حامد سرمك حسن : ماهية الفن

hamed sarmak 4لغرض دراسة موضوع من الموضوعات أو شيء من الأشياء على الوجه الأكمل فإنه يتوجب دراسته من ثلاث نواح هامة هي:
1- ناحية كنهه وحقيقته.
2- ناحية وظائفه أو آثاره أو خواصه.
3- ناحية طريقة الانتفاع به أو استعماله في الحياة العامة أو الخاصة.
وبالإمكان وضع المعادلات الموضوعية أو المفاهيم المرادفة لهذه الأنحاء الثلاثة في دراستنا للفن، متمثلة في الماهية والطبيعة والضرورة.
سنتناول تحت عنوان الماهية(1) كنه الفن وحقيقته. وفي طبيعة الفن سنستوفي البحث في سمات وطبيعة العمل الفني التي تؤهله لتأدية وظيفته في الحياة على أفضل وجه. أما تحت عنوان الضرورة فسنقوم بدراسة آثار الفن ووظائفه المتحددة بماهيته وطبيعته.

أولا:معنى الفن:
اتجهت الدراسات الجادة إلى عد الفن أحد الحلقات المتممة للفلسفة (2) . حيث درج الفلاسفة على الخوض في فلسفة الجمال أو الفن بوصفها مفصلاً مهماً من مفاصل فلسفاتهم ومتأصلة في سياق البناء المعرفي العام الذي يلتزمونه لتفسير مظاهر الكون والحياة والنفس.
ونجد هذا الديدن منذ البدايات المبكرة للفلسفة، كما نلاحظه عند “أرسطو”؛ فبعد أن قسم الفلسفة إلى ثلاثة أقسام وهي الفلسفة النظرية والعملية والابتكارية نراه يتكلم عن الفن بوصفه أحد أركان الفلسفة الابتكارية. وعلى مرِّ العصور حاول العديد من المختصين في الدراسات الفنية من فلاسفة ونقاد وفنانين أن يجيبوا عن سؤال مفاده: ما هو الفن ؟.بيد أن الإجابات لم تكن محددة ووافية.
يلاحظ أن معظم مفاهيم الفن المطروحة في ساحة البحث تؤكد بشكل أساسي المدلول الحضاري لكلمة “الفن” بوصفه نشاطاً يهدف إلى غايات عقلية ثقافية، دون أن يكون له أدنى طابع علمي أو مهني. ينسب معجم “لالاند” الفلسفي إلى كلمة “فن” معنيين: معنى عاماً يشير إلى مجموع العمليات التي تستخدم عادة للوصول إلى نتيجة معينة، ومعنى جمالياً “أو استطيقياً” يجعل من الفن كل إنتاج للجمال يتحقق في أعمال يقوم بها موجود واع أو متصف بالشعور. وهو قريب إلى ما يذهب إليه “سانتيانا” حين يفرق بين معنيين مختلفين للفن: معنى عام؛ يجعل من الفن مجموع العمليات الشعورية الفعالة التي يؤثر الإنسان عن طريقها على بيئته الطبيعية، لكي يشكلها ويصوغها ويكيفها، ومعنى خاص؛ يجعل من الفن مجرد استجابة للحاجة إلى المتعة أو اللذة، لذة الحواس ومتعة الخيال( 3).
إن تضارب الآراء بخصوص الفن والجمال دفع بـ “ول. ديورانت”( 4) الى التساؤل إن كان هناك ما يساعدنا في الإجابة على السؤال المحيّر: ما هو الجمال(5) [أو الفن] ؟ فيؤكد أنَّ في الجمال آراء بقدر ما في العالم من رؤوس، وكل محب للجمال يعتبر نفسه حجة في هذا الموضوع لا مرد لرأيه.
1= رأي”هربرت ريد”:
يؤكد الناقد الإنكليزي “هربرت ريد” وهو ممن يمتلك باعا طويلا ومشهورا في فلسفة الفن، بدءاً، إن الفن هو أحد الأشياء كالهواء أو التربة اللذين يحيطان بنا من كل جانب، ولكنهما نادراً ما يستوقفانا لتأملهما( 6)؛ ويحاول هذا الباحث تعليل الاختلافات الصميمية في مفاهيم الفن وعدم كفايتها لأن سؤالنا: ما هو الفن، في حقيقته سؤال عن صفة أو خاصية العمل الفني التي تروق لحواسنا لأن ثمة عنصراً جمالياً في ذات الإدراك، وبسبب من هذه الخاصية الحسية للإدراك الجمالي يقرر امتناع وجود إجابة بسيطة عن سؤالنا ما الفن، لأن الحواس عامة جداً، وإنها مفتوحة لجميع أنواع الانطباعات، وإنها متشابكة جداً الواحدة منها بالأخرى، وأيضاً حيث أنَّ العقل كالتليفون الآلي الذي يتبادل الإحساسات التي تدق بابه كل لحظة مطالبة بأنْ تترابط في كل اتجاه. ولكن الواقع لا يجعلنا نعتقد باستحالة الوصول إلى تعريف مناسب للفن يقترب قدر الإمكان إلى حقيقة هذا الشيء، لذلك يعود “ريد” لوضع الخطوة الأولى على طريق تعريف الفن في دعوته إلى ضرورة التمييز بين معنيين للفن(7)، الأول كعامل اقتصادي، وهو ما نلمسه في الصناعات المختلفة التي يتلخص جهدها في إنتاج أشياء تختص بتلبية حاجات حيّة وعملية، وثانياً الفن بمعنى التعبير عن مثاليات وتطلعات روحية واعتقادات إيمانية أسطورية( )، وهو المعنى المقصود في دراستنا هذه.
إن مفهوم الفن من أكثر المفاهيم مراوغة في تاريخ الفكر الإنساني( 8)؛ وعلى الرغم من هذه الخاصية يبقي “هربرت ريد” الباب مفتوحاً أمام الفكر البشري لإدخال تحسينات على تعريف الفن، ويعلل صعوبة هذا المضمار بأن الفن قد عولج دائماً كمفهوم ميتافيزيقي، بينما هو ظاهرة عضوية وقابلة للقياس بصفة أساسية، وشأن الفن شأن التنفس من حيث أن له عناصر إيقاعية، وشأنه شأن الكلام من حيث أن له عناصر تعبيرية.
2= تعريف “زكريا إبراهيم”:
بالرجوع إلى الأصل الاشتقاقي لكلمة “فن” (Techne باليونانية و Ars باللاتينية) يتدرج الدكتور “زكريا إبراهيم”( 9) في استدلالاته للوصول إلى تبيان ماهية الفن والاقتراب من تعريفه قدر الإمكان، فيجد أنَّ كلمة “فن” لم تكن تعنـي سوى “النشاط الصناعي النافع بصفة عامة”، فلم يكن الفن عند اليونانيين، مثلاً، قاصراً على الشعر والنحت والموسيقى والغناء وغيرها من الفنون الجميلة، بل كان مفهوما شاملا لكثير من الصناعات المهنية كالنجارة والحدادة والبناء وغيرها من مظاهر الإنتاج الصناعي. ولكن أرسطو الذي اطّلعنا على تقسيمه للمعارف البشرية، كـان على دراية تامة بالفروق الجوهرية بين الفن والمعارف الأخرى ولم يكن لديه أدنى خلط بينهما، حيث يـرى أن غاية الفن تتمثل بالضرورة في شيء يوجد خارج الفاعل، وليس على الفاعل سوى أن يحقق إرادته فيه، في حين أن غاية العلم العملي هي في الإرادة نفسها، وفي العقل الباطن للفاعل نفسه؛ ويبدو أن العرب، أيضا،ً قد فهموا “الفن” بهذا المعنى بدليل أنهم قد فرقوا بين الطبيعة والصناعة؛ فالصناعة تستملي من النفس والعقل، وتملي على الطبيعة. وكان العرب يستعملون كلمة الصناعة للإشارة إلى الفن عموماً، كما يظهر من تسمية أبي هلال العسكري لمصنفه في الكتابة والشعر باسم كتاب الصناعتين.
عموماً هنالك معنيان للفن ، من حيث المبدأ، الأول معنى عام والثاني معنى خاص. أما المعنى العام فهو حين يذكر الفن إزاء العلم، فيشمل الفنون البدائية والراقية معاً، ويتضمن الفنون الجميلة وغير الجميلة. فالفن في هذا المعنى يشمل عملاً أو مجموعة مـن الأعمال الإنسانية المنظمة التي ترمي إلى غرض معين. فهنا دلالة على التنظيم ووجود الغرض فضلاً عن ما يدل عليه من حذق ومهارة، فيصح أن تندرج ضمن هذا المعنى للفن جميع الحرف والصناعات البدائية وغير البدائية. فمما يعد فناً في هذا المعنى كلاً من الزراعة والتجارة والنجارة والملاحة، وكذلك فإن الرسم والتصوير والنحت والموسيقى وفن العمارة والأدب كلها فنون بهذا المعنى العام أيضاً.
أما المعنى الثاني للفن( الخاص)، إذا أريد به ما هو جميل راق فيكون معناه عملاً منظماً يرمي إلى ابتكار ما هو جميل من الصور والأصوات والحركات والأقوال والأفكار؛ أي ابتكار أشياء توصف بأنها جميلة، لما تحدث في النفس من لذة وسرور. نلاحظ أن الفن هنا مقصور على الأعمال الإنسانية المنظمة الراقية، ويدخل فيها المبتكرات والصور المركبة من الألوان، والتماثيل الممثلة للكائنات، والمباني الضخمة التي يسيغها الذوق السليم، والأصوات والنغمات الموسيقية المطربة التي ترهف السمع، وتؤثر في الوجدان، والحركات التوفيقية التي تسمى بالرقص، والعبارات الطلية التي تحمل معاني راقية تطمئن إليها النفس، والتمثيل المسرحي الذي يرمي إلى تصوير الحوادث والوقائع تصويراً عملياً يدعو إلى الاستحسان أو الاستقباح.
3=رأي “تولستوي”:
على الرغم من أن المفكرين قد اعتادوا، في تعريفهم للفن، إدخال مفهوم الجمال محورا أساسيا تدور عليه تعريفاتهم. غير أننا نجد الروائي والمفكر الروسي الشهير “تولستوي” ، ولأول مرة، يقوم بوضع تعريف للفن من دون الإتكاء على مفهوم الجمال أو مفهوم “اللذة”، لان النهم هو التبصر بالوظيفة الحقة للفن في الحياة اما محاولة إدراك كنه الفن اعتمادا على ما ينتجه من لذة فهو أشبه باعتماد اللذة في تعريف الطعام الذي ينتجها. ويخلص “تولستوي” إلى أن الفن وسيلة من وسائل الاتصال الإنساني تمكن الإنسان من نقل أحاسيسه إلى الآخرين على العكس من الكلام الذي يكتفي بنقل الأفكار والآراء.
استدراك “بليخانوف”:
يستدرك”بليخانوف” على تعريف تولستوي للفن، بوصفه، كما يرى تولستوي، تعبيراً عن عواطف الإنسان في حين تعبر الكلمات عن آرائه. يقول “بليخانوف” إن ((هذا غير صحيح لأن الكلمات لا تشرح الآراء وحدها ولكنها تشرح المشاعر كذلك، بدليل أنَّ الشعر يتكون من كلمات))(10 ).إن التبصر بتعريف “تولستوي” وفهمه بالشكل الصحيح يرينا أنه قد أصاب كبد الحقيقة ذاتها التي يبحث عنها “بليخانوف” ولكن من منطلق الفهم الصحيح لوظيفة الفـن التي تحددها طبيعته، و”تولستوي” بوصفه فناناً مبدعاً هو أعلم برسالة الفن ومنهجه في إيصال المعرفة والآراء إلى المتلقي. صحيح أن الكلمات تشرح المشاعر، كما يقول “بليخانوف”، ولكن منهج الفن يختلف في طريقته في شرح تلك المشاعر، لأنه ينقلها عن طريق الإحساس والعاطفة حية إلى القلب وليس بطريقة المفهوم البارد بل التجربة الحارة المعاشة معتمدة الصورة والإيحاء بالدرجة الأساس، متخطيا التقريرية والمباشرة التي تعتمد المنطق وتسلسل الأفكار، كما في الكلام المعتاد. فاللفظ المجرد، بحسب “تولستوي”، هو أداة اتصال فكري هـام بين بني البشر، ولكن الفن ليس فكراً فقط، بل الفكر جزء من الفن، وليس منهج الفن هو منهج الفكر في إيصاله لمعارفه، بل أنه ينبع من الوجدان الذي يقوم بناؤه على أعمدة العقل والقلب، وغايته الوصول إلى وجدان المتلقي بعد أن يكون قد وصل إلى عقله قبل ذلك، لأن الوجدان لا يتأثر إلا بعد مرحلة تعقل الشيء عقب إدراكه حسياً، وإجازته من قبل الإنسان فيتم التأثر، فلا تناقض بين إيصال الآراء وشرحها وكون الفن أداة اتصال عاطفي هـام بين الناس أجمعين، حيث تنبع من الشعور والإرادة، مستعينة بالعلامات الخارجية، لذلك نجد “تولستوي” يعرف الفن بأنـه: ((ضرب من النشاط البشري الذي يتمثل في قيام الإنسان بتوصيل عواطفه إلى الآخرين، بطريقة شعورية إرادية، مستعملاً في ذلك بعض العلامات الخارجية))( 11).

