ولوغهم في الفواحش و المخزيات الخافية ، وقد اعود بك الى شطحات المتصوفة من أن السكر الحقيقي يتمثل في شرب الدماء و ليس في شرب الخمور شريطة ان تحجم عن اغتياب احد و القدح بذمته و تكدير عيشه و ان لا تتشامخ على شركائك في المواطنة بدعوى ان الله حباك فوق طاقتك ، و هو العارف وحده قبل سائر خلقة ، بالطرائق المشروعة و غير المشروعة مما توسلت بها و جنيت ما جنيت
هنا تأتلف أجناس و عناصر شتى من بني ادم فمن بينهم الصينيون و المكسيكيون و الهنود و الباكستانيون و الفيتناميون والايرانيون و العرب من العراق و سوريا و ربما غيرهم من الاقوام ذكراناً و اناثاَ ، يبدو أن صلاتهم ببلدانهم الاصلية و قد انبتت بالمرة . فهم يمارسون اعمالهم في المصارف و الدوائر الصحية بكل ثقة و اعتداد و في الغاية من حسن استقبال المراجع و التعامل معه بلطف ، و لو بأمل ان يثابوا و يترقوا و يظفروا بدرجة أحسن ، وعدا هذا فثمة رعيل جم من هاته الاعراق المتنوعة ممن يمتلكون محال تجارية ، و للعراقيين منهم مسجد و حسينية ، يحرص القوامون عليها تقديم المآكل للزائرين الملمين بها في المناسبات لكن يلامون على فتورهم في التوجيه و النصح بأن يؤثروا القصد و الاعتدال بشأن مماحكاتهم ومناوشاتهم حول التسنن و التشيع ، التي لصقت بهم منذ مغادرة الوطن ، على أن الملاحظة لا تعم الجميع ، فمنهم جمهرة مصاقبة لأحوال العصر و ملاءمة مقتضياته ، و تجاتب في تصرفاتها الهذر و السخف و الكلام الهراء و المنطق الاجوف .
وقد اطلعني المرحوم احمد شبيب في السابق على رسالة الراحل الى دار البقاء ايضا الكاتب كامل مصطفى الشيبي مرسلة اليه من ليبيا مفادها ة مجملها انه يأسى لانشغال العراقيين الباحثين عن عمل هناك بنحائزهم المذهبية ، فالداء قديم على هذا ومنتشب في القلوب ، لكن مع شيء من الاستحياء إذ جاوز الجهر به الحد المعقول و المقبول ، و اذا استأثر بالنفس نزوع للتظرف .