4=معنى الفن عند “يوسف أسعد”:
يدرج يوسف أسعد ميخائيل في كتابـه ((سيكولوجية الإبداع)) عدة معانٍ للفن هي(12 ): المعنى الانتقائي، المعنى الانطباعي، المعنى التأثيري، المعنى الاجتماعي، المعنى الموضوعي…
أ) المعنى الانتقائي: يدور هذا المعنى للفن حول خاصية يمتاز بها الفنان تتمثل في القدرة على الانتقاء من بين الموجودات المحيطة به أو التي يتخيلها نوعيات معينة ذات صفات متباينة ويقوم بنقلها إلى المشاهد أو المستمع في صيغة أو أخرى… والمفروض في تلك الاختيارات ان تتحدد وفق أسس وجيهة يستطيع أن يلمح فيها اعتبارات أو خصائص معينة…
ب) المعنى الانطباعي: يقصد به ان الفنان يتلقى المؤثرات الجمالية من الواقع حوله، ثم يعمد إلى تخزينها في نفسه ويقيم بينها علاقات جديدة لم تكن موجودة في الواقع البيئي الذي استمدت منه.
ج) المعنى التأثيري: ان الفن بهذا المعنى عبارة عن رسالة أو خطاب يريد الفنان إيصاله إلى الآخرين، وهذه الرغبة في مخاطبة الآخرين مترسخة في دخيلة كل إنسان ولكن البشر يختلفون في مقدار الإبانة عن غاياتهم ومقاصدهم ومشاعرهم، إذن ليـس هناك شخص فنان وآخر غير فنان، بل هناك إنسان يتمتع بقدرة فنية أكثر مما يتمتع به إنسان آخر… وطبيعي أن المرء يفقد ما كان قد ولد به فطرة مخبوءة فيه لعدم استثمار ما جبل عليه، وبهذا المعنى فان الفن يكون فطرياً ومكتسباً في نفس الوقت، فهو فطري في بذوره وركائزه الأولى ومقوماته البدائية، ولكنه مكتسب من حيث الصقل والتوجيه والإجادة والإبهار. والفن بهذا المعنى، أي الرغبة في الإبانة وإيصال المشاعر والأفكار إلى الآخرين، يكون له مدى يتمتع به الفنان ويقدر عليه.
د) المعنى الاجتماعي: الفنان الحقيقي هو إنسان ثائر، ولكي يثور الفنان، فلا بد من وجود شيء يثور عليه، والشيء الذي يثور عليه الفنان هو المجتمع، فالثائر هو في الواقع عاشق محتج على عشيقته… فشدة غيرة الفنان على مجتمعه هي التي تحفزه على الثورة ضده والنهوض باحتجاج عليه…
ه) المعنى الموضوعي: الإنسان بعد أن يقف على الطبيعة الدقيقة فأنه يكتشف في الموضوعات المحيطة به بعدين أساسيين: البعد الأول- هو البعد الأفقي، والبعد الثاني – هو البعد الرأسي.
ونعني بالبعد الأفقي الأشياء كما تبدو لحواسنا، أما بالنسبة للبعد الرأسي، فأننا نقصد به مالا نقف عليه بإحدى الحواس مباشرة، بل نستعين في سبيل الوقوف عليه بالأجهزة المكبرة أو المقربة، وثمة واقع موضوعي ثالث إلى جانب هذين الجانبين “الأفقي والرأسي” هو الجانب الرمزي، فالتراث الإنساني عبارة عن رموز مكتوبة أو مرسومة تتعلق في قطاع كبير منها بالواقع الموضوعي.
5= مفهوم الفن عند “كروتشه” :
يحاول “بندتوكروتشه” تعريف الفن استناداً إلى ما يراه ممثلاً لجوهر العملية الفنية، فيقرر أن الجمال هو التكوين العقلي للصورة الذهنية، أو “لسلسلة من الصور” يبدو فيها جوهر الشيء المدرك، فالصورة الخارجية تجسيد للصورة الباطنية، والجمال في حقيقته يتمثل في الصورة الباطنية؛ فنحن نميل إلى التفكير بان الفرق بيننا وبين شكسبير هو فرق في طريقة التعبير الخارجي فقـط، وأنَّ لدينا نفس الأفكار التي طافت بذهن شكسبير ولكننا لا نجد الكلمات التي تعبر عنها. ولكن هذا وهـم باطل، فليس الفرق في قوة إخراج الصورة بل في القدرة على تكوين الصورة الباطنية التي تعبر عن الشيء.
ومن الممكن أن يسترعي انتباهنا وجود هذا التشابه الكبير بين رأي “كروتشه” عن طبيعة الفن وبين النظرية المأثورة عن “ت.س.إليوت” حول الإبداع الفني والمسماة بنظرية المعادل الموضوعي التي تعزو قدرة الفنان وأهمية الفن إلى إيجاد المعادل الموضوعي الحسي لما يتولد في دخيلة الفنان من صور ورموز عقلية مجردة، وقدرة الفنان هي في اختياره وتحقيقه للمعادل الملائم والمناسب لظروف تجربته الفنية. ولكننا نرى أن “وِلْ ديورانت” يتساءل معلقاً على رأي “كروتشه” الآنف الذكـر: ((… أما بالنسبة إلى الجمال، فلنترك الحكم للآخرين. هل صحيح أنَّ الإنسان يكون فناناً بمجرد تكوينه للصورة الذهنية ؟ وهل يكمن جوهر الفن في التصور الباطني فقط لا في الإخراج ؟ ألم يحدث لنا أبداً أن كانت لدينا أفكار ومشاعر أجمل من كلامنا ؟ كيف نعرف ما هي الصورة الباطنية التي كانت في ذهن الفنان ؟ وفيما إذا كان العمل الذي حاز على تقديرنا يحقق فكرة الفنان أو يبتعد عنها))( 13).
إن القدرة على تكوين الصورة الذهنية، هي ما يشكل اصل الفن عند “كروتشه”. فالفن يحكمه الخيال وثروته الصور الذهنية فقط. والفن لا يبوب الأشياء ولا يحكم عليها بأنها حقيقية أو خيالية، ولا يصفها أو يعرفها، بل يحس بها ويصورها ليس إلا. وهذا الرأي قريباً لما قاله “تولستوي” في تعريفه للفن الذي سبق وان اعترض عليه “بليخانوف”. فالإفهام في الفن بوصفه وسيلة للتخاطب يجري بلغة الحس والعاطفة التي تنجز بوساطة التصوير. والحكم على الأشياء في الفن يتم عن طريق تصوير الموقف منها كتجربة حية معاشة متلبسة بالمشاعر والأحاسيس الحارة.
ويطالعنا “كروتشه”( 14) بأنه قد بذل كثيراً من الجهد لغرض الوصول إلى تحديد ماهية الفن وطبيعته التي تجعل منه أداة متميزة للوصول إلى المعرفة أو توصيلها إلى الآخرين في أفضل صيغة مؤثرة. فيعلن ((إن الفن رؤيا(15) أو حدس(16))) وهي صيغة موجزة مختصرة لماهية الفن توصَّل إليها، كما يصرح، بعد جهاد عنيف. فالفنان إنما يقدم صورة أو خيالاً، والذي يتذوق الفن يدور بطرفه إلى النقطة التي دله عليها الفنان، وينظر من النافذة التي هيأها له، فإذا به يعيد تكوين هذه الصورة في نفسه.
هكذا يكون” كروتشه” قد اختصر منهج الفن في الوصول إلى المعرفة وتوصيلها بأنه “حدس”. يمكننا تلمس بعض النتائج المترتبة على هذا التعريف، فالشيء الأول الذي يقدمه هو أن هذه الإجابة، “الفن حدس”، ((تنكر أولاً أن يكون الفن واقعة مادية)) وقد سبق التأكيد على أن الفن، من المفترض، أن يكـون أكثر حقيقة من الوقائع المادية، لأنه نتاج الروح والفكر، وتتجلى فيه المعاني وماهيات الأشياء التي لا تبرز من خلال النظر السطحي لها كوقائع
مادية بالاستعانة بالحواس من دون الاعتماد على العقل والروح، وهذا ما يتميز به الفن الأصيل، الذي يعنى بالمغزى الحقيقي وبما يمكن أن يكون وليس ما هو كائن.
يقول “كروتشه”: وإذا سألتنا لم لا يمكن أن يكون الفن ظاهرة مادية، قلنا قبل كل شيء إن الظاهرات المادية ليست واقعية، في حين أن الفن الذي يقف عليه كثير من الناس حياتهم ويملؤهم فرحاً إلهياً واقعي إلى أبعد حد، ولهذا لا يمكن أن يكون ظاهرة مادية، أي شيئاً غير واقعي. ولأن الفن حدس فذلك يتطلب أن يكون عملاً حراً يتشكل وفق قوانين الحقيقة والجمال، وهذا الأمر الثاني الذي يؤكده “كروتشه” في تعريفه للفن بأنه حدس، حيث يقول: وثمّة إنكار آخر ينطوي عليه تعريفنا للفن بأنه حدس، فإذا كان الفن حدساً، وكان الحدس من باب النظر لا العمل، أي من قبيل التأمل، كان من غير الممكن أن يكون الفن فعلاً نفعياً. فالإلتزام في الفن، يتمثل في مقدار الكشف عن الحقيقة الجمالية ،وهذا الكشف يجب أن يتحقق من خلال الالتزام بشروط الشكل الجمالي.
والأمر الثالث المترتب على تعريف “كروتشه” بان الفن “حدس” هو إنكاره النظر إلى الفن على انه فعـل أخلاقي، وفي هذه المقولة نجد هناك تفريقاً بين شرط الفن وشرط الجمال، فقد تعبر الصورة عن فعل يحمد أو يذم من الناحية الأخلاقية، ولكن الصورة نفسها، من حيث هي صورة، لا يمكن أن تحمد أو تذم من الناحية الأخلاقية، بل يحكم على الصورة فنياً من ناحية توفر شروط الشكل الجمالي فيها من جهة التكنيك الفنـي. ثم أن الموضوع حين يغدو فنا لا يبقى فيه وجود للفكرة الأخلاقية المباشرة ،لأن المفاهيم الأخلاقية لا تذكر في الفن بشكل مباشر وتقريري وإنما يتم التعرف عليها ايحائياً وضمنياً من خلال الموقف العاطفي للفنان من الأشياء والمواضيع بوصفها جزءاً من التجربة الحية التي تلتمس في العمل الفني.
يقول “كروتشه” ((وإذا عرَّفنا الفن بأنه حدس فقد أنكرنا كذلك أن يكون معرفة مفهومية)) لأننا في الفن يتوجب أن يتم إدراك الأشياء عن طريق الحس والذوق، وليس بالعقل والمنطق.
…………………………………………………
إن الفن وان كان فيه فلسفة وعلم، لكنه ليس فلسفة وليس علماً في نهجه المعرفي سواء في إدراكه للحقيقة أو في تعبيره عنها، بل يبرز في مجال الفن، دور الوجدان في التلقي المعرفي، وتنهض المعرفة كنتاج إشكالية تبرز في النهاية إلى ساحة المشاعر والأحاسيس لتؤثر في الإنسان في الصميم، وعلى حد قول “كروتشه”: فإنَّ المعرفة المفهومية، في صورتهـا الخالصة(أي الصورة الفلسفية) واقعية النزعة دائماً، لأنها تحاول أن تقرر الواقع في مقابل اللاواقع أو أن تقلل هذا اللاواقع. أما الحدس فمعناه أن لا يكون هنالك تمييز بين الواقع و اللاواقع، والمهم في الصورة إنما هو قيمتها كصورة مثالية خالصة.
السمات المشتركة بين الفنون:
هل هناك سمات أو طبيعة مشتركة تتساوى فيها مختلف الفنون الجميلة ؟ للإجابة على هذا السؤال سعى المختصون إلى دراسة تلك المشتركات من جهتي النتيجة والقاعدة، لتأكيد الأصل الواحد الذي تشترك فيه.
أما من جهة النتيجة فهي واحدة تقريباً من كل عمل فني، فشعور المستمع لقطعة موسيقية أو لقصيدة من القصائد هو ذات الشعور عند الناظر إلى لوحة مصورة، ولكن هذا الاتفاق في النتيجة لا ينفعنا في تحديد الماهية المشتركة أو المفهوم المشترك الذي تصدر عنه الفنون، فالعلاقة الحقيقية هي التي تتوفر في الأساس أو القاعدة.وكان “أرسططاليس” قد اهتدى إلى أصل مشترك بين الشعر والموسيقى والرسم، وذلك بقيام كل منهما على المحاكاة(17) للطبيعة.
يحاول “إفلاطون” ، في دراسته للفن، تعيين الأصل المشترك أو الجنس الذي تندرج تحت لوائه مختلف أنواع الفنون، فيقرر أن ذلك الأصل هو الشعر باعتباره علة خروج الشيء من اللاوجود إلى الوجود، وعلى ضوء هذا الفهم وفي سعيه لتبرير أوجه الإبداع المختلفة، يرى أن الإبداع ، كما نعرف، يأخذ أشكالاً متباينة، والحِرَف المختلفة ضروب من الشعر، ومحترفوها شعراء، ولكننا لا نسميهم شعراء، وإنما نسميهم بأسماء مختلفة كل حسب حرفته بينما نقتطع جانباً من ميدان الشعر وهو الذي يتصل بالموسيقى والوزن والقافيـة ونطلق عليه اسم الجنس ونسميه وحده الشعر، ونسمي المشتغلين به شعراء. تأخذ هذه المحاولة قيمتها من جهة إمكانية تصنيف الفنون في جنس واحد اعتماداً على أصل العلية(18) المشترك والمتمثل في البعث من اللاوجود إلى الوجود، مما يسهم في تيسير دراسة أنواع الفن ومن ثم معرفة الماهية الحقيقية للإبداع.إن نص “أفلاطون” السابق يكشف عن حقيقتين أساسيتين، 1- إن كل ما يصدر إنما يصدر عن وحدة شاملة. 2- إن ما يميز بين الأشياء، بالإضافة إلى ذلك، وبين الفنون على وجه أخص هو طبيعة الوسط الذي تتعامل معه هذه الفنون( 19).
وتشترك الفنون الجميلة في عدة عناصر، فهي من صنع الإنسان، ويتصف الفن الجميل بقيمة ذاتية وبتجرده عـن الغاية العملية، فالشاعر يخلق الشعر وغايته هي الشعر نفسه، كما أن الفن هو غاية نفسه، وتشترك الفنون الجميلة كذلك في كونها مبعث رضى وارتياح ومصدر إيجاب شعوري وتأثير كوني شامل، لكن القاعدة العامة في الفن الجميل أن صاحبه يجب أن يتمتع بأكبر قسط ممكن من الحرية والتجرد وينصرف بكليته إلى فنه لأن طغيان العوامل المادية يقيد الفن أو يقضي عليه. وما يؤكد الميزات المشتركة للفنون الجميلة هو بقاء الآثار الفنية الخالدة وفي كل عصر كمصدر إعجاب وتقدير، رغم تغير أشكال الفن وتبدل مذاهبه ومثله العليا. بناء على ما تقدم، بالامكان الخلوص إلى تحديد للفن الجميل أقرته أكثر الآراء: ((الفن تعبير حر “أي غير مقيد بمثال” ذو قيمة ذاتية منفصلة عن غايته. وهو أكمل حسنا من الطبيعة(20) وأكثر اتصالاً بالنفس لما يثيره من حاسة المشاركة الشعورية، لأنه صنع إنسان لآخر))( 21).
كما تتماثل جميع الفنون في طغيان سمات إحدى النزعتين الكلاسيكية أو الرومانطيقية بنسب متفاوتة، لأن الفنان ذاته، كإنسان، تجتمع فيه كلتا السمتين. ويرى “هربرت ريد” في محاولته تفسير أو تبرير ذلك الاجتماع بان في ذهن كل متفنن قوتين متجاذبتين، في احداهما ينقاد إلى العقل البدائي حيث يجد كنزاً غنياً بالصور والكلام، وفي الثانية يتجه نحو النظام والجمال الخلقي، وهاتان القوتان تتحدان أحياناً فـي توجيه حياة الفنان فإذا توازنتا نتج عنهما فن كامل( 22).
قد تكون هذه مجمل السمات الأساسية المشتركة بين الفنون والتي تعد من المحاور المهمة التي تعنى بها فلسفة الفن ونظرية الأدب(23).

تصنيف الفنون:
عني الفلاسفة والنقاد والمفكرون بمسالة تصنيف الفنون فاجتهدوا من خلال دراساتهم وبحوثهم لوضع الأسس الذي يبنى عليها هذا التصنيف، فكانت هناك آراء عدة في هذا الميدان. ويعد الرأي القائل بجعل الأداة أو المادة التي يستخدمها الفنان للوصول إلى غرضه هو الأساس في التصنيف. فإذا كانت هذه الوسيلة هي الخطوط المجردة كان الرسم، وإذا كانت الخطوط والألوان كان التصوير، وإذا كانت المادة المحسة المجسمة كان النحت أو فن المعمار، وإذا كانت الأصوات والنغمات المجردة كانت الموسيقى، وان كانت الحركات المجردة كان الرقص، وإذا كانت الحركات مع العبارة فهو التمثيل، وإذا كانت الألفاظ المختارة التي يقصد منها نقل المعاني والأحاسيس فهو الأدب.
ويبدو أن ما من تصنيف يضعه أحد الفلاسفة أو المختصين بعلم الجمال إلا وكان له ما يبرره عند واضعه، من حيث الأسس التي يضعها المصنف لمنهجه في تصنيف الفنون. يبتدىء “كانت” تصنيفه للفنون الجميلة بالتمييز بين أنواع مختلفة منها، أولها( 24): الفنون الكلامية وهي النثر والشعر، وثانيها: الفنون التصويرية وهي التي تعبر عن الأفكار بطريقة حسية وهي: 1- الفن التشكيلي: ويتضمن النحت والعمارة. 2- التصوير: ويسميه أيضاً بفن المظهر الحسي، ويتضمن التصوير بالمعنى الخاص وفن الحدائق. 3- فنون اللعب بالإحساسات: مثل الموسيقى وهي فن الإحساسات السمعية، ثم الملونات أو فن التلوين وهو فن الإحساس البصري. ويضيف كانت إلى هذه المجموعات الثلاث من الفنون طائفة من الفنون المركبة مثل: المسرح، والغناء والأوبرا والرقص.
أما “شوبنهاور” فيرتب الفنون كمثل ترتيبه للأفكار أو للمثل نفسها، لأن فلسفته الجمالية مشتقة من مذهبه الفلسفي العام؛فيذهب إلى أن الفيلسوف والفنان يشتركان في مضمون العبقرية المتمثل في القدرة على التأمل الميتافيزيقي،وانطلاقا من فكرته العامة التي تنص على أن العالم إرادة وتمثل يرى أن الوجود الميتافيزيقي يتمثله الفيلسوف من خلال الصور العقلية أما الفنان فيتمثله من خلال أعماله الفنية. وهكذا كان ترتيبه للفنون؛ ففي الدرجة السفلى نجد فن العمارة وهو مجال أفكار حدسية لا تلبث أن تحولها الإرادة عند التنفيذ إلى موضوعات هي صفات المادة: كالثقل والتماسك والمقاومة، ثم يلي ذلك الفنون التشكيلية وهي النحت والرسم، أما النحت فإنه يكشف عن البنية الحركية للصورة الإنسانية، أما الرسم فموضوعه الخلق أو الطباع خصوصاً في الرسم التاريخي، ثم الشعر وهو يتجه إلى حدس الأفكار ولكن عن طريق التصورات المعبر عنها بألفاظ، وأخيراً نجد الموسيقى خارج هذه الفنون جميعاً فهي مستقلة تماماً عن عالم الظواهر، وتعبر عن صدق الصور وماهية العالم من وراء الأفكار والإرادة نفسها، وهي أيضاً لغة كلية تعبر عن العواطف في أصالتها ونقاوتها كالفرح في ذاته والألم في ذاته، وهي تعبر عن هاتين العاطفتين بعد أن تفصل عنهما حوافزهما.إن الموسيقى في نظر “شوبنهاور” تأتي في قمة الفنون جميعا؛ فالعالم في نظره ليس سوى موسيقى تجسدت، بوصفها إرادة نقية تحقق مثلها ووجودها في العالم من حيث ان وجود العالم يقوم على الإرادة وتمثل الموجودات. أما “ليسنج” فقد أضاف فكرتي الزمان والمكان كصورتين أوليتين للحساسية إلى تصنيف “شوبنهاور”: فقد ميز بين الفن التشكيلي المكاني الثابت، والفن الشعري الزماني الحركي. وفي العصر الحديث نجد الأمريكي “توماس هل جرين” Green يذكر ستة فنون كبرى موزعة بين ثلاث مراتب، أولاهما ثلاثة فنون مجردة هي الموسيقى وخاصيتها الزمان، والعمارة وخاصيتها المكان، والرقص وتجتمع فيـه خاصيتا الزمان والمكان معاً، وفي ثاني هذه المراتب للفنون يوجد فنان تعبيريان أو تصويريان هما النحت والرسم وهما يطّردان في المكان، وفي ثالث هذه المراتب يوجد الفن الرمزي أي الأدب الذي يستند إلى عنصر الزمان. أما “لاسباكس” وهو من أتباع المدرسة الاجتماعية الفرنسية، فانه يقسم الفنون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: فنون الحركة، وتشتمل على الرقص والغناء والموسيقى، وهي أقدم الفنون وأولهما في الظهور، وأساسها الدوافع النفسية المحركة كالغرائز والعادات والإرادة، وغاية هذه الفنون الدفع والتحريك والتأثير في الأفراد، القسم الثاني: فنون السكون؛ وهي فنون العمارة والتصويـر والنحت؛ هذه الفنون تبنى على التناسق العقلي وتخضع للمنطق ولكنه ليس منطقاً فكرياً متزمتاً، القسم الثالث: الفنون الشعرية؛ ومنها الشعر الغنائي، والشعر القصصي، والشعر التمثيلي ومنه الكوميديا والتراجيديا، وكذلك الأوبريت أو التمثيليات الغنائية، وهذه الأنواع من الفنون تجمع بين ناحيتين: 1- الفن الأدبي، 2- والغناء أو الموسيقى…
يحاول بعض الفلاسفة وضع الفن في جهتين متقابلتين، تتمثلان في فن الحواس، ونموذج آخر مناقض له هو التجريدية، فالفن الأول “فن الحواس”، يتميز بالحيوية والتركيز على النشاط الحياتي الأساسي أو العناصر المميزة للحيوانات، وبذلك فهذا الفن يعد عضوياً، حياتياً، حسياً، أما التجريدية فهي الفن الذي لا يستقي البهجة من الطبيعة العفوية للأشياء، بل يتجه نحو تحريضها لمصلحة دافع خفي، ومن الممكن أن يكون دافعاً دينياً، رمزياً أو فكرياً، أو غير واع، والفن بوصفه شكلاً معيناً لإدراك الواقع، فان المقياس الذي يستند إليه لتمييز هذين النموذجين من الفن، هو الشكل، الصفة المشتركة بينهما ذلك لأننا بواسطة الشكل، نستطيع تمييز الفن عن سائر طرائق التعبير(25 ).
لقد سعى بعض الباحثين لإيجاد تصنيف للأنماط الجمالية المأثورة في الفن، من خلال الربط بين هذه الأساليب وبين أنماط الشخصية التي يلجأ بعض علماء النفس إلى تصنيف الناس على ضوئها اعتماداً على نوعية النشاط العقلي الذي يثبت سيطرته على طبيعة السلوك العقلي عند الإنسان. ثمة أربعة أنماط رئيسة للنشاط العقلي هي: التفكير والإحساس الوجداني والحس والحدس وبناء على نوعية المحصلة الناتجة عن تفاعل هذه الأنماط في نطاق الفرد، فان ذلك الفرد سوف ينتمي إلى نمط نفسي مناظر، وعليه فبإمكاننا الوقوف على أربعة أنماط للشخصية تناظر الأساليب الأربعة للنشاط العقلي، وان لدينا أربعة أساليب متمايزة للإدراك، كذلك من الممكن استشراف أساليب متمايزة من النشاط الجمالي معبراً عنها في الأعمال الفنية. ويمكننا تلمس أربعة أساليب أو أنماط متمايزة في تاريخ الفن هي: الواقعية والمثالية والتعبيرية والتجريدية.
فالأسلوب الواقعي: هو الذي يتشكل من القيام بتقليد ملزم بقدر الإمكان للحقائق الموضوعية المقدمة في أحد أعمال الإدراك. والأسلوب المثالي: وهو الذي في حين يستفيد من الصور الذهنية ذات المصدر المرئي، فإنه ينشئ حقيقة مستقلة عنها، والأسلوب التعبيري: وهو الذي يتحدد في ضوء رغبة الفنان في العثور على انسجام تشكيلي لإحساساته الجسمية المباشرة، ولاستجاباته المزاجية لإدراك معين أو خبرة معينة. والأسلوب التجريدي: وهو الأسلوب الذي يتجنب جميع العناصر التقليدية، ويستدعي استجابة جمالية للعلاقات الصورية البحتة المتعلقة بالمكان والحجم واللون والصوت ونحو ذلك( 26). إن الفن الحقيقي والعظيم لا يتميز فيه نمط عن آخر من الأساليب بشكل متفرد، بـل تتداخل الأساليب فيما بينها كما تشهد بذلك الأعمال الفنية الكبرى بما فيها من تنوع وتعقيد…
إنسانية التجربة الفنية:
يتجاوز الفن في لغته حدود الزمان والمكان، لأن لغته هي لغة الإنسان التي تنطق بلسان المشاعر والتي تتلقفها آذان القلوب البشرية في أرجاء الأرض وعبر الحقب والأزمان، إنه اللغة الإنسانية المشتركة التي يفهمها الناس بغير قيود المعاني واللكنات التي تقف حائلاً بين لغات الشعوب . والتعاطف مع سائر الكائنات والشعور بالمسؤولية تجاهها واحترام مكانتها والاعتقاد بصدق وعمق وظيفتها وأهميتها هو أساس الفن العظيم، ولا يمكن للفنان معاملة الوجود والكائنات وفق هذا المنظار إلا إذا أحب، فتأمُّل الفنان في الكائنات إنما هو لاكتشاف حقيقتها وماهيتها مما يؤدي إلى حبها، ((إن الفنان يتأمل من أجل أن يستوفي الحب، إن عاطفة الحب هي مبدأ الشعور الفني))( 27). فالفن يعد اللغة المشتركة للإنسانية، اللغة التي تعتمد على ما يتميز به الإنسان عن غيره من الكائنات، العاطفة،الجمال، المشاعر الصادقة، العقل. فالفن لا يعرف الحواجز، ولا يعترف بفوارق اللغة، والتربة، والدين، والجنس، لأنه تعبير جميل عن الإنسان، في أوسع مجالاته ومفاهيمه، فيلتقي فيه البشر –جميعاً- بوجداناتهم، كما يلتقي الأخ بالأخ في الأسرة البشرية الكبيرة: {وكذلك، جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} (الحجرات، 13) والناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.

والفن، بطبيعته، لابد أن يكون نابعاً من تجربة معينة قد خبرها الفنان ثم يسعى لنقل حالته الوجدانية والشعورية الناجمة عن تلك التجربة بحسب النوع الفني الذي يمارسه، فيتم التعبير عن ذلك الشعور إما بالحركات أو الأصوات أو الألوان أو الكلمات، والتي يتوجب أتكثيفها في صورة فنية يحدسها خيال الفنان ليجمع شتات مشاعره وأفكاره في إطار واحد ينبع من صميم العمل فيصهره في وحدة واحدة.
يرى تولستوي إن الفن نشاط إنساني وجداني يعبر عنه الفنان تعبيراً واعياً بوسائل خارجية، وهو بهذا يوصل أحاسيسه التي عاشها وجربها إلى القارئ الذي يتأثر بها بدوره، فيحس بإحساسه. هذا التصور حول طبيعة الفن عند تولستوي لا يخرج عن الإطار الذي حدده لوظيفة الفن المتعلقة بنقل إحساس الفنان إلى الآخرين، كما ذكر في مكان سابق من هذه الدراسة. وفاعلية العمل الفني المنجز بوصفه تعبيراً عن تجربة شعورية، تتوجب على الفنان الابتعاد، زمنياً ومكانياً، عن موضوع التجربة ليتاح له فرصة التأمل والتوغل في أبعادها لسبرها والخروج منها بالعبر والصور الجميلة، والتوصل إلى ماهيتها. ذلك كله للوقوف عند أساس العلة المسببة، مما يتطلب من الفنان أن يكون على مسافة كافية فيما بين الموضوع والذات فلا الإنفعال والعاطفة الطاغية ولا برودة المفهوم المنطقي بقادرين على تحقيق عمق التجربة في العمل الفني، لأن طغيان أي منهما لابد وأن يؤدي إلى تخلف في التعبير. أن تكون التجربة في الأثر الفني مستعادة وليست آنية، يقول “تولستوي”: ((تعمل وظيفة الفن على أن يستعيد الفنان من نفسه عاطفة كان قد اختبرها، وبعد أن يستعيدها يعمل على بثها في النفوس بوساطة الحركة والتخطيط والألوان والصور المنعكسة في كلمات. ويتم ذلك على نحو يمكن الناس من اختبار تلك العاطفة في العمل الفني كما اختبرها هو في عالم الواقع))( 28).

يدلي الشاعر “وردزورث” من خلال نظريته في الشعر، برأي مقارب لرأي “تولستوي” الآنف الذكر والذي يؤكد أن الفن في طبيعته تجربة مستعادة، الغاية منه نقل الأحاسيس إلى الآخرين، يقول “وردزورث”: يصدر الشعر عن الانفعال العاطفي المستعاد في حالة الهدوء، فالانفعال يستعاد في حالة الهدوء، حتى تختفي هـذه الحالة ويحل مكانها انفعال واعٍ هو الانفعال المبدع الخالق، الذي يوصل به الفنان أحاسيسه إلى القارئ؛ فكلا الفنانين يتفقان على أن الفن عملية توصيل أحاسيس إلى المتلقي، أما رأي وردزورث في الشاعر فانه إنسان يتحدث إلى إخوانه في الإنسانية فيسمع صدى كلامه في نفوسهم، وهو عين رأي “تولستوي” في الفنان الكامل( 29).
ولما كان الفن وليد تجربة شعورية حية فانه ينبع من صميم الفنان ويتفاعل مع المتلقين عن طريق المشاعر والأحاسيس والعواطف والهموم المشتركة التي تحيا مع تجربة الفنان طالما أنهم أبناء مجتمع واحد يمتلك مـن الأوتار المشتركة المتعارف عليها. لذلك لا يمكن للفن أن يفرض فرضاً على الفنان أو المجتمع ما لم يكن نابعاً من جوهر آماله وتجاربه ومن عمق تربته التي يحيا عليها. فالفن، في حقيقته، ((مثل شرارة وهي تشع في الوقت المناسب بين قطبين متناقضين، أحدهما فردي والآخر يخص المجتمع، إن التعبير الفردي رمز اجتماعي شرعي أو أسطورة(30) ))( 31) .
على الرغم من صدور الفن عن تجربة ذاتية خاصة ومحدودة، إلا انه يمتلك القدرة على مخاطبة كافة شرائـح المجتمع بل حتى الوصول إلى مناطق شاسعة على مستوى الإنسانية. يقول “أليكسي تولستوي”: ((إن الفن يستند إلى تجربة ضيقة “بالمقارنة مع العلم” إلا إنها تجربة تميط من خلالها جسارة الفنان وثقته القناع عن تعميمات عصر بأكمله))( 32)، فالفنان هو إنسان، والإنسان في طبيعته عاجز عن الإلمام بكافة حقائق الحياة وجزئياتها ودراستها، لذا يلجأ الفن إلى التعميم وإلى إبراز المفاهيم والماهيات من خلال مصاديقها، وان كان مصداقاً واحداً بوصفه نموذجاً من عمل الفنان وخياله، ومهما تكن نوعية المعرفة التي بحوزة الفنان، إلا إن الفن لا يتكئ إلا على التجربة المباشرة التي يحياها الفنان، والذي لا تخونه أساليب الاستبطان(33) والحدس والتأمل وقوة الذهن ودقة الملاحظة والخيال الخالق، والتجريدية التي هي، أي هذه الصفات، أساساً السمات المميزة للموهبة الحقة. فالفنان، في حقيقة الأمر، ((مدين بنجاحه، كما هو واضح، للخبرة الضخمة السياسية والسيكولوجية التي يحوزها ولتمتعه بنظرة أتاحت له التفكير بمقولات شمولية عريضة، ثم الحدس هذا النوع من الهبة الإبداعية التي يصعب اختصاره ضمن تعريف محدد يمتلكه بدرجات متفاوتة جميع الفنانين العظام))( 34).

الحقيقة في الأدب:معرفة من خلال الانعكاس:
يبدو أن الفن ما هو إلا محاولة لاستكشاف أسرار الكون والحياة عن طريق إماطة اللثام عن جواهر الأشياء بغية التعرف على العلاقات التي تربط عناصر الوجود، ومن ثم الوقوف عند أساس العلة التـي تعد غاية كل علم وفكر حقيقيين. فالفن العظيم عمل خلاّق لا يؤتاه إلا أصحاب النفوس العظيمة التي زكت فوق الاهتمامات الحسية المحدودة وأخذت ترنو إلى المطلق وإلى الحق والخير والجمال، النفوس العامرة بحب البشرية والكائنات، والمتطهرة من الأنانية المقيتة.
يقول “رودان”: إن الفن هو التأمل، هو متعة العقل الذي ينفذ إلى صميم الطبيعة ويستكشف ما فيها من عقل يبعث فيها الحياة. هو فرحة الذكاء البشري حين ينفذ بإبصاره إلى أعماق الكون، لكي يعيد خلقه مرسلاً عليه أضواء من الشعور. الفن هو أسمى رسالة للإنسان، لأنه مظهر لنشاط الفكر الذي يحاول أن يتفهم العالم وأن يعيننا نحن بدورنا على أن نفهمه، فالفن بوصفه ظاهرة حضارية تتفرع إلى مفاصل عديدة وتتصل بمختلف نشاطات الفرد والمجتمع فهو في مفهومه الحقيقي أوسع من النظرات الضيقة المحدودة. ولعل هذا ما دعا صاحب “مشكلة الفن” إلى التساؤل إن كان في استطاعتنا التوسع في معنى الفن فنقول( 35): انه أسلوب خاص في نقل تجربتنا الفردية والاجتماعية إلى الآخرين؛ بما في ذلك ادراكاتنا، وميولنا، وعاداتنا، ومفاهيمنا، وإرادتنا، ومعتقداتنا وكل ما يندرج تحت مفهوم “التراث الحضاري” بصفة عامة؟.فالفن، في ضوء ما تقدم، ضرورة ملحة وليس نوعاً من الترف الفكري أو العاطفي أو نشاطاً خيالياً قائماً على الأحلام التي لا أساس لها على أرض الواقع، بل هو لغة نوعية خاصة تعبر عن حاجة الإنسان إلى الخلق والإنتاج من أجل تحقيق ضرب من النشاط الإبداعي الذي يستطيع عن طريقه أن يخلع على الكون نفسه صبغة إنسانية.
ينفرد الفن بخاصية البعد المعرفي المتحقق فيه ومن خلاله، بوصفه نهجاً معرفياً ينبثق في كشوفاته من اتحاد راقٍ بين الذات والموضوع ، عنصري العملية المعرفية، فيتمازجان في تركيب خاص يحدثه الفنان المبدع كتشكيل حسي طافح بالعاطفة والأحاسيس يتم فيه التأليف بين الذاتي والموضوعي، بين الجزئي المحدود والكلي الضروري غير المحدود، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الواقع والمثال.مما يميز الفنان قدرته على الاندماج مع موضوعه والتغلغل في أعماقه للوصول إلى جوهره، لذلك يتحدث البعض عن رسام تحول إلى شجرة أثناء رسمه تلك الشجرة. وهذه الشروط الجوهرية للفن تتجلى بشكل أكثر صفاء من خلال الأدب، النوع الفني الأكثر غناء والتصاقاً بالبعد المعرفي بسبب من تأصل المعنى في أداته التي يسعى للتعبير من خلالها، ألا وهـي اللغة. وعلى الأدب لكي يحقق الخلود والقيمة أن يلتزم بتلك الشروط الأساسية الضامنة لفنية الأثر الأدبي وجودته من حيث صلته بالمطلق والحس وابتعاده عن الجزئي والتجريد لأن الأدب إذا انقطعت صلته بالمطلـق والعام سقط في درك المباشر الفج المبتذل والزائل حكماً، وإذا انقطعت صلته بالملموس والجزئي، سقط في التجريد، والرمزية المغرقة في غموضها، وفي الحالتين يتنازل الأدب عن طبيعته ووظيفته، ويتنازل عن ذاته( 36).
والأدب ليس نقلاً حرفياً للواقع أو انفعالاً فقط بل هو منفعل وفاعل، يأخذ التجارب من الحياة وفي الوقت ذاته يخلع عليها من روحه وعواطفه وخبراته وأفكاره ليخرج منها بصيغة أقرب إلى الكمال ترسي لدى الآخرين فهماً أفضل للوجود، فالأديب ليس ((معبراً فحسب، ولكنه معبّر ومفكر ومدبر، بل انـه يفكر ويدبر قبل أن يعبر ويحرر))(37 ).
يتميز الأدب عن باقي الفنون التي تعتمد في بنائها على غير اللغة، كالعمارة التي تقوم على مادة الحجر، والتصوير الذي يعتمد مادة الألوان، والموسيقى التي مادتها الأصوات، فالأدب يستخدم اللغة للتعبير عن المشاعر والانفعالات والأفكار، حتى قيل في تعريفه بأنه التعبير باللفظ الجميل عن المعنى الجميل.
وهو يختلف عن العلم الذي وان كان يتخذ من اللغة أداة للتعبير، إلا انه يتسم بالتقريرية والمباشرة خلافاً للأدب الذي لا مكان فيه للتقريرية في عرض الأفكار ((وإنما تصور الأفكار فيه تصويراً جميلاً يتساوق مع ما يسبغه عليها التعبير من تشابيه وأشكال وألوان، وبما يكسوها من مجازات وكنايات))(38 ).
والأدب الحق لا يمكن تحققه إلا في بالتزامه النهج المعرفي الساعي لتجلية الأفكار والحقائق وفق شروط الفن. وعنصر الحقيقة هو الجوهر الذي انبنت عليه معظم النظريات المفسرة للأدب، بدءاً “بإفلاطون” الذي عد الفن الأصيل، في جوهره، محاكاة للحقيقة أو للمثل، ثم تجلى هذا العنصر “عنصر الحقيقة” في نظرية المحاكاة التي اعتمـدها أرسطو في تفسيره للأدب بفعل ارتكاز نظريته على عنصر التعرف والكشف عن الحقيقة المتمثلة في الكلي والمطلق، حتى العصر الحديث حيث نجد أن معظم النظريات التي وضعت لتفسير النشاط الأدبي تستند إلى عنصر الحقيقة في تفسيراتها، فنرى “البنيويين” وإنْ عارضوا فكرة المحاكاة الأرسطية إلا أنهم نظروا إلى الأدب بوصفه ((مؤسسة تستهدف خلق حقيقة ثانية موازية للعالم الواقعي))( 39).
وفي ضوء مفهوم الانعكاس الذي يمثل جوهر نظرية المعرفة “الماركسية” ، فقد عد الأدب ترجمة للأفكار المأخوذة عن العالم الواقعي.و يتجلى مفهوم الانعكاس خلال البحث في مسألة العلاقة بين الوعي والمادة،المسألة الأساسية في كل فلسفة، ويتوقف على حلها تحديد اتجاه هذا المذهب أو ذاك. فالمثالية مثلاً تعد الوعي سابقاً للمادة، للطبيعة، في حين تذهب المادية، “واستناداً إلى مفهوم الانعكاس”، إلى التأكيد على أن المادة هي الأصل وإنها مصدر الوعي، وان الوعي بشكل أفكار ونظريات كان قد نشأ عند الإنسان نتيجة لعكسه للوسط المحيط به فحسب( 40).
ولما كان ما موجود على أرض الواقع ليس بحقيقة كله، بل قد تكون الحقيقة مغايرة تماماً لما نراه أمامنا على السطح، فقد سعى كثير من الدارسين إلى وضع الأسس التي تصون عنصر الحقيقة في الأدب ومفهومها الأصيل وتمييزها عن الانحرافات سواء منها الموجودة في الواقع فعلاً، أم في طبيعة الإدراك البشري. ومن هؤلاء “جورج لوكاش” الذي يرفض أن يكون الأدب انعكاس للحقيقة الواقعية فحسب، بل الأدب هو معرفة تلك الحقيقة ، فالأساس في الأدب ليس النقل السطحي والفوتوغرافي للتجارب أو المحاكاة الشيئية للطبيعة، بل على الأديب الحق أن يسعى لتعريف التجربة جمالياً وأن لا تعوزه عناصر التعليل والاستنباط والتفسير وإبداء الرأي الثاقب وفق شروط الفن والشكل الجمالي. وإجمالاً يتوجب علـى الأدب السعي لعقلنة(41) التجربة بالنفاذ إلى صميمها والكشف عن جوهرها وباعتماد التجريد يسعى إلى تعميم فحوى التجربة بصبغة إنسانية تمس شغاف الوجدان من المتلقي فتخاطب قلبه وعقله لتكون أبلغ في التأثير، وبخلاف ذلك لا يكون الأدب إلا ترفاً فكرياً يغوي السذج ويلهيهم كما يلهو بعض الناس بالكتابة على الماء.
المعرفة في الفلسفة والفن:
يقول “ت. س. إليوت” إنَّ العمل الأدبي استعاضة عن الفلسفة، وبديل لها، وليس خادماً لها ولا دليلاً عليها. هذا القول يبين لنا نوعية المكانة التي يحتلها الفن في المنظومة المعرفية للبشرية، كونه يقف نداً وكفئاً للفلسفة، مما يؤهلهما، أي الفلسفة والفن، لإغناء أحدهما الآخر عن طريق بناء علاقة ايجابية تكاملية فيما بين الطرفين.
حين نحاول استقصاء آراء الفلاسفة والمفكرين حول الفن، وفي فلسفة الفن بالذات، فإننا سنطلع وبشكل ثابت وقوي، على عمق العلاقة القائمة والمتجذرة بين الفلسفة والفن، بل على ضرورة البحث في الفن بالنسبة للفلسفة، لأن الدراسة الفلسفية للفن تعد مكملة للمنظومة الفكرية للفيلسوف. هنا ينبغي لنا التمييز بين نوعين من الدراسات الفنية: (1)فلسفة الفن؛التي تؤلف حلقة لازمة في البناء الفلسفي2) الجزء المتخصص بنقد الأعمال الفنية.
ومنذ أقدم الحلقات الفلسفية، وبالأخص منذ “أفلاطون”، بدأت تترسخ العلاقة بيـن الفلسفة والفن، وتبذل الجـهود لمحـاولة التقريب بينهـما قدر
الإمكان. “فأفلاطون” الذي يعتقد بنظرية “المُثُل”، والتي تستلزم، عنده، أن يكون الوجود الحقيقي هو وجود الصورة، بعكس الوجود الحسي الذي لا يتمتع بهذه الصفة، نراه واستناداً إلى نظريته في المحاكاة، يؤكد على تأخر الفن في مرتبته بدرجة كبيرة عن الفلسفة وعن الرياضيات، باعتبار أن الفن تقليد التقليد إذ لا يحاكي الوجود الحقيقي ،بل الوجود الحسي المتمثل في الأشياء الحسية التي هي في حقيقتها،حسب نظرية المثل الافلاطونية، تقليد للصور. لكنه يضع الفن الذي يحاكي المثل في درجة الفلسفة، كونه يحاكي الوجود الحقيقي. وعلى هذا؛ ولأن الفلسفة تتأمل الصور مباشرة، لا تقليدات الصور، فهي أرقى بكثير من الفن الذي يحاكي تقليدات الصور . لهذا يتوجب على الفن الاطلاع بتجسيد مفاهيم الحق والخير والجمال الممثلة لماهية الفلسفة . وينبع هذا من الأهمية الأخلاقية التي يوليها “إفلاطون” للجمال، فالجمال الحقيقي، عنده، هو جمال الحق أو جمال الخير، وليس هو الصورة السطحية التي تحدث في النفس لذة حسية، فالأخلاق هي المقياس الأكبر للفن، والفن الذي يكون قريبا من العلم ويعكس تلك المفاهيم بصدق يكون أعلى من الفن الذي يجانب الأخلاق ويعتمد التمويه.
ولما كان النظر في الفن بالنسبة للفيلسوف يتقرر وفق نوعية فلسفته والمنهج الذي يتخذه في البحث، بفعل أن الفن حلقة أو جزء متمم لأجزاء المنظومات الشمولية “فلسفة الفن” أو “علم الجمال”، فكان من الطبيعي أن يكون لكل فيلسوف تصوره الخاص عن الفن بحسب ما يمليه عليه فكره ومنهجه الفلسفي. ولعل أكبـر دليل على ذلك ما عرف من تباين بين رأيي “أفلاطون” وتلميذه “أرسطو” في مجال الفن. فأرسطو الذي نقض على أستاذه نظرية المثل، من البديهي أن يعارض ما يترتب عليها من مبادئ وآراء، ومنها
ما أخذ على آراء أستاذه في الفن والشعر، “أرسطو” الذي اتبع المنهج الاستقرائي في الوصول إلى معارفه الفلسفية. فحين ذهب “إفلاطون” إلى ضرورة أن تكون المحكيات جميلة، فان أرسطو يرى أن بعض الأشياء القبيحة والبشعة ممكن أن تكون محاكاتها جميلة، وحين اعترض “أفلاطون” على الشعر، بحجة أنه يثير العواطف، بحيث طرد الشعراء من مدينته، نرى “أرسطو” يعلن أن الشعر وان كان يثير العواطف، ولكنه بهذه الإثارة يريح النفس، ويطهرها، وحين قلل “أفلاطون” من قيمة الشعر بأنه تقليد التقليد، نرى أن أرسطو” يقرر أن الشعر(42) يجري وراء الحقائق العامة، ولا يعني بالحقائق الخاصة كالتاريخ، وإذن، فالشعر شيء رفيع(43 ).
وانطلاقاً من نظريته في المحاكاة يحاول “أرسطو” أن يسوغ تأصل النزعة الفنية عند الإنسان بفعل ميل الإنسان إلـى التقليد الذي يرثه منذ الطفولة، والتقليد مضافاً إليه التمييز من الصفات التي يتميز بها الإنسان عـن الحيوان، والإنسان قادر على التقليد وهو بهذا التقليد يحصل على المعرفة ، ولا يمكن بحال إنكار المتعة التي يدخلها التقليد الفني للأشياء على المشاهد، وهذه المتعة المتولدة عن مشاهدة الإنتاج الفني وفهمه، نابعة بحسب “أرسطو”، من أمرين: السرور بالفهم، والسرور بالمعرفة .
أما “هيجل” الذي يرى أن فلسفة الفن تؤلف حلقة لازمة في مجمل الفلسفة فأنه يرتفع بالفن إلى مرتبة عالية ليقرنه بأعلى اهتمامات الكائن البشري. فالفن أحد لحظات تدرك بها الروح ذاتها، شأنه في ذلك شأن الدين والفلسفة، لكل منهم جذوره في التجربة الإنسانية. إن الفن شكل خاص يتجلى فيه الروح. وهو أكثر واقعية وحقيقة من الواقع، وأقرب إلى الروح من الطبيعة الخارجية، الجامدة الهامدة. ويسوغ ذلك بأن الفن والآثار الفنية، بانبثاقها عن الروح وتولدها عنه، تكون هي ذاتها من طبيعة روحية، حتى وان كان تمثيلها يتلبس ظاهراً حسياً، شريطة أن يكون هذا الظاهر مشبعاً بالروح،والروح لا يلتقي إلاّ ذاته في منتجات الفن ( 44).
إن الفن بوصفه نهجاً لإدراك الواقع، يعتمد على آلية خاصة في الكشف المعرفي، تتمثل في الاتحاد الذي يحدث بين الذات والموضوع، المادة والعقل، لأن الفن الحقيقي في أساسه تأمل وتعاطف مع الموضوع، مما يؤدي إلـى نوع من الحدس الذي يميط اللثام عن وجه الحقيقة دفعة واحدة، بحيث تصبح المادة والعقل وجهين أو جانبي وحدة سامية. وهذا ما يؤكده “شيلنج” بقوله :الطبيعة روح مرئية والروح طبيعة خفية، والأولى تكمل الثانية، فالذات ترى نفسها في الطبيعة كما تدرك الطبيعة نفسها في الروح، وكأن الطبيعة عقل منظور، والعقل طبيعة خفية. ولما كان الأساس في العملية المعرفية يتحدد على وفق العلاقة المتمثلة بين الذات والموضوع، ولأن الاندماج بين هذين العنصرين يبلغ ذروته في الفن الحقيقي؛ نرى “شيلينغ” يرتفع بالفن إلى مرتبة متقدمة جداً، فالفن أساس الفلسفة بل هو رتبة فوقها. وكان “آرسطو”، من قبل،قد ارتفع بالشعر عندما اعتبره أكثر فلسفية من التاريخ كونه يسعى وراء الحقائق العامة بينما يتقيد التاريخ بالجزئيات .
ولا يترك “شيلينغ” الساحة، حتى يبرهن علـى صدق دعواه( 45)، بان الفن أتم وأصدق تعبيراً عن الفكرة ، لان الفنان يجمع بين إدراك فكرة الجمال فوق المحسوس مع ما يجعل هذه الفكرة محسوسة، باعتبار أن كل شيء يطابق مفهوماً أبدياً ابتكره الفكر النهائي. ومهمة العبقرية أن ترى في هارمونية خلق العالم ذلك الجمال العلوي الذي تجده في الله ، والفن وفق هذا المفهوم لا يكون تقليداً للطبيعة، بل تصويراً للوجود الحقيقي، هذا ما يؤكده “شيلينغ” في قوله :تتميز الطبيعة بان كـل إبداعاتها، للحظة واحدة، تبدو متكاملة تماماً وعلى العكس فان الفنان إذ يثبت الجوهر في لحظته هذه ينتزعه من تيار الزمن ويجسد فيه الوجود الحقيقي والحياة الخالدة .
إن ما تكشفه زوايا النظر تلك بمثابة مجموعة مرايا وضعت في مواقع مختلفة حول الحقيقة فأبانت كل منها عن أشكال وألوان متباينة ظاهريا لكنها في جوهرها تمثل أجزاء من حقيقة واحدة تكفلت كل مرآة بعكس جزء الحقيقة المقابل لزاوية الانعكاس الخاصة بها.
الفن بين الكشف والدعاوة:
السؤال؛ هل الفن جانب معرفي فقط، أي وسيلة اتصال معرفية، أم فيه جانب تقييمي وتحريضي؟. الواقع؛ إن الفن الأصيل يجمع كلا الخصلتين ولكن على وفق المنهج الفني المعتمد تعريف التجربة جمالياً. فمادام الفن نتاج ذات فردية بآمالها وميولها وعواطفها وهمومها، فان الموقف الشخصي من شيء ما، هو في نهاية المطاف تقييم له بشكل رئيس، لذلك يتداخل ويتشابك الموقف المعرفي والتقييم مع بعضهما في الفن، لأن الفن تجربة حية لا يمكن أن توجد فيها المعرفة منفصلة عـن التقييم، فالأصل في الفن هو إدراك ظواهر الواقع من منطلق موقف الإنسان منها( 46).
الفن بوصفه وسيلة لإدراك الواقع وفق الأساليب الفنية في الكشف، المعتمدة على المحاكاة والحدس، يتوجب العمل على تثبيته منهجا مستقلا للوصول إلى المعرفة، ولذا يحتاج المستقبل إلى إعادة تكامل الفن كطريقة أسلوبية مستقلة للإدراك والتعبير، كمتلازم حسي، متساوٍ ومتناقض، للتجريدية الفكرية، يمكن للعناصر الفكريـة الولوج داخل عقل الفنان، هناك تحصل على رموزها الحسية والموضوعية. يقول “غوته” عن الفنان الحقيقي انه نصف إله؛ لأن الفن لا يتوقف جهده في نطاق الإدراك وحسب، بل له طرفان هما الإدراك والتعبيـر، وهذا ما يؤكد أن الفن ليس حلماًَ أو تأملاً أو خيالاً فقط، بل جهد وعمل شاق يجنح إلى التنفيذ وفق سياقات صارمة تتحكم في آثاره، لا يتاح لكل من رغب أن يلم بها ولا تأتي إلا وليدة معاناة وتوتر قد يدوم لسنين طويلة بعدها يكون الفنان أهلاً للتشرف بالاتسام بخبرة الفن. فالفنان، وفق هذا الفهم، يكون في صراع دائم مع المادة، مع اللفظة في الشعر، مع الحجر في النحت، مع الفرشاة في الرسم، من أجل أن تكتمل لحظة الخلق في الفن التي هي حاصل الجمع بين جهد الإدراك وجهد التعبير، فالفن ليس مجرد إحساس وانفعال آني أو هوى، وان كان هذا شرطاً للفن، لكنه ليس فناً لوحده، لأن عمل الفنان أكثر تعقيدا من ذلك بكثير.فهو لا يقوم على المصادفة والعفوية وإنما يتطلب ضخامة في الجهد المطلوب لتشعب وتشابك شروط العملية الإبداعية من بناء وتركيب وتشكيل. تتألف العملية الإبداعية من عنصرين يكمل أحدهما الآخر، هما الإدراك والتعبير، أو ما يطلق عليه عالم النفس “غليفورد” بالجهد الإبداعي والنتاج الإبداعي؛ فالجهد الإبداعي يناظر الإدراك المعرفي من قبل الفنان، أي تبصره بموضوعه، أما الإنتاج الإبداعي فإنه ذلك الجانب الذي يمس الذوق العام للجمهور، لأن إنتاج الشخص الخلاق يأخذ عادة الشكل الظاهر للعمل الإبداعي، مثل الشعر، الرواية، القطعة الموسيقية، والتصوير… أما الجهد الإبداعي فهو استعداد الفرد لإنتاج أفكار أو نواتج سايكولوجية جديدة، بما فيها إنتاج الأفكار القديمة في ارتباطات جديدة.
لقد بات الإنسان، ومنذ أن وجد على ظهر البسيطة، يحث الخطى ساعياً لمعرفة نفسه وفهم قوانين الطبيعة وعللها للسيطرة عليها وتسخيرها لخدمته، فتمحور نشاط الإنسان هذا، بصورة مركزة، في ثلاث صيغ، فهناك وسيلتان يستطيع الإنسان بواسطتهما السيطرة على الواقع 1- النشاط العملي “المادي”. 2- النشاط الثقافي “النظري”. ونشاط آخر هو تغيير الإنسان بواسطة الإنسان ومن ظواهره الفن. وتغيير الإنسان بوساطة الإنسان يتمثل في النشاط الثقافي الذي تمارسه النخبة الواعية من المجتمع، وعملية التغيير الثقافي تؤدي إلى صياغة مواقف جديدة أو تكييف المواقف القائمة مع الواقع ومع الإنسان نفسه، وهذه النتائج المتوخاة من عملية التغيير تلك – بل صعوبة وتعقد العملية التغييرية ذاتها تلقي الضوء على طبيعة الفن من حيث كونه بنية مركبة ومعقدة، فالفنان يعيد إنتاج العالم في صورة فنية ويجسمها في عمل مبني من مادة خاصة على قاعدة نظام معين للاتصال الفني، وبمعونة تقنية وتكنولوجية معينة. هذا الجهد الواعي والمدروس يتطلب من الفنان أن يكون في آن واحد مخططاً وباحثاً وخبيراً ومدرساً، نظرياً وعاملاً؛ تطبيقياً مثقفاً وعاملاً يدوياً(47 ).
يمكننا التوسل بما تقدم لإلقاء الضوء على مسألة من مسائل الفن ممكن صياغتها في السؤال التالي: هل الفنان مكتشف للحقيقة أم أن الفن والأدب مجرد دعاوة، باعتبار أن الفنان ليس مكتشفاً للحقيقة بل هو الذي يوصلها إلينا ويقنعنا بها ؟. يبدو أن التفاعل مع الفن من جانب المتلقي يتعلق بمعرفة الحقيقة المعرفية والتوصل إليها بالإطلاع على العمل الفني بحسب الطريقة والأسلوب الفني الذي يسلكه الفنان لإيصال تجربته للآخرين. لكن بالنسبة للفنان ذاته، تشتمل العملية الإبداعية على محورين هما الكشف أو الإدراك ومحور التعبير أي ما يتمثل بصيغة العمل الفني المتشرب بالكشوفات المعرفية للفنان. فعلى أية حال، إن الفنان قبل العمل، يوجد لديه، على أقل تقدير، فكرة أو حقيقة أو معلومة قد آمن بها بوصفها محوراً لعمله الفني يحاول إيصاله للجمهور، إما إن الفنان قد اكتشف تلك الحقيقة أو انه تلقاها ويحاول إيصالها إلى المتلقين فنياً لإقناعهم بها، بسبب ما للفن من قوة إقناعية. إن المتلقي يقاد، دائما، بحالة من التسليم، إلى الاعتقاد بشيء ما، وهو يشبه تسليم إنسان منّوم تنويماً مغناطيسياً. إن فن التقديم يغوي القارئ، والذي نراه على الأرض، إن ما من فنان أو كاتب إلا ويتبنى رأياً أو نظرية في الحياة، وعليه يمكننا القول إن عنصر الدعاوة في الفن يعني الجهد واعياً أو غيـر واعٍ، للتأثير على القراء ليشاركوا الكاتب في موقفه تجاه الحياة، إن كل الفنانين المخلصين والمسؤولين هم ملزمون أخلاقياً بان يكونوا دعاة، وتأثير العمل دائماً هو أن “يقنع” القارئ بقبول الرأي أو النظرية( 48).
وهكذا، فان عمق الفن كمنهج لإدراك الحقيقة، هو بالنسبة للفنان، بدءاً، وسيلة للكشف، عن طريق الجهد الإبداعـي، ومن ثم هو، وباعتماد نفس المنهج الفني، طريقة لإيصال هذا الكشف إلى الآخرين بصيغة الأثر الفني بوصفه إنتاجاً إبداعياً، فالغاية من المنهج الفني في التفكير بالنسبة للفنان لا يجوز أن تتعلق بإنتاج أعمال فنية وحسب، بل يجب أن يكون رائدها الكشف عن الحقيقة ومعرفة الذات.إن توضيح الجزء غير المكشوف والقابل للكشف، مع ذلك، من ذاتنا، حيث كل جمال، وكل حب وكل ميزة لا نكاد نعرفها فينا تضيء في أعظم سطوع، هي ما يمثل الغاية الأساسية لإنتاج الأعمال الفنية.( 49).
إن الفن الجدي يتضمن نظرة إلى الحياة لها عمقها وخاصيتها وشمولها، يمكن عرضها باصطلاحات فلسفية ومنهجية. وقد قرن “أرسطو” الفن بالجد والمثابرة والتمحيص العقلي العميق، من خـلال نظريته في المحاكاة، لأن الفن لا يحاكي ما هو كائن بل ما يمكن أن يكون، ثم إن اهتمام الفن يجب أن يكون بالكلي وليس بالجزئـي، بمعنى ((وجوب أن يسقط ما يفكر به أمام ما يمكن التفكير به))( 50) ، أن يصل الفنان إلى هدفه هذا عن طريق المنهج الفني، أو الاعتماد على العقلية الشعرية، “أي بحسب منطق الفن”، وليس بالخروج إلى أسلوب الفلسفة أو الفكر المنطقي وان كان ثمة تشابه في المبتدأ والمنتهى. فبين التماسك الفني الذي يدعى أحيانا “المنطق الفني” والتماسك الفلسفي نوع من التناسب، وليس لدى الفنان المسؤول أية نية في خلط الانفعال بالتفكير، أو الحساسية بالعقل، أو إخلاص المشاعر بدقة التجربة والتأمل(51 ).
العالم الجمالي؛ ديالكتيك الجزئي والمطلق:
من هو الفنان الحق؟، هل هو رجل حالم يتسكع في ردهات الخيال تتداعى به الأحلام والأفكار بلا ضابط، فتتقاذفه مثل غريق تفترسه أمواج البحر العاتية، لا يملك حولاً ولا قوة، ولا تخطيطاً مسبقاً ولا عزماً ولا درايةً بما هو مقدم عليه من مسؤولية، دون بعد وعمق فلسفي يتيح له تفهم منابع عمله والربط بين أجزائه بالشكل الطبيعي وبما يتوافق مع شروط الجمال والحقيقة؟.
يرى “إفلاطون” أن الفنان الحق هو الذي يمتلك معرفة، لا يشوبها نقص ولا يعتريها وهن، في الفنون كوحدة شاملة، وهي الوحدة التي تنحدر عن تعقله لمثال الخير(52) ، فالفنون جميعاً تشترك في قاعدة مشتركة تتغذى عليها وتنطلق منها في نموها وتفرعها، فعلى الفنان إذا أراد أن يمتلك أو يدرك مفهوم الفن في منظور شمولي أن ينطلق من مقولة “الوحدة”، ليتمكن من الحكم على الفنون جميعاً دون استثناء باعتبار إن لكل هذه الفنون أصلاً واحداً يسبغ عليها لا خصائصها وحسب بـل وجودها أيضاً، وهو مثال الخير، فتعقل هذا المثال هو المفتاح الذي بواسطته يتسنى الولوج إلى عالم الفنون بأكمله، وهذا يقودنا إلى القول إن جمال الجزء لا يمكن معاينته أو تقديره إلا باندراجه في مهام وظيفته ضمن علاقاته مع ما يجاوره أو يشترك معه من أجزاء في تكوين الكل، ليس بصفته شيئاً جامداً، “أي الكل”، ولكـن بوصفه وحدة عضوية حية نامية مؤثرة، فانه لا جمال لجزء منفصل عن كل هو مشترك فيه، بل إن جمالية هذا الجزء رهينة بجمالية المجموع(53 ).
ويتطلب مبدأ الوحدة، أن تحدد أشعة ذلك المبدأ وخطوطه تفاصيل العمل الفني كلها، ليتسنى تحقيق الوحدة من خلال الكثرة باجتماعها أو انطلاقها من بؤرة واحدة هي بؤرة المبدأ المشترك الـذي يحكم كل علاقات العمل وبياناته. فنظرة الفنان ((ترى الكائن الواحد في مجموعه كأنه حقيقة واحدة، لا بعناصـره التي ينحل إليها ويتألف منها، ثم هي نظرة سرعان ما تهتدي إلى الوحدة(54) التي تضم شتى الكائنات في كائن واحد يطويها في ذاته فإذا هي جزء منه، فمهما يكن من أمر هذه الكثرة الكثيرة التي تراها أعيننا هنا وهناك في أرجاء المكان، فالحقيقة واحدة لا تعدد فيها))( 55).
يذهب معظم الفلاسفة والباحثين في فلسفة الفن وعلم الجمال أن الفن هو الجمال، فالجمال الحقيقي لا يتجسد إلا فـي الفن لأنه من نتاج الروح، فتبرز جمالية العمل الفني فيما يضمه من نظام واتزان وتناسق وتوازن ووحـدة في الكثرة ودقة التعبير وصدق التجربة ثم ما يتجسد في الصورة التي يبتدعها حدس الفنان، كل ذلك بحسب المنطق الفني المتأصل على عناصر الخيال والإيحاء والصورة الفنية التي تحتويها فضلاً عن التقنيات المترسخـة في تاريخ الجمالية الفنية. فالفن ((هو التعبير الجميل عن حركة الذات الإنسانية المجربة، في مواقفها الخاصة من الطبيعة والمجتمع، بوسائل اللون، واللفظ، والحركة، والشكل، والنغم))( 56).
ولما كان الفن، حسب هيجل، هو التجسيد العيني للفكرة أو المفهوم(57) ، فأنه يستوجب من الفنان، ومن خلال أثره الفني، محاولة إضفاء شيء من روحه على الأشياء الموضوعية والمحسوسة لتكون معادلاً موضوعياً لحدسه، كي تكون تلك الأشياء أقدر على النطق بتجربة الفنان ونقلها بصدق إلى الآخرين بما يضمن الاستجابة الخالصة منهم.
يعد الفن، في جهة منه، “أنسنة” للطبيعة بإضفاء طابع الروح عليها، وهو بهذا ترقي بالأشياء إلى درجة سامية، أو هو تصوير الطبيعة والسمو بها إلى مثلها الأعلى كما يؤكد “إفلاطون”. وفي تعامله مع الطبيعة والوجود، فـان الفنان لا يلتزم النقل الحرفي عنهما، لأن هكذا نقل لا يحدث إلاّ في حالتين، أن يكون الواقع الذي يتعامل معه الفنان في القمة من حيث الجمال ومن حيث تجسيده للحقيقة، أو أن يكون الفنان أجوفاً كالأنبوب الفارغ الذي لا يملك سوى تمرير ذات السائل من مكان إلى آخر؛ والحالتان ممتنعتان بالنسبة لمفهوم الفن الحقيقي، فالفن هو عملية سمو بالواقع والطبيعة إلى مرتبة عالية، وعلى الأقل إننا في الفن نضفي على الأشياء سمة روحيـة تؤدي إلى نوع من التعاطف والإلفة معها تكون مؤهلة لانبجاس النشاط الحدسي عند الفنان للكشف عـن ماهية الأشياء وحقيقتها، وهذا ما لا يمكن توفره على أرض الواقع الذي يتعلق بالمحسوس وبالإرادة والنظرة النفعية إلى الأشياء بصورة أساسية، ثم إن النقل الحرفي يعني نفي أن يكون الإنسان المعني فناناً، لأن الفنـان خالق وليس ناقلاً.فهو لا يقوم بالنقل المباشر الفج لما تلتقطه الحواس أو التصوير الفوتوغرافي لوقائع الوجود ومظاهره وان كان يلتزم التجسيد العيني للأفكار وفقا للأطر الجمالية التي يمليها منطق الفن.
لا يكون العمل الذي يستحدثه الفنان، أو الخلق الجديد، وليد الانطباعات التي استلمها الفنان من الخارج فقط، بل هو نتاج إشكالية معقدة ومتشعبة تتعلق بحقيقة التجربة ورؤية الفنان للأشياء وآليات الإدراك والحكم ونوعية النظرة الفلسفية التي يلتزمها الفنان، ثم الموروث المعرفي والنفسي الذي ترسخ في بنية الفنان العقلية والنفسية إلى غيرها من إشكاليات التجربة الفنية والإبداع. فالعمل الفني وان كانت مواده الأولية من الوجود والطبيعة لكنه في النهاية بوصفه منتجاً يختلف جذرياً عن مواده الأولية كاختلاف المواد الخام عن المواد المصنعة منها. فضلاً عن ذلك، و لأن الفن في جوهره انتقاء،فانه لا يلزم الفنان بالنقل الحرفي والالتزام بكافة تفاصيل التجربة، لأن الفنان يختار ما يتلاءم مع تجربته ونظرته للوجود وما يهدف إليه.
الأصالة الفنية؛منهجية الإدراك والتعبير:
إن أفكار الإنسان وسلوكه، أي ما يعتمل في دخيلته أو يعتقده وما يصدر عنه من عمل، أو لنقل العلاقة بيـن العلم والعمل، يؤثر أحدهما في الآخر، فالإنسان يعمل بحسب ما يعتقده، ويعتقد بالذي يعمله، وكلاهما يعزز الآخر، فالوعي النظري يزيد من زخم العمل، والانصهار في العمل يرسخ مفاهيم الأمر المعني في ذات العامل. والفن لا يخرج عن هذه العلاقة، وبالتالي يعد مؤثراً في الإنسان والوجود ومتأثراً به، مثله كمثل أي نشاط إنساني آخر.
ومادام الفن لغة خاصة للإتصال يقصدها الفرد “الفنان” لمخاطبة الآخرين والتأثير فيهم، ومادام الإبداع لا يتحقـق على أرض الواقع إلا بهذه الحركة نحو الآخر، فالفن فضلاً عن كونه وسيلة من وسائل الاتصال العامة، يعتبر طريقة للإخبار ونقل وتراكم المعرفة عبر أجيال عديدة ومتتالية. وتأتي أهمية الفن من أنه ليس وسيلة أو أداة لتوصيل المعرفة للآخرين فحسب بل هو في الدرجة الأساس، أداة ووسيلة لفهم الذات والعالم.
والفردية في الفن لا تعني أنه لا يمثل شيئاً للآخرين ولا يعكس تجاربهم، بل إن الفن وان كان نتاج ذات بعينها، ولكنها ذات إنسانية تشترك مع بني البشر في ماهية الإنسان الواحدة وجوهرها، ثم إن هذه الذات تعيش وسط مجتمع وتشترك معه في الهموم والآمال نفسها، وبذلك فأن التعبير الفردي في الفن، إن كان على مستوى من الصدق والوعي والعمق، لابد أن يكون تعبيراً جماعياً، لأن الفنان، بوصفه إنسانا، فهو فرد في جماعة بحسب ما تمليه عليه سمته الإنسانية التي تجعل منه اجتماعيا بالطبع.
فالفردية في الفن لا تنفي جماعيته، والجماعية لا تنفي ضرورة الفردية في الإبداع. ونحن نتفاعل مع آثار فنية لشعراء وفنانين طوتهم صفحات التاريخ منذ زمن بعيد، ولكننا نراهم يومياً، ونتأثر بهم لتصويرهم جوهر الرباط الإنساني بين أبناء البشر، فهم قد وظفوا أنفسهم موضوعاً لتصوير آمال الإنسان ومشاعره وهمومه وتطلعاته، من غربة ومعاناة وكبت وآلام وآمال وتطلعات… الخ. وهذه كلها تصدق على الإنسان في كل زمان ومكان، والسبب في ذلك إن أولئك الفنانين قد عاشوا تجاربهم وعانوا الحرمان وصور المعاناة فتم لهم الصدق الفني فـي أعمالهم، فتأثرنا بها رغم الهوة الزمانية. فالصدق الشعوري من أبرز ملامح جمالية الفن وسبب تأثيره الجماعي رغم أنه نتاج ذات فردية.
إن الفن والأدب اللذان عاصرا الإنسان منذ بدء وجوده على هذه الأرض، بوصفهما صورة من صور العمـل، هما من الضرورة للإنسان كونهما مصدر سحرٍ ومتعة، لا غنى للإنسان عنهما. ومهما يكن الهدف المرجو من الفن والأدب فهو في جوهره، حركة باتجاه الآخر سواء جاءت بقصد أو من غير قصد. يقول “ت. س. إليوت”:إذا سئل “موليير” أو “راسين” في القرن السابع عشر لماذا كانا يكتبان ؟ فلا شك انهما لن يجدا سوى إجابة واحدة وهي انهما كانا يكتبان لتسلية الناس المحترمين( 58). وهذا الكلام وان كان صحيحاً إلا انه ليس الصح الوحيد في ممارسة الإبداع، ففيه، “أي في الفن” عناصر أخرى وعدم ذكرها في حديثٍ مالا يعني انعدامها، ولكن “إليوت” نفسه يرجع وفي نفس المقال إلى التأكيد على وجود عنصر الكشف المعرفي في الفن، فيقول أنه فقط وبمجيء الرومانسية بدأ النظر إلى الأدب على أنه نوع من مطاردة المطلق كما نظر إلى نتائجه على انها نوع من الكشف .
ويبدو إن إقرار الرومانسية بمطاردة المطلق فنياً لا يعني انعدام التوجه إلى الآخرين في حركة الإبداع، كما إن الإقرار بعنصر إرضاء الآخرين وتسليتهم عن طريق الفن، كما في التصريح الأول “لأليوت”، لا يعني انعدام العنصر المعرفي من الفن، كما بينّا أعلاه.
وفي الفن الحديث، يتم التركيز على ركنين هامين، أولهما الفردية والإبداع، والثاني مبدأ الغموض والإيحاء، ويأتي التأكيد على هذين العنصرين بوصفهما من وجوه فردية الفن الحديث وتحرره من القيود الموروثة ؛ ولكن الحقيقة إن الفن كلما أوغل في الفردية بصدق وإخلاص مظهراً جوهر الإنسانية ومتخذاً من عناصر الجمال والصدق ديدناً، فإنه يصبح أكثر إيغالاً في الجماعة من الأعمال الساذجة الأخرى التي تدعي أنها من المجتمع وإليه، لأن مقياس الالتزام في الفن ليس إلا نوعية الحقيقة الجمالية التي يكشف عنها الأثر الفني.
الفن؛ صورة وأسطورة:
يعد الفن مع الطبيعة، أحد مظهري الجمال في الكون. لكن الفن، بوصفه نتاجاً للروح والفكر الإنساني، يعده معظم المختصين في فلسفة الفن والجمال أعلى وأكمل من جمال الطبيعة(59) ، فعلامة الفن الحقيقي هي الجمال، بل إن الفن هو الجمال، لأن الفن هو التعريف(60) الجمالي للتجربة وتقاس حقيقته وصدقه بمقدار ما يعرضه من الحقائق الجمالية، لذلك ينشأ التشابه بين الفن والجمال، لأن كليهما ((تعبير حر، وكلاهما مصدر راحة ونشاط ووحدة واكتمال في قوى النفس، فالفن الجميل والجمال واحد))( 61).
ويبقى التفكير عن طريق الصور هو جوهر الفن بوصفه منهجا متفردا في الإدراك، وانعكاساً للعالم بصيغة مجازية كونه منهجا للتعبير. لذلك، فان التصوير هو روح الفن، وخصيصته الرئيسة، وسيفقد الفن جوهره الجمالي حالما يتخلى عن الصورة سواء في الإدراك أو التعبير. ولاعتماد الفن في تصويره على عنصر الخيال، الذي يميز الفنان الأصيل لإدراك العلاقات المجازية التي يتوقف عليها بناء الصور، فان ذلك لا يعني الانفلات والعسف .هذا ما يذهب إليه “هيجل”( 62) بتأكيده انه حين قلنا، إن الفن منبعه في التخيل الحر، وأنه، بحكم ذلك، لا محدود، لم يكن في نيتنا البتة أن نعزو إلى التخيل عسفاً وحشياً واستبداداً منفلتاً، ولكن الأمر يتطلب وجود أنظمة وضوابط صارمة ومبدئية ليرتكز عليها النظام التصويري للفن، مع إفساح المجال لعنصري الحرية والإبداع، ضمن تفاصيل هذا النظام. ومن ضمن الركائز الأساسية ألا تغيب عن نظره ،أي الفن، أبداً أرفع الاهتمامات الإنسانية، كذلك فان أشكاله لا ينبغي أن تعتمد المصادفة في تنوعها، فكل مضمون يجب أن يناظره شكل يليق به، وان هذا، يؤكد هيجل، ما سيسمح لنا بأن نتلمس سبيلنا عقلانياً عبر الركام، غير القابل للتمييز ظاهرياً، من الأعمال الفنية والأشكال .
لم يدخر الفلاسفة وعلماء الجمال جهداً في البحث والدراسة لغرض التبصر بفحوى العملية الفنية، واكتشاف الآلية أو المنهج الخفي الذي يضطلع به الفنان عن طريق ممارسته الإبداعية لتحقيق عنصري أو وجهي العملية الإبداعية في الفن وهما: الإدراك والتعبير أو ما أصطلح على تسميته من قبل “كلفورد” بالجهد الإبداعي والإنتاج الإبداعي. فعن طريق الفن يتم خلـق ((الحالة الأعلى والأدق نشوة التي هي أقصى ما يتوصل إليها العقل البشري، نشوة الفن والشعر، إبداع عالم من الواقع الخيالي))( 63). فهذا المزج بين الواقع والخيال يعد من ضروريات العمل الفني، فالواقع بوصفه حالة معرفية راسخة وماهية محددة يعرض في الفن مجازيا، وكأن الفن هو، في شكل موجز، ((أسطرة للتجربة)) من خلال الصورة التي يمليها خيال الفنان المبدع. حين ننعت الفن بأنه “أسطرة التجربة” فذلك للشبه الكبير بين الخلق الفني والأسطورة، من حيث المنبع والشكل والوظيفة فالأسطورة في أحد معانيها تعني الصياغةالشعرية لفكرة أو نظرية.وهي ذات الصيغة التي يعرض بها الفنان تجربته في الأثر الفني. و كان “فلاطون”بتصويره المثل تصويرا أسطوريا إنما يوظف الأسطورة في المسائل الفلسفية. والأسطورة والفن كلاهما يبدعهما الإنسان حلاً للتساؤل الذي تثيره الدهشة الناجمة عن التأمل. ثم إن هناك تشابها بين الأسطورة والفن من حيث الشكل الفني والوظيفة الجمالية. فاساس الشكل هو الصورة المبنية على الخيال. أما الوظيفة فأن الوظيفة الجمالية للأسطورة تتمثل ((في إثارة الشعور بوحدة الوجود من ناحية، وفي تحديد العلاقة الروحية بين الإنسان والكون من ناحية اخرى، وكأنها بذلك تمثل العهد الذي يدفع الإنسان دائماً وأبداً إلى الالتزام بقدسية الرابطة الروحية والنفسية بينه وبين الحياة التي يحياها في الوجود الكلي)) (64 )وهذه السمات هي، في الصميم، ما يسعى الفن لتحقيقه جمالياً.
أن الفن ينبع من الفكرة المطلقة ذاتها، ومن التقديم الحسي للمطلق كهدف لها. فالأصل في الإبداع الفني هو الفكرة، الماهية، المعنى، والفن يعرض الفكرة كتجربة حية تترجم برموز البنية الكونية “الموضوعية” المحسوسة، بعد أن تكتشف وتترسخ في ذهن الفنان بصيغة مفاهيم وأفكار وماهيات، هذا ما يؤكده “هيجل” بقوله: محتوى الفن هو الفكرة، وشكله هو التجسيد الحي من خلال الصور، وأن على الفن أن يحوّل كلا الجانبين إلى كل تام، حر، مشبع للرغبة( 65).

هوامش :
(1) مـاهية الشيء: ما به الشيء هو هو.
– الماهية تطلق غالباً على الأمر المتعقل مثل المتعقل من الإنسان، وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي، والأمر المتعقل من حيث أنه مقول في جواب ما هو يسمى ماهية ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار هوية، ومن حيث حمل اللوازم له ذاتاً، ومن حيث يستنبط من اللفظ مدلولاً، ومن حيث أنه محل الحوادث جوهراً وعلى هذا. ((التعريفات: ص195)).
– عن أرسطو هي مطلب ما، أي: ما الشيء الذي هو موضوع العلم. ((المعجم الفلسفي: ص201)).
(2) تتناول الفلسفة موضوع الفن ضمن مبحث القيم الاكسيولوجيا الذي يعد من المباحث الأساسية في الفلسفة فضلا عن مباحث الانطولوجيا(الوجود) ونظرية المعرفة(الابستملوجيا) وفلسفة العلوم وفلسفة الدين؛ ويتصدى مبحث القيم للبحث في القيم الثلاث (الحق، الخير، الجمال) وتفرد الفلسفة لكل من هذه القيم مبحثا خاصا لتنناولها؛ فالمنطق يختص بدراسة الحق، أما فلسفة الأخلاق فتدرس الخير وأما الجمال فيكون من اختصاص مبحث فلسفة الجمال الذي ينطوي فيه، ضمنا، مبحث الفن.
( 3) مشكلة الفن- د. زكريا إبراهيم – سلسلة مشكلات فلسفية (3)، مكتبة مصر. د.ط، د.ت: ص11.
( 4) ينظر: قصة الفلسفة – و. ل. ديورانت – ترجمة: د. فتح الله محمد المشعشع – مكتبة المعارف – بيروت – ط2، 1972: ص582.
(5) معظم المهتمين بفلسفة الفن، إن لم يكن جميعهم، يستعيضون عن كلمة فن بكلمة جمال، فيتحدثون في أبحاثهم عن الجمال وهم فـي الحقيقة لا يقصدون إلا الفن، مما يؤدي إلى خلط كبير في المفاهيم وبالتالي تمويه في الحقائق، لأن الفن غير الجمال والجمال غير الفن، ولو كان باستطاعتنا القول أن كل جمال وليد فن، فليس باستطاعتنا بل من المستحيل، القول أن كل فن هو جمال …
( 6) ينظر: تربية الذوق الفني – هربرت ريد – ترجمة: يوسف ميخائيل أسعد – د.ط، د.ت: ص30.
(7) يشير صاحب المعجم الأدبي إلى ثلاثة معانٍ تندرج تحت مادة “فن” هي؛ أولاً: ما يتعلق بحرفة أو صناعة من قواعد خاصة. ثانياً: ما يتوسل به الذكاء البشري من وسائل لتحقيق نتائج تطبيقية “التقنية المتطورة”، وهذا المفهوم يتعارض مع العلم الذي يعد جهداً إنسانياً للإطلاع النظري. ثالثاً: الطاقة التي يتميز بها الإنسان الموهوب وتساعده على أن يخلق، من خلال عمله الواعي، وأحياناً اللاواعي، كائنات وأشياء لم توجدها الطبيعة، ولا يكون همّه فيها مراعاة الأخلاقية، بل يحاول توليد إحساس رهيف بالجمال. ((ينظر: المعجم الأدبي ، مادة فن.))

( 8) ينظر: الفن والمجتمع – هربرت ريد – ترجمة: فارس متري ظاهر – دار القلم – بيروت – لبنان – ط1، 1975: ص10.
( 9) ينظر: تربية الذوق الفني: ص29.
( 10) ينظر: مشكلة الفن: ص ـ ص 8ـ 9.
( 11) الأدب الثوري عبر التأريخ – محمد مفيد الشوباش – دار الهلال، القاهرة – د.ط، د.ت: ص157.
( 12) مشكلة الفن: ص16.
( 13) ينظر: سيكولوجية الابداع: ص ص 5 ـ 20.
(14 ) قصة الفلسفة: ص583، 584.
( 15) ينظر: المجمل في فلسفة الفن – بندتو كروتشه – ترجمة: سامي الدروبي – دار الفكر العربي – مصر – ط1، 1947: ص24 ـ 33.
(16) رؤيا: إدراك بصري للروحاني. والرؤيا منسوبة إلى قوة المخيلة. ((المعجم الفلسفي: ص104)).
– تمثل ما هو غير موجود على أنه موجود، وذلك عـن طريق الإحساس الرهيف، والخيال المبدع، وهي أيضاً شعور بأن المستحيل، في رأي الآخرين، ممكن التحقيق، بحيث يبرز لصاحب الرؤيا في وضوح صاعق كأنه ماثل أمام عينيه. وقد تؤدي هذه الحالة إلى تعبئة جميع القوى في تحقيق ما هو مستحيل أو معجز. وينتج عن تفرد الفنان أو الأديب بالرؤيا عن الآخرين شعور لديه بأنه كائن متميز إحساساً وفكراً، بأنه قادر على اختراق تخوم تعجز عن بلوغها المخلوقات الأخرى. ((المعجم الأدبي: ص134)).
(17) حدس Intuition: قابلية خاصة على التأمل الباطني أو حالة من الإلهام والإيحاء يتمكن المرء بواسطتها أن يتوصل إلى الحقيقة دون حاجة إلى التفكير المنطقي. تبعاً لهذا التفسير فالحدس هو القابلية على المعرفة اللاعقلية. ((مذاهب ومفاهيم في الفلسفة والإجتماع- ترجمة وتأليف: د. عبد الرزاق مسلم الماجد – المكتبة العصرية، صيدا، بيروت – د.ط، د.ت. : ص35)).
حدس: 1) استبصار: إدراك فجائي وواضح ومميز من غير اعتماد على خبرة سابقة وإستنتاج عقلي. فإحساسنا بوجودنا ككائن مفكر هو حقيقة متأتية عن الحدس. “ديكارت”.
2) إدراك يكشف لنا عن ذات الكائنات في مقابل المعرفة العقلية التي لا تعنى إلا بالعلائق بينها. وهذا هو المقصود بالكلام على حدس الفنان، أو الحدس الشعري الذي أشار إليه برغسن، وشاع في القرن العشرين. ((المعجم الأدبي: ص92)).
(18) المحاكاة: 1- تقليـد نمط سابق في الزمن/ الطبيعة. 2- وتقوم “نظرية المحاكاة”، على مبدأ محاكاة الطبيعة، لا بوصفها شكلاً، بل لما فيها من مظاهر عامة ودائمة: صالحة لكل فضاء وزمان. 3- وتطورت المحاكاة منذ أرسطو إلى الآن، لتدل على مفهوم العلاقة بين الأصل والإنتاج. ((معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص72)).
( 19) ينظر: افلاطون؛ دراسة في فكره الجمالي ـ ثامر مهدي ـ الموسوعة الصغيرة “278” ـ دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، بغداد ـ 1987، د.ط : ص ص 71 ـ 72.
(20) هذا ما يعتقده أكثر الفلاسفة والمختصين بشؤون الفن، ويرى الباحث خلاف ذلك، اذ يتنافى تفضيل الفن على الطبيعة من حيث الجمال مع الشروط المنطقية، والأمر معروض بشكل مفصل في مبحث جمال الفن وجمال الطبيعة من الفصل الخامس( الجمال والمعرفة الحسية) في هذه الدراسة.
(21 ) ينظر : النقد الجمالي وأثره في النقد العربي- روز غريب – دار العلم للملايين، لبنان- ط1، 1952. :ص12.
( 22) ينظر: فن الشعر- د. إحسان عباس – دار بيروت للطباعة والنشر – بيروت – ط2، 1959: ص43.
(23) نظرية الأدب: 1- دراسة لأصول الأدب، وفنونه ومعاييره، ومذاهبه، عبر العصور، والفضاءات. 2- “نظرية الأدب” دراسة تجريبية، ترمي إلى استخلاص القواعد العامة، وفلسفة المفاهيم، والأصول الجمالية. ((معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص219)).
= ينظر: فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة : ص ـ ص162ـ172.
( 24)ينظر: الفن والمجتمع :ص25.
= ينظر: المصدر نفسه: ص51.
( 25) الصورة الأدبية- د. مصطفى ناصف – دار مصر للطباعة، مكتبة مصر – ط1، 1958. : ص6.
( 26) الأدب الثوري عبر التاريخ: ص157.
( 27) ينظر: مقالات في النقد الأدبي- د. محمود السّمرة – دار الثقافة، بيروت – د.ط، د.ت. : ص72.
(28) ثمة سمات مشتركة بين الأسطورة والإبداع الفني وبالأخص من حيث شروط الشكل الفني والوظيفة الجمالية سنعرض لها بشكل أكثر تفصيلاً تحت مفهوم “أسطرة التجربة”:في طبيعة الفن(الفصل الثالث من هذه الدراسة).
( 29) الفن والمجتمع: ص12.
( 30) البيلوجي والإجتماعي في الإبداع الفني؛ مجموعة مقالات مترجمة عن الإنكليزية- ترجمة: محمد سعيد مضيّة – دار ابن رشد للنشر والتوزيع، عمان، الأردن- ط1، 1986. : ص31.
(31) الاستبطان: “العملية التي بها تشاهد الذات ما يجري في الذهن من شعوريات بقصد وصفها لا تأويلها”. ((المعجم الفلسفي: ص12)).
– من مصطلحات الفلسفة وعلم النفس، ومدلوله أن تعي الذات باطنها لتقدير ضميرها في حد ذاته بصفة نوعية أو لتقدير الضمير الإنساني عامة عبر الشعور بالضمير الفردي. ((الأسلوبية والأسلوب: ص142)).
( 32) البيلوجي والاجتماعي في الإبداع الفني: ص33.
( 33)ينظر:مشكلة الفن: ص19.
( 34) ينظر: في الأدب الفلسفي: ص ص60-61.
( 35) دراسات في علم النفس الأدبي ـ حامد عبد القادر – المطبعة النموذجية- القاهرة – د.ط، د.ت: ص16.
( 36) في الشعر والنثر- د. حسن محسن – مكتبة الفلاح – الكويت. ط1، 1979.: ص7.
( 37) نظرية النقد الأدبي الحديث، د. يوسف نور عوض، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1994: ص33.
( 38) ينظر: مذاهب ومفاهيم في الفلسفة والاجتماع: ص130.
(39) عقلن يعقلـن عقلنة: صيغة فعلية مشتقة من الاسم بالوضع الأول، ويعني فعل “عقلن” سَعْي الإنسان إلى تفسير الظاهرة المقررة لديه باستنباط أسبابها وعلل وجودها ومحركات صيرورتها، والعقلانية مذهب فلسفي ينفي أصحابه عفوية وجود أي ظاهرة في الكون. ((الأسلوبية والأسلوب: ص180)).
(40) يرى آرسطو ان المحاكاة والإيقاع هما المنبعان اللذان استمد منهما الشعر نشأته ؛المحاكاة غريزة إنسانية وباعثة على اللذة والتعلم ،والوزن نزع من الإيقاع.
( 41) ينظر: فن المسرحية؛ مع تلخيص حديث لكتاب الشعر لأرسططاليس – عدنان بن ذريل – دار الفكر، دمشق – 1963،د.ط. : ص121.
( 42) المدخل إلى علم الجمال – هيجل – ترجمة: جورج طرابيشي – دار الطليعة، بيروت – ط1، 1978: ص2،14، 23.
( 43) ينظر:موجز تاريخ النظريات الجمالية: ص280.
( 44) ينظر: البيلوجي والاجتماعي في الإبداع الفني: ص16 .
( 45) ينظر:البيلوجي والاجتماعي في الابداع: ص 5، 11، 12.
( 46) ينظر:نظرية الأدب: ص40.
( 47) ينظر: بيانات السوريالية: ص130.
( 48) بيانات السوريالية: ص148.
( 49) نظرية الأدب: ص41.
(50) يقول “أفلاطون”: وعلى ذلك فان ما يضفي الحقيقة على موضوعات المعرفة، وما يضفي ملكة المعرفة على المعارف، هو مثال الخير، فهو علة العلم والحقيقة… ويضيف: ((إن الأشياء المعقولة لا تستمد من الخير قابليتها لأن تعرف فحسب، بل هي تدين له، على الأصح، بوجودها وماهيتها، وإن لم يكن الخير ذاته وجوداً، وإنما هو شيء يفوق الوجود قوة وجلالاً)). وبهذا المعنى يكون مثال الخير عند أفلاطون هو أقرب الأفكار لديه إلى معنى كلمة “الله” كما يفهمها الإنسان الحديث.. ((أفلاطون؛ دراسة في فكره الجمالي: ص ص 21-23)).
( 51)ينظر: أفلاطون؛ دراسة في فكره الجمالي: ص50 ـ 51 .
(52) من منطلق الوحدة العميقة التي يراها”جويو”بين الدين والحياة والمجتمع والاخلاق والفن ،يرى ان الفن العظيم اجتماعي في طبيعته، لانه قادر على تجلية تلك الوحدة.
( 53) الشرق الفنان: ص23.
( 54) الفن والأدب: ص ص35-36.
(55) المفهوم: تفرقت فيـه المذاهب شعباً ثلاث: أ- مفهوم حاسم: هـو جملة الصفات التي تكفي لتعريف لفظ ما. فمثلاً مفهوم كلمة إنسان هو الحياة والنطق. ب- مفهوم متضمن: هو جملة الخواطر التي يثيرها استخدام اللفظ مضافاً إليها المعاني التي
تلزم عنها “عن هذه الصفات” لزوماً منطقياً. ج- مفهوم ذاتي: هو جملة الخواطر التي يثيرها استخدام لفظ ما عند الفرد أو عند جماعة بالذات، أي أن كل ما يرتبط باللفظ في الذهن داخل في معناها. ((المعجم الفلسفي: ص222)).
( 56) ينظر:فائدة الشعر وفائدة النقد – ت. س. إليوت-ترجمة وتقديم: د.يوسف نور عوض- مراجعة: د. جعفر هادي حسن- دار القلم، بيروت، لبنان-ط1- د.ت: ص 124.
(57) قد يكون اعتبار جمال الفن أفضل من جمال الطبيعة فيه شيء من التعسف، لسببين:
أولاً- على الرغم من ان كل جمال لابد أن يأتي عن فن إلا انه ليس بالضرورة أن يكون كل فن جميل.
ثانياً- ان كل الأدلة الرئيسية التي ساقها المعنيون لتبرير أفضلية الجمال الفني لا تصمد أمام البرهان العقلي، والأمر موضح بالتفصيل في مبحث جمال الفن وجمال الطبيعة في الفصل الخامس من هذه الدراسة.
(58 التعريف: عند أرسطو “هو القول الدال على ماهية الشيء”. ((المعجم الفلسفي: ص57)).
“هو إعطاء هوية لكائن”. ((معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص149).
– عبارة عن ذكر شيء تستلزم معرفته معرفة شيء آخر. ((التعريفات: ص62)).
( 59) النقد الجمالي: ص38.
( 60)ينظر: المدخل إلى علم الجمال: ص82 ـ 83.
( 61) الفن والمجتمع: ص191.
(62 ) الأسطورة: ص ص 25 ـ 26.
( 63) ينظر: جماليات الصورة الفنية- ميخائيل أوفيانيكوف وميخائيل خرابشنكو – ترجمة: رضا الظاهر- دار الهمداني للطباعة والنشر، عدن – ط1، 1984. : ص26.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *